عندما يكون الألم وقودًا للفن

لم يكن غريبًا في تاريخ الفنون أن يكون لكل فنان اشتهر بإبداعه الإنساني ألمه الخاص أو مرضه النادر، حيث عرف عن بعض المبدعين أنهم غريبو الأطوار

عندما يكون الألم وقودًا للفن

الفن والمعاناة وجهان لنفس العملة، فالفنان الحقيقي يجد نفسه منغمسًا في هموم ذاتية وعامة يتألم لها وبها، ثم يعبّر عن هذه الهموم والمعاناة من خلال إبداعه، سواء كان الإبداع مكتوبًا مثل رواية أو قصة أو شعر، أو إبداعًا مسموعًا ومرئيًا مثل السينما والدراما، أو حتى لوحات للفن التشكيلي والتكوينات الفنية، لكن المعاناة النفسية هي الوقود الذي يدفع المبدع لأن يقدم للبشرية صورا غير مسبوقة من الإبداع الإنساني، لدرجة أن بعض مدارس التحليل النفسي تربط بين الإبداع وبين المرض النفسي، حيث يؤكد الكثيرون من الأطباء وعلماء علم النفس أن الشخص المبدع سواء كان كاتبا أو رساما أو موسيقيا، يكون أكثر عرضة من غيره للإصابة بالمرض النفسي، نظرا لأن مثل هذا المبدع يكون أكثر حساسية لما يدور حوله من صراعات سياسية أو اجتماعية.

وعلى نفس الصعيد، فإن معاناة الفنان خلال عملية الإبداع هي التي تصهر جهود الفنان ليخرج فنه للناس معبرًا عن رؤية إبداعية خاصة به، وكأن المعاناة والألم هما النار التي تصهر أفكار الفنان أو المبدع لتخرج سبيكة الذهب في نهاية المطاف للمتلقي أو القارئ أو المشاهد.

ولم يكن غريبًا في تاريخ الفنون أن يكون لكل فنان اشتهر بإبداعه الإنساني ألمه الخاص أو مرضه النادر، حيث عرف عن بعض المبدعين أنهم غريبو الأطوار، لدرجة أن الآخرين ممن لا يدركون عناصر العملية الإبداعية يعتبرون مثل هؤلاء المبدعين من المرضى النفسيين بسبب اختلاف طباعهم وسلوكهم العام عن طباع وسلوك الآخرين الذين يشاركونهم الحياة من حولهم.

بخلاف ذلك، فإن ما يتعرّض له الفنان أو المبدع من معاناة يومية لتفاعله مع الشأن العام بطريقة تختلف عن تفاعل وتعاطي الشخص العادي تجعل هذا المبدع معرضا باستمرار للمرض النفسي وللعوارض النفسية، مثل الاكتئاب والعزلة والتذمر ممن يحيطون به، على اعتبار أن من يحيطون به هم جزء من الوضع العام السائد في المجتمع الذي يرفض المثقف بصفة عامة أن يقبل ما يسوده من علاقات سياسية أو اجتماعية يعتبرها المثقف علاقات مختلة ويرفض أن يتقبلها، مما يزيد من حالة العزلة النفسية والشعورية التي يعيش فيها المبدع، وحيث تؤدي هذه العزلة النفسية والشعورية لزيادة احتمالات تعرض المثقف للمرض النفسي.

