حاشية عن غادة السّمان

لا تتعلق المسألة بافتراءٍ في الإنترنت، كما أمرُ محمود عباس مع الفتى الذي أتقن حيلته إلى حد كبير، وإنما تتعلق، في شأن الذي جرى مع غادة السمان، بأن الكاتبة التي نحترم، والتي نمحضها الإعجاب الذي تستحقّ منذ عقود، لم تكتب بعد ما نشتهي (أو نرغب

حاشية عن غادة السّمان

تنتشر في 'فيسبوك' صورةُ صفحةٍ من كتابٍ، فيها أنشودة كتبت بحروف كبيرة، في حب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومديح عطاءاته وبطولاته، ويُكتب إن الكتاب مقرّرٌ في منهجٍ في الابتدائية في مدارس السلطة الفلسطينية. تروج الصورة والأنشودة بعض الوقت، ومعهما استنكار هذا البؤس، ويتم لعن 'سنسفيل' عباس وسلطته ووزارة التربية والتعليم التي تتبعه. ثم يتبيّن أن الأمر غير صحيح، وأن فتىً أقدم على افتعال هذه الفرية باحتراف، ثم لا أحد يعتذر عن تشنيعه على عباس البريء.

أخذت هذه الحكاية ساعاتٍ فقط. أما ما جرى بشأن الكاتبة السورية، غادة السمان، فقد أخذ وقتاً أطول، قبل أن تعقّب وتوضح وتنفي. بأناقةٍ وحذاقةٍ طبعاً، وهي الكاتبة القديرة والكبيرة حقاً، ودائماً. كان الأمر مثيراً، وتورّط غير قليلين في تصديقه. موجزُه أن نصّاً قصيرا ركيكاً نُشر منسوباً إلى الكاتبة المعروفة، يسخر من اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم نظام الأسد، ويتهمهم بقبض الدولارات. ذاع هذا، واعتبر بعضُنا أن غادة السمان تخرج فيه، أخيراً، عن صمتها بشأن الجاري في بلادها، ثم يتبيّن أن هذا التخريف، في أصله، لكاتبةٍ سوريةٍ، هي غادا فؤاد السمان، إلا أن محرّراً نحريراً أجراه على قلم صاحبة 'كوابيس بيروت'. 

للإنترنت، إذن، مضارّه أيضاً، تندسّ بين منافعه التي بلا عدد. في وسع من يريد أن يستبيح فيه من يشاء وكما يشاء. وقد كتبت غادة السمان أن زميلاً في 'القدس العربي'، الصحيفة التي نشرت فيها توضيحها، و'نصائحها' إلى منتحلي أبجديتها، بتعبيرها الأنيق، هو من نبّهها إلى هذا الاعتداء على اسمها. ولكن، في الوسع أن يُعْذر بعض من جاء إلى مداركهم أن صاحبة 'عيناك قدري' هي من كتبت ذلك الكلام المشين، وإنْ تفضح ركاكُته مستوى من كتبه، والذي لا صلة له بلغة غادة السمان وأناقة جملتها ورهافة 'أبجديتها'، ذلك أن شيئاً من الاستسلام للشبكة العنكبوتية صار شائعاً، عند كثيرين، ألا يتم في أثنائه تثبّتٌ مما يختلط فيه الصحيح مع غير الصحيح. 

هذه مناسبةٌ، غير سعيدة طبعاً، للطلب من كاتبتنا التي نحترم ونقدّر أن يصير صوتها أوضح (وأعلى؟) في شأن التمويت الحادث في سورية. ولا يتم الجهر بهذا الطلب، هنا، صدوراً عن نزوعٍ إلى تعليم أيٍّ كان ما عليه أن يكتب، وما عليه ألا يكتب. لا، إنما هي الحاجة، في أتون المحنة السورية التي لا يُراد لها أن تتوقّف، لأن نقرأ، نحن قرّاء غادة السمان منذ الدهشة التي غشيتنا، لمّا أوقعت فينا لغتها، وهي كاتبتنا الأثيرة، حباً خاصاً فينا لها، وقد ضربتنا بالحرارة النابضة فيها بالجرأة، والمحتفلة بالحرية، والمجنونة بالحياة، أن نقرأ لها عن الألم السوري الراهن، وعن طواحين الموت هناك، ما نعتقد أن من الملحّ أن تكتبه، ليأخذ مطرحه في مدوّنة هذا الألم وسرديّته. 

لا تحتاج غادة السّمان إلى معرفة 'ما يطلبه الجمهور'، وإنما الاستباحة التافهة التي تعرّضت لها ما كان لمن افتعلها أن يُقدم على ارتكابها، من غير إتقان، لولا أن أرشيف الكاتبة فقيرٌ في المتحدّث عنه هنا، وهو الوفيرُ طبعاً في حبّ الشعب السوري العظيم، قبل أن يُبتلى بالجحيم الذي يُغالبه، ويواجهه وحده، من دون غوثٍ أو إسعاف. ولا يُجيز صاحب هذه الكلمات لنفسه، هنا، أن يُعْلم غادة السمان (تحديداً) بأنه لا غضاضة في أن يُطالَب كتّاب الآداب ومبدعو الفنون، في حالة الطوارئ القصوى التي تعبر فيها شعوبهم، بمقادير من التعبير عن حالها هذا. ولكنْ، جاءت واقعة الانتحال، المغرضة الخائبة، لتنبّه إلى أن غادة السمان، في غضون المحنة السورية الراهنة، لم تكتب ما انتظرنا (أو توقعنا؟) أن نقرأ لها. 

لا تتعلق المسألة بافتراءٍ في الإنترنت، كما أمرُ محمود عباس مع الفتى الذي أتقن حيلته إلى حد كبير، وإنما تتعلق، في شأن الذي جرى مع غادة السمان، بأن الكاتبة التي نحترم، والتي نمحضها الإعجاب الذي تستحقّ منذ عقود، لم تكتب بعد ما نشتهي (أو نرغب؟) أن تكتبه عن الملحمة السورية الباهظة الماثلة قدّامنا. ولا نظن أن ثمّة خطأً في هذه الصراحة المحبّة، والمرجو أن يتم استقبالها بغير افتراض أستذةٍ، يزاولها، هنا، كاتب هذه السطور (وغيره ممن يرون رأيه). ولا نظنّنا نخطئ، حين ننتظر نص غادة السمان السوري المشتهى.

إقرأ/ي أيضًا | "طالعلك يا عدوي طالع"

(العربي الجديد)

التعليقات