في/عن الكتابة، مرةً أخرى

الكتابة بما تقوم به من خلخلة سطوة اللغة الخاملة والمطمئنة لنفسها وعالمها تلك غير المشتبكة مع التاريخ والسياق الحضاري لأصحابها لا تحمل ديناميّة التحرر

في/عن الكتابة، مرةً أخرى

الكتابة معركة

يخبرنا الجاحظ في كتابه "الحيوان" فيقول: "ينبغي لمن كتب كتابًا أن لا يكتبه إلا على أنّ الناس كلهم له أعداء"، والكتابة كما يخبرنا عبد الفتاح كيليطو "مليئة بالمخاطر"، وبالتالي يُصر أنّ "المرء لا يزال في فسحةٍ من أمره ما لم يقل شعرًا أو يؤلف كتابًا"، فمن هو هذا العدو الذي يحذرنا منه الجاحظ؟ والذي يجعل الكتابة مليئة بالمخاطر؟

أترى يخبرنا الجاحظ أن الكتابة وليدة المعارك والصراعات والأزمات؟ وأنّ العقل لا يمكن إلا أن يكون مقاومةً للامعقول؟ حتى ولو افترضنا ذلك، ثمة فرادة في تجربة الكتابة، تتسامى إلى حدود الوجود والمعنى الفردي للذات، تلك الفرادة التي تتيه في ظلها حدود الذاتي والموضوعي، المعقول واللامعقول، الافتتان والفتنة، العقل والثورة، الأنا والآخر، التوازن والاختلال، الذاكرة والنسيان. في حديث لصحيفة إيطاليّة، عام 1969، سُئل رولان بارط "ما جدوى الكتابة؟!"، فأجاب قائلًا:

"ليس في وسعي إلا أنّ أعدد الأسباب التي أتصور أنني أكتب بدافعٍ منها:

1. أنا أكتب إشباعًا للذة، وهي كما نعلم لذة غير بعيدة عن الافتتان الإيروتيكي؛

2. أكتب لأن الكتابة تخلخل الكلام، وتهز الأفراد والأشخاص، وتقوم بعملٍ نعجز عن تبيّن مصدره؛

3.أكتب كي أحقق "موهبةً"، وأنجز عملًا مميزًا وأحقق اختلافًا وأحدث فرقًا؛

4. أكتب كي يُعترف بي، وأكافأ وأكون موضع احتجاج وحب وتأييد ورفض؛

5. أكتب كي أنجز مهاما أيديولوجية، أو ضدّ الأيديولوجيا؛

6. أكتب بإيعاز من أيديولوجيا مستترة، وتقسيمات مناضلة، وتقويمات مستديمة؛

7. أكتب إرضاءً لأصدقاءٍ، ونكايةً بأعداءٍ؛

8. أكتب مساهمة في إحداث شروخ في المنظومة الرمزية لمجتمعنا؛

9. أكتب إبداعًا لمعانٍ جديدة، أي لقوى جديدة، للتمكن من الأشياء بطرقٍ جديدة، ولخلخلة تسلط الدلالات والعمل على تغييره؛

10. وأخيرًا، أكتب إثباتًا للقيمة العليا لفعالية تعددية لا دوافع من ورائها، ولا أهداف ترمي إليها، ولا تعميم تستهدفه، شأنها في ذلك شأن النص ذاته".

يخبرنا بارط عن الكتابة باعتبارها وسيلة لبناء المعنى ومواجهة السلطة والرمز، فاللغة التي هي منظومة من القواعد والعادات التي يشترك فيها جميع كُتاب عصرٍ ما، تختلف عن الأسلوب الذي هو الشكل، ما يشكل كلام الكاتب في بعده "الشخصي والجسدي"، والكتابة لديه اجتماع الاثنين في موضعة وسطى، تدمج بينهما –اللغة والأسلوب-، وعن طريقها يختار الكاتب معركته، ويلتزم بها (هنا يتحدث بارط عن الإلتزام السارتري في كتاب سارتر "ما الأدب؟!")، فالكتابة هي مجال الحرية والالتزام: "اللغة والأسلوب قوى عمياء، أما الكتابة فهي فعلٌ متفرد تاريخي. اللغة والأسلوب موضوعان أما الكتابة فهي وظيفة. إنها العلاقة بين الإبداع والمجتمع، وهي اللغة الأدبيّة وقد حولها التوجيه الاجتماعي، هي الشكل وقد أُدرك في بعده الإنساني، وفي ارتباطه بالأزمات الكبرى للتاريخ".

