التربية لفلسطين الجديدة: بحثا عن الوطن المفقود

تَرمي هذه المداخلة إلى تحديدِ أهم المعيقات التي من شأنها تجزئة التجربة الفلسطينية وتكريس مخيلةٍ منكفئة على خصوصيتها وقاصرةٍ عن تصور ذات جمعية فلسطينية مُتسقة وشاملة من حيث روايتها التاريخية وتصوراتها المستقبلية. وتحديدًا، تتمركزُ هذه المد

التربية لفلسطين الجديدة: بحثا عن الوطن المفقود

افتتاح العام الدراسي في غزة، نهاية آب/ أغسطس الماضي (رويترز)

التربية التقليدية، التلقينية و'البَنكية'، لن يكون بإمكانها أن تكون تربيةً للتحرر: تربية لفلسطين الجديدة. هذه التربية الأخيرة هي تربيةٌ لمقاومة المعرفة الرسمية للسلطة، أي سلطة كانت، وخصوصاً سلطة الاحتلال


تَرمي هذه المداخلة إلى تحديدِ أهم المعيقات التي من شأنها تجزئة التجربة الفلسطينية وتكريس مخيلةٍ منكفئة على خصوصيتها وقاصرةٍ عن تصور ذات جمعية فلسطينية مُتسقة وشاملة من حيث روايتها التاريخية وتصوراتها المستقبلية. وتحديدًا، تتمركزُ هذه المداخلة في نظام التعليم الرسمي بين الفلسطينيين في مناطق 48 سعيًا لتعيين المعيقات التربوية في بُنية هذا النظام وسياساته التعليمية وتوجهاته القيّمية.

تَدّعي هذه المداخلة أن هذه المعيقات تَأسر وعي الطالب والمعلم والمؤسسات ضمن حُدود التجارب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للفلسطينيين في مناطق 48 وتبقيه مُنشغلًا في خصوصية مُشوهة تتبنى كثيرًا من مفردات خِطاب 'الأسرلة'، ومتعالقًا مع أخلاقيات الفِردانية الشَرسة ضمن ما يَفرضه النظام النيو- ليبرالي الإسرائيلي من أفكار الخلاص الشخصي والنفعية وضرورة إبقاء التعليم في دائرة من المعايير الحِرفية والممارسات المهنية التي تَطرد من مَركزها كلَّ ما هو سياسي ومجتمعي وبالتالي كل ما هو نقدي وسِجالي.

د. اغبارية

أيضًا، تدعي هذه المداخلة أن قبول المشاريع السياسية الفلسطينية الرئيسية في ممارستها السياسية على الأقل بواقع التجزئة وغياب مشروع ثقافي شامل للحركة الوطنية الفلسطينية، لدى الداعين والرافضين لهذه التجزئة على حدٍ سَواء، يساهمان بتكريس خصوصية فلسطينيي 48  وتمظهُرها وعيًا منقوصًا وغيرَ قادرٍ على التواصل مع التجارب الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات اللاجئين والشتات. هذه الخصوصية تُحيل السؤال 'ماذا يعني أن تكون فلسطينيًا؟' إلى حيز اللّامفكر فيه، أو في أحسن حال إلى إجابات حدودها جغرافيا وتجارب وتاريخ فلسطينيي 48 بصفتهم مواطني إسرائيل. في هذا السياق، تُصبح المواطنة ليس فقط إطاراً سياسياً ناظمًا للحقوق والواجبات والتراتبيات العنصرية في إسرائيل، بل أيضًا بيداغوجياً ترسم للفلسطيني حدود انتماءاته وتتفاعلُ مع قوميته من خلال القبول به 'عربيًا إسرائيليًا' وإنكارِ فلسطينيته.

