فيكتوريا الحمصي: المناضلة الحاضرة الغائبة

المرحومة فيكتوريا الحمصي، التي عرفتها شخصيًا في بلد مسقط رأسي، شفاعمرو، ليست قضية فردية، إنها قضية شعب بأكمله، الشعب الفلسطيني، الذي اُقتلع من بيته وأرضه وأعماله ليعيش بالغربة. وبالرغم من حالة المرحومة فيكتوريا الحمصي.

فيكتوريا الحمصي: المناضلة الحاضرة الغائبة

المرحومة فيكتوريا الحمصي، التي عرفتها شخصيًا في بلد مسقط رأسي، شفاعمرو، ليست قضية فردية، إنها قضية شعب بأكمله، الشعب الفلسطيني، الذي اُقتلع من بيته وأرضه وأعماله ليعيش بالغربة. وبالرغم من حالة المرحومة فيكتوريا الحمصي، التي حظيت بتصريح بالعودة بعد جهود ابنها متري إسبير، من مدينة شفاعمرو، إلا أنها، وبالرغم من ذلك، بقيت تعتبر في قوانين الدولة 'غائبة' لتبقى أملاكها ملكًا للدولة، وخاصّة الفندق العربي في شارع المحطة بمدينة يافا الذي يحتفظ أحفادها بمفاتيح بابه حتى اليوم.

لقد كانت امرأة متميزة بحديثها ولباسها ومظهرها وكان من السهل ملاحظة هذا الاختلاف. تعرفت على المرحومة معرفةً سطحية، إذ كنت صغيرة السن عندما حضرت إلى شفاعمرو، وبعدها انتقلت أنا وزوجي للسكن في يافا. ولكن لا زلت أذكر جمالها وكلامهاـ إذ كانت جارة لنا تقيم في بيت ابنها، وهي تتكلم معنا نحن الصغار الذين كنا مبهورين بجمالها ومظهرها وحسن معاملتها. يبدو أن الحياة الصعبة التي كانت من نصيبها ومن نصيب الفلسطينيين الذين تركوا بيوتهم ووطنهم قسرًا وقهرًا وعانوا من صعاب الحياة في الدول العربية لم تغير ملامح شخصيتها أو جمالها.

 فيكتوريا الحمصي تمثل النكبة الفلسطينية بكل حذافيرهاـ فمن ماضٍ حافل في مدينة يافا عروس فلسطين، تمتلك به فندقًا قامت بإدارته مع شريك ثم لوحدها، إلى حياة لجوء وتشريد في الدول العربية. أقامت المرحومة في الأردن حتى بضع أشهر قبل حرب 1967، حيث سمح لها بالعودة لتقيم بقية سنين عمرها في مدينة شفاعمرو. حقًا إنها كانت محظوظة بهذه العودة، التي لم يحظَ بها إلا قلائل من اللاجئين الفلسطينيين.

 لقد كانت المرحومة من النساء الفلسطينيات اللواتي كافحن إلى جانب الرجال لمحاربة الاستعمار البريطاني. ولكن، للأسف، الكثير من التاريخ النضالي النسائي لا يزال مهمشًا. على سبيل المثال، جمعية لم يُسمع عنها تقريبا ولا حتى اسمها: 'زهرة الأقحوان'. وهي جمعية عسكرية نسائية مقاومة في يافا (نشرت عنها في يوم المرأة بتاريخ 2016/3/8).