ما يقوله سارتر عن الأدب في كتابه "ما الأدب؟"، يقوله بارط عن الكتابة، كممارسة لا تبدأ فقط بالحدث إنما بالتلقي/القراءة. وبينما يربط الأول الأدب بالالتزام السياسي للكاتب والمحتوى الفكري لعمله، فإن الثاني يعلن أنّ "قدرات التحرر التي تنطوي عليها الكتابة لا تتوقف على الالتزام السياسي للكاتب، الذي لا يعدو أن يكون إنسانًا بين البشر، كما أنها لا تتوقف على المحتوى الفكري لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة".

بكلمات أخرى، فإن الكتابة بما تقوم به من خلخلة سطوة اللغة الخاملة والمطمئنة لنفسها وعالمها تلك غير المشتبكة مع التاريخ والسياق الحضاري لأصحابها لا تحمل ديناميّة التحرر، والأسلوب الذي لا يستفز القارئ/ة ويدعوه/ا لمعركة إدراكية تقوم على إزاحة ما، فتلك ليست بكتابة.

"النص نقص"، المعركة

ما الذي يجب أنّ يهابه/تهابه الكاتب/ة في نظر الجاحظ لتصبح الكتابة "معركة" توجب عليه/ا "التزام الحيطة والحذر"؟ إنه افتضاح لعبة التأليف ذاتها، لكن وكما يقول نيتشه "كل معنى هو إرادة قوة"، وبالتالي فالمعركة بين الكاتب/ة والقارئ/ة على المعنى هي معركة قوى، سلاح الأول/الأولى فيها اللغة والأسلوب والفكرة، وسلاح الثاني/الثانية فيها ما في النص من نقص لا يكتمل –أو يسعى لاكتمال- دونه/ا.

يقول بورخيس: "ما ندعوه إبداعًا ماهو إلا مزيج من نسيان ما قرأناه وما نتذكره"، ما يجعل القراءة "نشأة مستأنفة" للنص ولعملية الكتابة. إن الدعاوى لتسهيل الكتابة أسلوبًا ولغةً هي عملية اغتيال لدينامية الثنائيات في الكتابة: ذاكرة ونسيان، معقول ولا معقول، ذاتي وموضوعي، وغيرها، كما وهي قتل للنشأة المستأنفة للنص، بعسكرة المعنى وتنميطه.

تلك الدعاوى تقتل الاختلاف، وانفتاح المعنى على إزاحاته وتعدداته وقدرته على التسامي والاحتواء والتجدد، بالحفر في إرادات القوى بين كاتب/ة ومتلقٍ/متلقيةٍ. هي نمط من السلوك الاستهلاكي باسم الحداثة لا يؤدي إلا لعسكرة الفكرة.

يقول عالم الاجتماع الراحل زيغمونت باومان: "إنّ التعدد الذي تجده الهويّة الحديثة عبئًا، والذي تبذل المؤسسات الحديثة جهدًا للقضاء عليه (حيث يجني كلاهما طاقته الإبداعيّة المريعة من هذا المقصد بالذات) يبدو مجددًا هو القوة الوحيدة القادرة على الحدّ من القوة التدميريّة للحداثة ونزع فتيلها". فيما يقول المستشرق الألماني توماس باور عن التعدد في كتابه "ثقافة الالتباس": "أنا أتحدث عن التعدد الحضاري الذي يضم اللغة وكذلك الأفعال غير اللغويّة، فإذا أردنا أن نوّسع من مفهوم التعدد ليتخطى الحدث اللغوي، فعلينا أن نستمر لندرك مفهوم المعنى أيضًا المرتبط بالحدث. ]...[ تصبح القدرة على تعدد المعنى أكبر إذا ما راقبنا الحدث اللغوي وغير اللغوي على المستوى الحضاري. كما أنّ التعدد ينشأ إذا ما فُسر حدثٌ ما بطرق متعددة، أو إذا ما فُسر طبقًا لنماذج تفسير حضاريّة مختلفة مثل المعايير الاجتماعيّة المختلفة، وتنشأ ظاهرة التعدد الحضاري إذا كان لمفهوم ما أو طريقة فعل أو شيء ما عبر فترة طويلة من الزمن معنيان متناقضان، أو على الأقل مستويان مختلفان عن بعضهما بوضوح، في نفس الوقت إذا اتخذت مجموعة اجتماعيّة بعض المعايير وعمليات فهم المعنى في مجالات الحياة المختلفة مواقف متناقضة ومختلفة عن بعضها البعض بشدة، أو إذا تم داخل الجماعة الواحدة قبول تفسيرات مختلفة لظاهرة واحدة حيث لا يمكن لأي منها الإقرار بامتلاك الحقيقة المطلقة". ينطلق باور هنا، من قاعدة أساسية في علم الاجتماع وعلم الإناسة، تشير –ببساطة- إلى أنه لا وجود لظاهرة غير مركبة، أو بسيطة، أو حتى ظاهرة تحمل تفسيرًا واحدًا فقط.