المعيقات التربوية أمام المشروع الوطني

تُسمي المداخلة ستة معيقات تربوية أمام تعزيز دور فلسطينيي 48 في المشروع الوطني:

أولًا، المكانة القانونية والمبنى التنظيمي للتعليم العربي اللذان يكرسان تبعيته لأهداف التعليم العبري في إسرائيل وعجزه عن تطوير أجندة وطنية مستقلة. أضف إلى ذلك، المكانة القانونية والمبنى التنظيمي للتعليم العربي يسهمان في تفتيت الهوية الفلسطينية الجامعة إلى هُويات طائفية وجهوية بواسطة أجهزة إدارية ومناهج تعليم منفصلة تعمق التجزئة بين المسلمين والمسيحيين والدروز، وتحاول اختلاق هويات إثنية جديدة للفلسطينيين البدو والفلسطينيين الدروز.

 في هذ السياق من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن قانون التعليم الرسمي لسنة 1953 والذي تم تعديله في سنة 2000 يحدد أهداف التربية في إسرائيل ويُرسّم مبنى جهاز التعليم الرسّمي. هذا القانون يؤكد يهودية الدولة (البند 2.1) وأهمية تدريس تاريخ 'دولة إسرائيل' و'أرض إسرئيل' بمعناها التوراتي وتراث الشعب اليهودي، والوعي بالهولوكوست (البندان 2.3 و2.4). كما يدعو القانون (البند 2.11) إلى التعرف على اللغة والثقافة والتاريخ لدى 'السكان العرب' والمجموعات الأخرى. وفي حين يستخدم القانون لغة قوية تدعو لـ'التدريس' و'الغرس' و'التأسيس' و'التقوية' في كل ما يتعلق بيهودية الدولة، تظل اللغة في ما يتعلق بـ'السكان العرب' لغة رخوةً تدعو لـ'التعرف' ليس أكثر. من نافل القول إن هذا 'التعرف' يأتي ضمن فرض إسرائيل كـ'دولة يهودية وديمقراطية' إطارًا ناظمًا لعلاقات القوة بين الفلسطينيين واليهود القائمة على ترسيخ دُونية الفلسطينيين وتبعيتهم.

ملاحظة أخيرة، القانون بنسخته المعدلة في سنة 2000 لم يغيرْ في المبنى الإداري لجهاز التربية والتعليم. هذا المبنى يعطي استقلالية ثقافية وإدارية للتعليم الرسمي الديني، والقومي- الديني، في ما يخص تحديد مناهجهما وطواقمهما التدريسية ويبقي التعليم العربي مهمشًا ضمن ما يسمى 'مديرية التعليم الرسمي في وزارة التربية والتعليم'. هذا التهميش له تجليات واضحة في كلّ ما يتعلق بالتمييز في تخصيص الموارد والميزانيات، وبالمشاركة الشكلية للقيادات التربوية العربية في صناعة القرارات والسياسات المتعلقة بالتعليم العربي.

ثانيًا، مناهج التعليم والكتب التدريسية موجهة لإنكار الهوية الفلسطينية من خلال اعتماد ونشر رواية تاريخية تغيب فلسطين وطنًا ووعيًا كما نظّر إدوارد سعيد، وتعطي المشروعية التاريخية والمصداقية الأخلاقية للمشروع الصهيوني في فلسطين. في هذا السياق يتم أيضًا، تفريغُ الهُويات الدينية من طابعها الوطني وإلغاء نقاط تَماسها مع الهوية القومية- الوطنية للعرب الفلسطينيين، مع الحفاظ على المضمون الطائفي لهذه الهويات.