تجارب شعورية

د. صادق حلمي، استشاري الطب النفسي يؤكد ما سبق قائلا: الإنسان العادي الذي لا يعاني أدنى معاناة، لا يمكن أن يعطي فنا أو إحساسا فنيا يعبّر به عن تجربته، كما أن مثل هذا الشخص الذي يفتقد للإحساس بالمعاناة وفقا لما يمر به المجتمع الذي يعيش فيه، وليس لديه أي استعداد للتجاوب مع تجربة الآخرين الذين يعيشون حوله أو يشاركون العيش المشترك، أما من يحمل روح الفنان ففي استطاعته أن يعبّر عن أحاسيس الآخرين، ويصوّر تجاربهم الشعورية بشكل حقيقي، لتصل بسرعة فائقة إلى قلوب مستمعيها أو المتلقي بشكل عام، طالما أن هذا الفنان قادر من خلال مقاربته الشخصية على أن يشعر بمعاناة من يكتب عنهم، بل وأن يعاني هو نفسه لمعاناتهم، فضلًا عن معاناته الذاتية نتيجة ظروف شخصية أو موضوعية قد تحيط به، سواء كانت هذه الظروف دائمة أو مؤقتة.

ويوضح د. صادق ، أن هناك فنانون عالميون مصابون بأمراض نفسية، إذا تمّ علاجهم فقدوا الحاسة الفنية التي يتمتعون بها، وذلك إذا قام الطبيب بمعالجتهم باعتبارهم مرضى نفسيين، فإنهم سيخسرون أنفسهم كفنانين ويتجردون من الخيط الرفيع الذي يربط بينهم وبين الفن، وهذا الخيط الرفيع هو النقطة الفاصلة بين الفنان الموهوب والإنسان العادي الذي لا يُعاني معاناة ذاتية، أو يتفاعل مع معاناة من حوله، وبالتالي فلا يمكن لهذا الشخص الذي يفتقر لهذه المعاناة أن ينتج فنًا أو إبداعًا.

حافز الإبداع

ومن ناحيته، يسرد د. فكري عبدالعزيز، استشاري الأمراض ، قصة حقيقية تعرض لها هو نفسه في هذا الصدد، فيقول: إن أحد الكتاب الكبار أصيب بمرض نفسي، وعندما توجه للعلاج رفض الطبيب المعالج علاجه، وجاء رفض الطبيب النفسي علاج هذا الكاتب الكبير بعد أن عقد له مجلس طبي من كبار الأطباء النفسيين لتقرير حالته، وكان مبرر رفض الطبيب علاج هذا الكاتب هو خوف الطبيب من أن يؤدي علاج هذا الكاتب لشكل من أشكال فقدانه شعرة الفن التي تربطه بعالمه، إذا ما تمت معالجته كمريض نفسي وليس كفنان مبدع، وكان قرار المجلس الطبي هو رفض علاج هذا الكاتب انطلاقا من هذا على هذا الأساس، حيث تذكروا تجربة سابقة لأحد الأدباء العالميين وكان يُعاني من نفس المرض، وبعد علاجه من خلال جلسات العلاج الطبيعي وجلسات الكهرباء، أفقدته هذه الجلسات الجزئية الهامة في خلايا المخ، والتي كانت تحفزه على الإبداع، وخرج بعدها الأديب العالمي سليم النفس، إلا أنه فقد عرشه الأدبي بعد العلاج، واضمحل إنتاجه وتراجع كثيرًا، وهبط إلى مرتبة الإنسان العادي، وبعد عرض هذه التجربة على الأديب المصري رفض العلاج، وتقبّل معايشته للمرض النفسي حتى لا يفقد قدرته على الإبداع .

ويشير د. عبدالعزيز إلى أن هناك العديد من الفنانين العالميين، مثل موزار وروسيتي وشوبان، كانوا مصابين أيضًا بمرض الاكتئاب العقلي الذهاني، ولذا يجب أن نوضح الفرق بين المرض النفسي والمرض العقلي، فالمرض العقلي يُعاني فيه المرض من انفصام تام عن الواقع، فهو لا يرى نفسه مريضًا، لأنه انفصل عن واقعنا، فلذلك يكون له رؤاه الخاصة، ومن أجل ذلك أيضًا فهو يبدع وينتج فنًا رائعًا راقيًا.

اقرأ/ي أيضًا| فيكتوريا الحمصي: المناضلة الحاضرة الغائبة

التعليقات