يقول جيل دولوز: "لا ينبغي البحث عما إذا كانت فكرة ما صادقة أو صائبة. وربما يلزم البحث خارجًا وفي مجال آخر، عن فكرة أخرى مغايرة، بحيث يسير بين الفكرتين شيء ما، لا هو في إحداها ولا هو في الأخرى"، هذا هو النقص في النص، في التلقي، هو تلك الإزاحات التي تستدعيها اللغة والأسلوب، الخارجان عن كل أنماط التنميط العنفيّة باسم الاستسهال والتبسيط والاستهلاك والتعليب، ما يجعل الكتابة في حد ذاتها كيانًا منفصلًا عن مضمونها من حيث هي عملية بنيوية لها اقتصادها السياسي، الذي يساهم في تشكل المعنى وعملية الاشتباك معه، وانفتاحه على تعدداته.

اللغة والأسلوب:

ثمة وظائف ثلاث منوطة بالنص في عملية التلقي/القراءة: التجريبيّة، التواصليّة والنصيّة، وعلى التوالي تعنى الوظيفة الأولى بمضمون استعمال لغة النص المكتوب على صعيد تجريبيتها من ناحية، أي تكون اللغة حول شيءٍ/حدثٍ/ذاتٍ/كيانٍ ما، في السياق الاجتماعي والثقافي المعيّن، ومن ناحيّة أخرى قدرة اللغة على التعبير عنه، أيّ أنّ المنحى التجريبي له اتجاهان: للداخل والخارج. وأما الوظيفة الثانية: "التواصليّة"، فتملأ المسافة بين الذات والآخر، أو الموضوعي والذاتي، بكلمات أخرى فإن الوظيفة الأولى تقدم لنا المتكلم/الذات في دور الملاحظ، بينما الوظيفة الثانيّة تقدمه في دور المستعمل للمعنى والفكرة، وأما النصيّة، الوظيفة الثالثة، فتبيّن منحى العلاقة بين النص/الكتابة والفكرة/المعنى وواقعه/سياقه، يمكن باختصار رسم نوع من التوازيات التاليّة لتلك الوظائف:

- الوظيفة التجريبيّة: المجال: من/ ما؟

- الوظيفة التواصليّة: العلاقة: كيف/ لماذا؟

- الوظيفة النصيّة: المنحى: إلى أين؟

*

عن اللغة والأسلوب يقول سليم بركات، بلسانه الشعري:

"محاكاة المجهول هي التي قادتني إلى أن أتتبع ما تبيحه اللغة لنفسها من تهتك، وما يبيحه اللفظ من الانقلاب على معناه، وما يبتكره نظام المعنى، في انحلاله سديمًا إلى سديم، من الخيانة الطاهرة" وكأنه يشير إلى النقص في النص، من ناحيّة اللغة، اللغة التي هي "مستقبل ذاتها".

عن إشكال القراءة والتلقي التي كما يصفها دولوز قادرة على "جعل النص يمتد"، يقول: "أبيح لنفسي ادعاء الانتساب إلى المعضل – ذلك الشريك الذي ينتظرنا في المنعطفات النبيلة، التي تحفظ للغة قدر وجودها الشهويِّ الهاذي، وقدر إيمانها بالفراغ المولد لأنساق الثقل الكبرى: مغامرات العدم الذهبيّة التي يقرأها أطفال الوجود الذهبي.