هنا حريٌ بي الإشارة إلى كتابٍ صدر أخيرًا، عن 'المجلس التربوي العربي' بعنوان 'مناهج التعليم العربي في إسرائيل: دراسات نقدية في مناهج اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والمدنيات'. في هذا الكتاب كما يشير عنوانه دراسات مهمة لأكاديميين فلسطينيين بارزين كشفوا فيها أوجه الإنكار والتغييب للهوية الفلسطينية في المناهج. على سبيل المثال، يُلاحظ مصطفى كبها، أن منهاج التاريخ المعـدل لسنة 2009 يُغيب المضامـين التي تتعلق بتاريـخ العـرب الفلسـطينيين في إسرائيل أنفسـهم وبمركبـات هويتهم، كما يدعي مهند مصطفى، أن منهاج التربية المدنية يُعّلـم عـلى الانتمـاء لإسرائيـل كدولة يهوديّـة وديمقراطيّـة وكحالة أخلاقية منتهية. يجدر ذكر أن  'المجلس التربوي العربي' هو مُبادرة أهلية ضمن 'لجنة متابعة قضايا التعليم العربي' كان لي الشرف أن أكون مديرها التأسيسي وأن أصيغ مع البروفسور محمد أمارة وثيقةً تاريخيةً تحدد أهـدافاً بديلة للتربيـة والتعليـم للفلسـطينيين في مناطق 48، وذلك بالاعتماد على نقاشات وسجالات مجتمعية وثقافية حولها دامت أكثر من سنة. 

وكان على رأس هـذه الأهـداف 'تأصيـل الانتمـاء لهويّة وطنيّـة عربية فلسـطينية، معتزّة بمنجزهـا الحضارّي، ومتواصلـة بفاعليّة مع عمقها العربّي والإسـلامّي والإنسـاني. وتتأسـس هذه الهويّـة على تعزيز اللًحمـة بين أبناء الشـعب الفلسـطيني الواحد على قاعـدة التعددية والتنّوع، وتعزيـز الذاكـرة الجمعيّـة والروايـة التاريخيّـة الفلسـطينيّة، والتأكيد على الحقـوق التاريخيـة والسياسـية للشـعب الفلسـطينّي، واحـترام التعدديّة الثقافيّـة والدينيّـة والمجتمعيّـة الداخليّـة للمجتمع الفلسـطيني'.

دلالة حضور فلسطين بصفتها غيابًا لا فقدانًا!

ثالثًا، في حين تهدف مناهج التعليم والكتب التدريسية لإنكار فلسطين التاريخ والجغرافيا والإنسان، وتسعى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني لمقاومة هذا الإنكار بطرح مواد تعليمية بديلة، تحضر فلسطين في الجهدين بصفتها غيابًا لا فقدانًا. في كلتا المحاولتين 'فلسطين' غائبة وبالتالي هي 'جرح مفتوح' و'فردوس مفقود' و'نكبة مستمرة'، والتفكير فيها يُمليه الحنين وتُسّطره رغبات غير قادرة على التصالح مع الذاكرة واستيعاب غياب فلسطين بوصفه فقدانًا لها. من هنا، تظلُّ فلسطين شبحاً يطارد الأحياء ووعيًا لا يُمكِّن حامليه من نقده ونقضه من أجل بناء فلسطين الجديدة. تظلُّ فلسطين وعيًا يَعِد بمزيد من الألم ومزيد من جلد الذات ومزيد من التمترس حول وطن غائب لا يمكن الحداد عليه، والتعاطي مع تجليات غيابه نقديًا وبانفتاح يحرر الفلسطيني من إحساسه بالذنب ويحرر فيه قدرته على التصالح والغفران حتى مع من كان سببًا في فقدان وطنه. وبين الغيابِ والفقدان تحضر الـ 1948 نقطة صفرٍ تاريخية تبدأ منها وتنتهي عندها محاولات بناء الهوية الفلسطينية لدى فلسطينيي الداخل، يبدأ منها تاريخ فلسطينيي 48 بوصفهم كذلك وينتهي ضمن حدودها مشروعهم الهُوياتي، وحتى الوطني- السياسي. في حين كانت نكبة 1948 نكبةً لكل الشعب الفلسطيني وحدثًا يصل بين مخيالاتهم ورابطًا بين ذكرياتهم، إلا أنها أيضًا صارت آلية بترٍ تفصل ما بين فلسطينيي 48 وغيرهم من الفلسطينيين.