كتبت المرحومة فيكتوريا رسالة مؤرخة بتاريخ 1940/2/11 في إحدى الوثائق المحفوظة في أرشيف الهاغاناة -ملف 17/عام/8 صفحة 5- 544، تفيد بها أنها قامت بمهمة مراقبة تحركات القوات البريطانية، التي كانت ترابط في الجبهة الجنوبية من البلاد. لقد تم تزويدها بمستند مزيف من دائرة الأشغال العامة في قلقيلية، يفيد بأنها تعمل في الدائرة لمدة تصل الثماني سنوات وبأن الدائرة أرسلتها لمراقبة سير أعمال الدائرة هناك. المهمة، بالأساس، كانت مهمة تجسس على القوات البريطانية التي رابطت على حدود غزة، وكانت في حالة تأهب تام بسبب فتوحات دول المحور شمالي أفريقيا برئاسة ألمانيّةٍ ونواياهم بالتوسع لاحتلال شماليّ أفريقيا ومن البديهي أن يصل طموحهم إلى فلسطين، أيضًا، بعد احتلال مصر. ولذا، كانت القوات البريطانية تراقب تطورات الأحداث شماليّ أفريقيا وكذلك الفلسطينيون، الذين أمِلوا أن تنقذهم ألمانيا من وطأة الاستعمار البريطاني. ومن هنا المقولة المعروفة لدى أبناء شعبنا خاصة المتقدمين بالعمر 'عَجّل يا رومل عجّل'، رومل كان قائد القوات الألمانية ودول المحور.

أفادت المرحومة مُرسِليها بأخبار هامة بأن القوات البريطانية تقيم خط دفاع على الحدود في منطقة العقبة يشبه خط ماجينو في فرنسا، الذي بدأ بناؤه الفعلي سنة 1930، حيث سبقته سنين طويلة من الدراسة والتخطيط. وبأن إجراءات تحسين وتجديد الشارع الذي يصل منطقة غزة والعقبة تسير على قدم وساق ليل نهار. خبر إضافي نقلته المرحومة، هو أنه أُقيمت وحدة قوات عسكرية من فلسطينيين وأردنيين وأن قائدًا عامًا للقوات المسلحة قد عيّن، هو ابن الأمير عبد الله ، وتضيف المرحومة في الرسالة 'الأمر الأهم هو أنه تم تعيين قائد بريطاني بمنصب أعلى، وظيفته الإشراف على ابن الأمير'.

يلفت النظر من ما كتب أعلاه، أولًا أن الجملة الأخيرة فعلًا مهمة، وبها وصف حقيقي لاستعباد وإخضاع الاستعمار البريطاني للدول المستعمَرة إذ أنه في نهاية المطاف هو الآمر الناهي. ثانيًا أن المرحومة على اطلاع واسع ومعرفة لما يجري حولها، مثل وصف خط الدفاع الذي تبنيه القوات العسكرية البريطانية من العقبة حتى غزة كخط ماجينو في فرنسا.

ثالثًا يلفت النظر، إضافة لما جاء أعلاه، تعبير المرحومة في نهاية ما كتبت عن حزنها وغضبها وسخطها من قرار المحكمة العسكرية في القدس، بإصدار حكم بإعدام ستة من الثوار من مدينة اللد، إضافة إلى إصدار حكم بإعدام ثلاثة آخرين بدون أن تعرفهم، حيث لم تذكر ذلك. هذه المشاعر تعبر عن حس ووعي وطني صادق.

هذا وتشير المرحومة فيكتوريا الحمصي إلى أن الكثير من معارفها تعرضوا للسجن والملاحقة وإلى أنأنها هي ذاتها قد تم استجوابها، إلا أنه أُفرج عنها بعد أن أنكرت أي اتصال بأيّة جمعية تحارب الاستعمار البريطاني. بعد هذه الملاحقات، نقلت مجموعتها نشاطها المضاد للقوات البريطانية من يافا إلى بيت دجن وهي قرية صغيرة تقع قرب مدينة يافا.

ونهاية، لقد خاب أمل المرحومة والكثير من الفلسطينيين الذين انتظروا ألمانيا ورومل لإنقاذهم من البريطانيين، حيث أن رومل دُحر في حرب العلمين سنة 1942 ولم يستطع احتلال مصر وبالتالي الوصول إلى فلسطين.

التعليقات