لا أفكار بسيطة في "أساليب فنيّة عالية"، بل أفكار عاليّة، لا غير. البسيط استدراجٌ كالمعقد الغامض. البسيط شقيق المركب، قطبان لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر. البسيط بسيط لأنه اختراع التعقيد. والتعقيد تعقيد لأنه اختراع الممكنات التي من صفات البسيط، هنالك فقط، ماهو فني راقٍ، أو تلفيق ركيك.

بورخيس متاهة معنى، كافكا بث معنى، دانتي سطوة المتعدد، هوميروس هذيان، جويس ثرثرة المعنى حتى الإغماء، ثرفانتس شوق المعنى إلى القطيعة مع ذاته، "ألف ليلة وليلة" لعبة شطرنج بين يدي معنى هاوٍ ومعنى محترف، واللائحة لا يحيطها تقدير. أنا في صف "المحنة" التي لا تطهر الروح، بل تبديها أكثر دنسًا كالحقيقة".

"ربما أسأل سؤالًا أخلاقيًا في مفهوم "اللايقين"، و"الخيبة"، فيما امتحاني الذي أقدمه إلى نفسي في الكتابة هو امتحان ما يلي "اليقين" و"الخيبة".

عن ثنائيّة القراءة والكتابة

إذا ما كان لنا أن نستعير مشهد التأسيس في الوجود الإنساني، من تثنية التجربة والوجود (آدم وحواء)، أمكننا فهم مثنى القراءة والكتابة، بحيث لا يستوي وجود المعنى من دونهما. وعليه، فإن نماذج الكتابة الثنائيّة : ماركس – انجلز، الأخوان غونكور، وفي الرواية عبد الرحمن منيف وجبرا إبرهيم جبرا، ما هي إلا نماذج قرائية وكتابيّة معًا، ففعل الكتابة فيها لا ينبنِي إلا بقراءة محايثة له وموازية، بالتالي هو في رأينا، أقرب النماذج لنمط القراءة/التلقي الذي ننادي به، كفعل كتابي في ذاته يكمل ما في "النص من نقص"، للنجاة من الكتابة الرثة الاستسهاليّة باسم "أكبر عدد من القراء". وكذلك هو نموذج جيل دولوز وفيليكس غواتاري، إذ يحدثنا الأول عن تلك الكتابة فيقول:

"لم يكن يهمنا أن نعمل معًا، بقدر ما كان يعنينا هذا الحدث الغريب الذي هو أن نعمل بيننا. كنا نكف عن أن نكون "مؤلفًا"؛ وهذا البين-بين كان يحيل إلى آخرين مختلفين، عن هذا الطرف أو ذاك. لم نكن نرقص لى اليقا نفسه، كنّا دائمًا في تفاوت".

يقول الفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي:
هذا التفاوت، هذا الرجاء سرعان ما ينعكس على كل طرف ليجعله في انفلات عن ذاته. فكأن كلا الطرفين يبحث في الآخر عما يبعده هو عن نفسه. ما أبعدنا عن مفهوم التآزر والالتقاء والتلاحم الفكري. رياضيًا يمكن أن نقول أننا لسنا بصدد جمع وطرح، لسنا في حساب عددي، وإنما في حساب تفاضل وتكامل، إننا لا نجمع جمعًا حسابيًا، بل نجمع جمعًا تكامليًا، أيّ أننا نضم الفروق والاختلافات، يقول دولوز: "لم نكن نعمل معًا، كنا نعمل بين الإثنين.. لم نكن نعمل، كنا نتساوم ونتفاوض".

التقنيّة

ما معنى أن يُطالب الكاتب/ة بالاستسهال مضامينيًا، وألا يجعل/تجعل من اللغة والأسلوب معركة وتحديًا له/ا وللقارئ/ة، معًا؟! ما المعنى من تقديس وثوقيّة ما للفكر كممارسة بهذا الشكل، وجعله نتيجة فقط؟!

ثمة خط فاصل –على استحياء-، دبق ولزج بين المباشرة والوثوقيّة، في المباشرة نحن أمام منفذ واحد، ما عليكَ/كِ كقارئ/ة إلا أن تتبعه/تتبعيه، أو بالأصح، هو الذي يأخذك/كِ. في المباشرة والوثوق نحن ضحايا البداهة، مأخوذين بها دون تعدد ولا مساءلة، نمر بها سريعًا بثمالة الاكتشاف الجديد سلبًا.