وعليه من الضرورة بمكان التعاطي مع فلسطين ليس من حيث كونها وطنًا غائبًا بالإمكان استعادته مع تحريرِ الأرض، بل من حيث كونها وطنًا مفقودًا لا يُستعاد بل يُبنى من جديد. الفلسطينيون بحاجة لبناء وطنهم كما هم بحاجة لتحرير أرضهم، غير أنه في حين أن تحرير الأرض هو مهمة الحقل السياسي الفلسطيني الأولى، سواء كان ذلك في إطار حلِّ الدولتين أو حلِّ الدولة الواحدة، يظل بناء الوطن هو المهمةُ الأهم، على الأقل في الحقل الثقافي، وبضمنه العمل التربوي. تَغيّر المكان الفلسطيني واكتسبَ ملامحَ وأسماء جديدة بفعلِ ما تعرض له من آليات التدمير والتجريف والتهجير والتطهير والتشويه واختلّت العلاقة العضوية للفلسطينيين به. هذه العلاقةُ الطبيعية والحميمية بالمكان هي التي أتاحت للفلسطينيين تسمية فضاءاتهم القروية والمدنية وتلالهم وطرقهم باسماءِ النابتات والطيور والأشغال والحِرف وما يَأبى على النسيان من الشخصيات والحوادث في موروثهم وتاريخهم، دون الحاجة إلى تجنيد مُسبق للمكان لخدمة مشروع بناء القومية الفلسطينية وتعزيز الانتماء إليها. هذه العلاقة اختلت وتشوهت نتيجة النكبة وصار من الّلازم العمل على إنتاج هوية مكانية جديدة تربط بين الفلسطينيين ووطنهم، بوصفه أيضًا مكانًا جديدًا وحيزًا يكتسب كلَّ يوم مزيدًا من الذكريات بفعل ما يتعرض له من ممارسات استعماريةٍ.

 العمل على هذه الهوية هي لبُّ كل مشروعٍ للتربية الوطنية، من حيث كونها علاقة تربط الفلسطينيين ببعضهم بعضًا وتشدهم إلى فلسطين بوصفها تجربة مشتركة ووعيًا متواصلًا ووطنًا هو أوسع وأشمل من فكرة 'الأرض' مهما اتسعت أو تقلصت رقعتها وَبل بمعزلٍ عنها.

ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة

الانتماء الوطني هو انتماء للتجربة الفلسطينية بتاريخها وحاضرها أكثر مما هو انتماء للمكان الفلسطيني الذي تحدد إحداثيته السياسة وعلاقات القوة بين المستعمِر والمستعمَر. التربية على الانتماء لجغرافيا الثقافة وتجلياتها على حساب الانتماء لجغرافيا السياسة وحلولها هي الكفيل أن يكون للفلسطينيين في كافةِ أماكن تواجدهم وطن واحد هو كلٌّ متكاملٌ، وتامٌ بلا نقصان، مهما كبُرت أو صغُرت الدولة الفلسطينية، ومهما كانت أعداد العائدين والباقين في الشتات. هذه التربية الوطنية تقوم على التمركز بالوطن والانتماء لا بالدولة والولاء، الثقافة والتاريخ لا السياسة والقوة، التفكيرُ الذي تُمليه الرغبة بمستقبلٍ أفضل لا التفكير الذي يمليه الحنين لماضٍ أجمل العمل لمواجهة الفِقدان لا العمل على استمراءِ الغياب. من نافلِ القول إن هذه الـ'لا' في ما سبق هي للإزاحة والتأكيد لا للنفي والقطيعة، وذلك على سبيل 'ما أوسع الثورة ما أضيق الرحلة، ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة!' كما كتب محمود درويش.

رابعًا، حضورٌ مركب وشمولي للخطاب الكولونيالي في العمل التربوي يُكرس الرواية الصهيونية ويخلق تماهيًا مستمرًا معها. في هذا السياق، يغلُب على المشاريع التربوية لمقاومة هذا الخطاب فهمٌ يرى في الحالة الكولونيالية وضع تغلُبٍ وإحلال 'للغريب' ولـ'الأجنبي' مكان 'الأصلاني' و'صاحب المكان'، ولا يتعاطى مع علاقات القوة المتبادلة بين المستعمِر والمستعمَر، أو مع نزعة المستعمِر لأن يتأصلن ويبني علاقة حميمية وعضوية مع المكان الفلسطيني عبر تأثيثه (بتعبير بيير نورا) بذكريات وتجارب جديدة، أو مع دوافعه الدينية وتجلياته ضمن المجتمع الإسرائيلي نفسه. من هنا، تظل مشاريع الممانعةِ والمقاومةِ التربوية قاصرةً عن فهم شُمولية الخطاب الكولونيالي الصهيوني طارحةً بذلك تصورًا له لا يتيح للطالب والمعلم الفلسطينيين في مناطق 48 أن يفهما العلاقة ما بين سياسات الإقصاء والتمييز العنصري في مناطق 48 وما يحدث في بقية المناطق الفلسطينية، على اعتبار أن المشروع الكولونيالي واحدٌ وإن اختلفت أدواتِه.

ولعلَّ أخطر حالات هذا الحضور هي فرضُ التماثل ما بين 'الصهيوني' و'الآخر'، حينما يُفرض على الفلسطينيين في مناهجهم التربوية تقبُل الآخر الذي هو صهيوني ومستعمِر. هنا يتم تَجييّر مفهوم 'قبول الآخر' القائم على تقبُلِّ المغايرةِ والاختلافِ والتعدديةِ لصالح، حقيقةً  لطَالح، تقبل المَحو والالغاء والتشويه للذّات التي يفترض بها أن تتقبل وتتفهم هُوية الآخر. بهذا يتم إحلال 'المستعمِر' على مفهوم 'الآخر' فيوسعُه ويعيدُ صِياغته بحيث يشمل ليس فقط تقبل هويةٍ ما، هوية المستعمِر، وإنما أيضًا تقبلُ شكلِّ العلاقة معها وتطبيعها كدائمةٍ وحتميةٍ وأخلاقية وفي صالح المُستعمَر. تتسعُ هوية الآخر وتستحوذ على هوية الذات وتعيد تشكيلها بحيث تفقد أولويتَها في علاقتها مع الآخر وتُشوه أصالتها تحت وطأة 'فتنة المنتصر' والتماهي مع المُتغلب، بالتعبير الخلدوني، لتصبحَ ذاتًا تنظرُ لنفسها من مَنظورٍ آخروي وتنتجُ هويتها تحت شَرط الامتثال للمعرفةِ الاستعمارية وما تُمليه مركزيتها من ذاكرة وحبكةٍ لها.

من الأهمية بمكان هنا الإشارة إلى أن تكريس تَصور جرائم التهجير والتطهير وهدم مشروع الحداثة والتمدن لدى الفلسطينيين، خصوصًا لدى فلسطينيّ 48، نتاج تاريخي طبيعي لـ'صراعٍ' بين حركتي تحررٍ وطني من شأنه إضفاء شرعيةٍ أخلاقية ومشروعيةٍ تاريخية على التواجد والممارسة الاستعمارية للحركة الصهيونية في فلسطين. في الحقل التربوي يتمُّ تطبيع مقولة الصراع، مثلًا، عبر الخلط بين تاريخ اليهود العرب، اليهود الشرقيين، وبين التاريخ  الأوروبي للحركة الصهيونية. هنا لا بد من التأكيد أن تدريس تاريخ اليهود للفلسطينيين يتم من  خلال رواية رسمية أحادية تتجنب التناقضات وأصوات اليهودية المهمّشة وتعيد إنتاج تاريخ اليهود بما يتلاءم مع أغراض الصهيونية وتاريخها. لذلك ثمة حاجة لأن يَدرس الفلسطينيون تاريخ اليهود وتاريخ الحركة الصهيونية من منظور فلسطيني نقدي بعيداً عما ترويه الصهيونية عن نفسها، كي يتصالح منتصروها مع أنفسهم ويوفروا لقناعاتِهم المصداقية اللازمة للاستمرار في ممارساتهم العنصرية.