العنف في المباشرة والوثوقيّة على سيولته، هو عنف مبدأ، وليس فقط عنف نتيجة، الممارسة المباشرة والوثوقيّة تجمل إشكالًا ما وجوديًا تجاه التعدد والاختلاف، تريد ممارسة فكريّة سلسة لا مواجهات ولا إزاحات بها، هي دعوة للدخول في معركة لا منتصر فيها إلا النمط والعدد، نمط التفكير الناعم السلبي، وعدد من يصل لنتيجته المعدة والمطبوخة سلفًا.

المباشرة والوثوقيّة هما نمطان عنيفان ليس فقط تجاه الآخر، ولكن تجاه إمكان تعدد الذات –اللغويّة المتحدثة- مع نفسها، قبل أن تسد دعوات المباشرة والوثوقيّة باب التعدد والاختلاف مع غيرها، هي تسده تجاه اللغة والأسلوب والفكرة في نفسها.

ثمة حجة لتلك الدعاوى بالاستسهال والتبسيط، وتحاشي التحدي في اللغة والأسلوب، وهي "الوصول لأكبر عدد من القراء"، التعامل مع القراء كمًا وليس كيفًا هو نمط من الإجماع على الفكرة المطروحة وسلوك العدد (وليس الفرد) تجاهها. يحدد دولوز الإجماع بأنه "تواطؤ على وضع التفسيرات موضع الأسئلة"، فالتفسيرات لا تفرق، إنها لا توّلد الاختلافات والتعدد، لأنها نتاج ما تعارف وائتلف عليه العدد (ككم) وليس العقل (ككيف)، لا يهدف التفسير إلى إنتاج معرفة بشكل ممارسة وسيرورة Process، ولكن يرمي إلى التأكد منها كـ"حدث" Event، عن طريق قياس عملية امتلاكها عددًا/كمًا. السؤال هو إعادة إنتاج أزمة النص مع اللغة والأسلوب –وحتى الكاتب/ة-، لا وجود للسؤال على الساحة اللغوية كحدث، ولكنه موجود كممارسة مشتبكة مع المضمون واللغة والأسلوب والسياق، وحتى عملية القراءة كثنائية للكتابة، إنها توليد للمفارقات، خروج عن العدد، قطيعة وانفصال، ذاكرة ونسيان، سلطة ومقاومة.

إنها التقنيّة التي تدفع بهذا التنادي إلى العدد هدفًا، كما بيّن هايدغر في محاضرة أصبحت نصًا كلاسيكيًا، أنّ ماهية التقنيّة، لا تكمن في استعمال الآلات، وأنها ليست آلة عظيمة تضم أجهزة وأساليب تنظيم، بل إن ماهيتها الأساس لا تكمن في الآليّة إلى حد أننا قد نكون "في" التقنية من غير أن نكون أمام آلات فعليّة، بل نحن منتوجها، والتقنيّة المهووسة بالعدد تصبح نموذجًا لتجلي الوجود والفكر.

في التقنيّة تغدو معارك القارئ/ة مع نفسه/ا وأفكاره/ا ودواخله/ا ومعنى وجوده/ا من خلال النص، معارك موسومة بانتصار كاذب لا طعم له..على غرار سلع مكدسة في ثقافتنا بالأعداد، تتلاعب بالرغبة لتحولها سلعة/رقمًا: "بيرة بلا كحول"، "سجائر بلا نيكوتين"، "قهوة بلا كافيين"، "حلوى بلا سكر"، وغيرها.. منتجات تحمل الاسم بلا معنى ولا مضمون ولا حتى تجربة. عدد يُعبر عن رغبة ساكنة لا معنى لها إلا كونها رقمًا، فكر بلا فكر، باسم الرغبة في الفكر، رغبة تُسلع رقمًا ليصبح كما يقول الفيلسوف المغربي عبد السلام بن عبد العالي "فكر لايت" نتساوى فيه جميعًا، أعداد بلا فرادة، إلا في تكديس الرقم على الرقم.

*******

"فلنصرف النظر عن "السهل" إلى "الممتنع"، ولنجعل إقامة خيالنا فيه، حيث الامتحان الحقيقي لملكة الرؤيا" – سليم بركات

"القراءة الحقة، هي القراءة الثانية" – مجهول

"الكتاب الذي يفكر بالنيابة عنك، لا حاجة لك لقراءته" – نمر البيّاري

التعليقات