مخاطر اختزال العمل التربوي 

خامسًا، طغيان مفاهيم ومفردات النظام النيو- ليبرالي التربوي يؤدي في النهاية إلى اختزال العمل التربوي في دائرة ضيقةٍ حول الذات، لا تتيحُ للمعلم أو الطالب الابتعاد كثيراً عن إجابات 'التعليم' نحو أسئلة 'التربية'. هذا النظام يبقي التعليم عملًا منكفئًا على مقولاته المهنية ومستحوذًا عليه من 'متخصصي' التعليم الناجع والفعال و'حرفييّ' التقييم والامتحانات و'مهندسي' النجاح السريع، دون أن يتيح للطالب أو المعلم فرصاً حقيقية للتبصر بوشائج الذات والمعرفة والسلطة في تعليمهم وتربيتهم وحياتهم اليومية. الأخطر من ذلك، أن هذا النظام، وتحت غطاء 'المهنية'، يسوّغ لكثير من المثقفين الفلسطينيين المشاركة في مشاريع إعداد المناهج وكتب التدريس دون أن يكون لهم تأثير حقيقي على مضامينها وتوجهاتها.

في التربية والتعليم يقوم النظام النيو- ليبرالي على تَضافر مفهومي الدولة القوية (المركزية في الإدارة وتوحيد المضامين والمناهج والامتحانات ومعايير المساءلة والمحاسبة على مُخرجات التعليم ونتائجه) والدولة الرخوة (اللامركزية في تفعيل التعليم على المستوى المدرسي والبلدي وخصخصة آليات التمهين والإرشاد وملكية المدارس وتمويلها وتدعيم تداخل الأهالي وحريتهم في الاختيار بين المدارس والمعلمين) وعملهما سويةً وفي آن معًا. في هذا السياق، التعليم العربي في مناطق 48 هو ضحية الدولتين. من جهة، 'الدولة القوية' تحاول إكراه الطلبة الفلسطينيين عبر المناهج الصانعة للهوية، خصوصاً التاريخ والتربية المدنية والتربية الدينية واللغة العربية، على قبول الرواية الرسمية التي تُلغي تاريخ الفلسطينيين وتصور حضورهم في وطنهم كطارئ وكحدث مؤقت بما يتلاءم مع مشروع 'أَسْرَلَتهم'. ومن جهة أخرى، تسعى 'الدولة الرخوة' إلى تقليص الموارد الرسمية الموجهة للتعليم العربي (ميزانيات وملاكات واستثمارات بالبنية التحتية) وتشجيع مبادرات اقتصادية في التعليم العربي من قبل رجال أعمال وشبكات مدارس هدفها الربح الجشع ليس أكثر.

الأهم في طغيان النظام النيو- ليبرالي على سياسات التعليم في سياق التعليم العربي هو سيادةُ مفردات خطاب التحصيل على الخطاب التربوي. وخطاب التحصيل يرى بالنجاح والفشل مسؤولية شخصية لا مسؤولية المجتمع والدولة، ويعزز أفكار النجاح الفردي والخلاص الشخصي على حساب العمل الجمعي والحراك المشترك إزاء التناقضات الجوهرية والبنيوية  التي يخلقها النظام السياسي، والتي تُكره الفرد على هَندسة بقائه وهويته وتقدمه بيديه بشكل دائم وتبقيه دائمًا فردًا وحيدًا أمام قوانينها وتشريعاتها وفرصها وضغوطاتها. هذا الخطاب أيضًا يعطي أهمية قصوى للتعليم الآداتي في العلوم والرياضيات واللغات على حساب التعلم للمعنى في العلوم الإنسانية والاجتماعية. هذا الخطاب من جهة أولى، يُخفي الحضور القوي للدولة في التربية والتعليم ويخفت من حدة التوتر تجاهه والتصادم معه، ومن جهة أخرى يقلّلُ من أهمية المواضيع المتعلقة بالهوية، مثل التاريخ والتربية الوطنية والتربية الدينية، التي تتراجع في حضورها المدرسي من حيث ساعات التدريس وأهميتها لدى الطلبة والمعلمين في مقابل بروز أهمية المواضيع 'المهمة' لشهادة التوجيهي والتي من شأنها رفع فرص القبول لمؤسسات التعليم العالي.

طغيان خطاب التحصيل هو في النهاية جهاز رقابة ذاتي وناعم ليس أقل فاعلية من آليات الضبط والسيطرة الكلاسيكية مثل تدخل جهاز الأمن بتعيينات المعلمين والمديرين وتفريغ المناهج من المضامين الجمعية والقومية. هذا الخطاب يٍعطي الشرعية للتقليل من أهمية الهوية والانخراط في المشروع الوطني الفلسطيني مقابل ما يَعد به التعليم من نجاح شخصي وتقدم  اقتصادي واجتماعي في حال التزم الطالب والمعلم بمفردات هذا الخطاب التي تحض على حرية الاختيار للفرد والمواطنة، الإسرائيلية طبعًا، المسؤولة والملتزمة. كما يعطي هذا الخطاب الشرعية للتحالف ما بين المؤسسة التربوية الإسرائيلية والتربويين العرب، مانحةً كليهما أرضيةً مشتركة للتعاون على أساس 'مصلحة الطالب والحرص على نجاحه' وتحت غطاء معايير المهنية في التعليم.

وطن واحد

سادسًا، غياب مشروع تحرر وطني جامع واضح القسمات والثوابت يزيد من صعوبة تجنيد العملية التربوية من أجل التربية لهوية فلسطينية مشتركة وبالتالي يقلل من فرص المشاركة في إنتاج هذا المشروع. تحديدًا، يتجلى غياب هذا المشروع في ضعف التواصل بين المؤسسات التربوية ضمن مناطق 48 وبقية المناطق الفلسطينية، وفي غياب عمل تربوي منهجي (كتب دراسية ومواد تعليمية إلكترونية وعبر الإنترنت) يهدف لتعميق التواصل الثقافي، وتجذير الارتباط بفلسطين وطنًا واحدًا ووعيًا مشتركًا، والتربية لممارسة وتفعيل المسؤولية الوطنية لدى الطلبة والمعلمين ضمن مجتمعهم وفي أطرهم التربوية. في هذا السياق، من الأهمية بمكان أن نشير إلى ضعف تداخل مؤسسات المجتمع المدني في مناطق 48 في الحقل التربوي، مقارنة مع النشاط المكثف الذي تقوم به مؤسسات عبرية مختلفة في هذا الحقل لتسويق برامجها ونشر معتقداتها وقيمها في التعليمين العبري والعربي.

 إن غياب المشروع الوطني الفلسطيني الجامع هو ليس فقط غياب سياسي بل أيضًا، غياب ثقافي. مثلًا، العمل الثقافي على مستوى مؤسسات العمل الأهلي لم يطرح، حتى الآن، ولو برنامجا واحدًا متكاملا للتدريس حول النكبة على مستوى المدرسة. في حين يتم التعاطي بكثير من المثالية وفائض من الرومانسية مع دور الثقافة في بناء الهوية الفلسطينية، وهو دور مهم، إلا أن هذا الدور يظل دوراً قام به أفرادٌ، من مثقفين وأدباء وفنانين، وليس مؤسسات مجتمعية ومنظمات رسمية. في هذا السياق، فإن عمل بعض المؤسسات هو الاستثناء الذي يثبت العكس. وعملها الذي يدمج بشكل منهجي النخب الفلسطينية ويقوي التواصل بينها ما زال محدودًا ونخبوياً وبحاجة لمزيد من التطوير. ما زالت غالبية المدارس ومراكز الثقافة والشباب بين الفلسطينيين في أماكن تواجدهم كافة منكفئة على خصوصياتها وبلا برامج تواصل ومشاريع لبناء هوية فلسطينية جامعة.

التربية لفلسطين الجديدة 

 في النهاية أود التأكيد على معنى التربية لفلسطين الجديدة بوصف فلسطين وطنًا واحدًا ووعيًا مشتركا لكل الفلسطينيين والفلسطينيات. التربية لفلسطين الجديدة تهدف لبناء 'هابيتوس' للوطنية الفلسطينية يقوم على إنتاج رأس مال اجتماعي ثقافي فلسطيني قادر على جسر الفوارق بين المجموعات الفلسطينية في سياقاتها المختلفة وبناء لحمةٍ بينها تتعدى الخصوصيات والظروف المحلية لكل مجموعة. هذه التربية ترتبط بالماضي ولكنها في الأساس موجهة للمستقبل من أجل بناء فلسطين القادمة وليس فقط من أجل استعادتها، وهي تربية ليس فقط 'للآخر المرجأ'، بتعبير دريدا نقلًا عن عبدالرحيم الشيخ، بل وأيضًا 'لذات مرجأة' تواصل تشكيل هويتها والاشتباك معها. في هذه التربية تحضر فلسطين في المِخيال الجمعي ليس بوصفها غائبة بل متخيلة، وليست بوصفها غايةً منشودة في الماضي بل بوصفها هدفًا مستطاعًا في المستقبل. هي تربية للمستقبل، و'لنشأة مستأنفة'، بتعبير ابن خلدون، تقوم على مركزية 'حق العودة' لفلسطين و'تقرير المصير' للشعب الفلسطيني وترجمتهما تربويًا في برامج تشجع على تصور فلسطين المستقبل بقدر ما تستحضر فلسطين السابقة.

 هنا يحضرني مشروع رائد ينسجم جيدًا مع فكرة التربية لفلسطين الجديدة هو مشروع 'عدنا' لتصور العودة والذي يتم ضمنه العمل مع مجموعات شبابية من الجيلين الثالث والرابع للنكبة تنتمي لعائلات مهجرةٍ كي تصيغ رؤيتها للعودة بشكل عملي إلى ثماني قرى هُجّر أهلها خلال النكبة. وهذه المجموعات الشبابية لم تكتفِ بدراسة التاريخ بل وضعت خرائط هيكلية مستقبلية تشمل مباني ثقافية وبيوتًا جديدة ومدارس ومنتزهات.

  التربية لفلسطين الجديدة هي سعيٌ لوضع مشاعرِ الانتماء لفلسطين في مركز العملية التربوية بوصفها اختيارًا لا موروثًا. والقصد الانتماءُ كاختيار يفرضُ استحقاقات عدة أهمها المسؤولية عن هذا الانتماء والحاجة لفهمه وممارسته. الانتماء كاختيار هو في النهاية إجابةٌ على 'ماذا يعني أن تكون فلسطينيًا؟'. هذه الإجابة لا يمكن أن تكون صادقة ما لم تكن نقديةً ومستقلة. وعليه فإن التربية التقليدية، التلقينية و'البَنكية'، لن يكون بإمكانها أن تكون تربيةً للتحرر: تربيةً لفلسطين الجديدة. هذه التربية الأخيرة هي تربيةٌ لمقاومة المعرفة الرسمية للسلطة، أي سلطة.

*أكاديمي وتربوي فلسطيني/ أم الفحم

تنشر المادة في عرب 48 بالتوازي مع نشرها بموقع 'ضفة ثالثة'

التعليقات