بروفيسور أحمد سعدي: عقلية الهيمنة والاحتكار تصادر مساحات النقاش الحر

ارتأينا أن نبدأ بهذه المقدمة حول "دور المثقف" كما عرضها إدوارد سعيد، لحوارنا مع الباحث في الشأن السياسي والمحاضر في قسم السياسة والحكم في جامعة بئر السبع، البروفيسور أحمد سعدي*، لأن الحوار معه ساقنا إلى قضية دور الأكاديميين والمثقفين

بروفيسور أحمد سعدي: عقلية الهيمنة والاحتكار تصادر مساحات النقاش الحر

بروفيسور أحمد سعدي

*مازال "المشتشرقون" و"المستعربون" يكتبون تاريخنا ويرسمون لنا المستقبل
*من الغريب أن نفتقر إلى الحد الأدنى من التضامن الذي يميز المجتمعات المقهورة
*مؤسف أن تغيب الثوابت الوطنية عن عملنا السياسي وتحل محلها الفهلوة والعنتريات اللغوية


في كتابه "صور المثقف"، يناقش إدوارد سعيد العديد من التجارب والنظريات التي تناولت دور المثقف وعلاقته بالمجتمع والسلطة، ويحاول أن يتلمس من خلال نظرة تاريخية شاملة، أهم المراحل التي ساهمت في توليد هذه الفئة من الناس التي باتت تعرف اليوم باسم "المثقفين".

ويستدعي سعيد، لهذا الغرض، أسماء وتجارب من قارات وثقافات مختلفة ساهمت كتاباتها وآراؤها ومواقفها في بلورة هذه الفئة. فيتوقف عند فلوبير وعلاقة روايته "التربية العاطفية" بثورة 1848 في فرنسا، والتي عرفت بثورة المثقفين، ويعرج على موقف إميل زولا من أزمة الضابط الفرنسي اليهودي درايفوس، بداية القرن العشرين، ويدخل في نقاش معمق لكتاب جوليان بندا "خيانة المثقفين"، والذي ولد من وحي هذه الأزمة، ومفهوم غرامشي للمثقف العضوي ومصطلح ميشال فوكو عن "المثقف الاختصاصي"، ويعرض لآراء برتراند راسل وجورج أوريل ونعوم تشومسكي عن اللغة وسطوة بعض أحكامها المسبقة على فكر المثقف، وينتقد ذكورية جان بول سارتر ويفرد صفحات جميلة جدًا لفرجينا وولف ونقدها للقيم الذكورية.

ويعرج سعيد، على فرانز فانون ومثقفي العالم الثالث، قبل أن يستحضر أعمدة مدرسة فرانكفورت من والتر بنيامين إلى تيودور أدورنو، دون أن ينسى الثقافة العربية والإسلامية ويذكر على الخصوص أدونيس وعلى شريعتي وكمال أبو ديب وغيرهم ممن يعكرون استفزازيًا سكون التقاليد الآمنة في علياء حرماته.

وينطلق تصور إدوارد سعيد المجمل للمثقف من كونه منفيًا وهامشيًا وهاويًا وخالق لغة تحاول أن تقول الحقيقة في وجه السلطة، وتكتمل صورة المثقف لدى سعيد بدعامتين: أولاً الانشقاق عن كل ما هو إتباعي ومبتذل ومكرس ومجمع عليه. وثانيًا الانحياز الدائم إلى جانب المضطهَدين (بفتح الهاء) والتزام معايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني.

وهو يرى بـ"المثقف"، ليس هو عنصر تهدئة ولا هو خالق إجماع، إنما إنسان يراهن بكينونته كلها على حس نقدي، على الإحساس بأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة المجاملة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله أو فعله. ويجب ألا يكون عدم الاستعداد هذا، مجرد رفض مستتر هامد، بل أن يكون رغبة تلقائية نشطة في الإفصاح عن ذلك علنًا.

ارتأينا أن نبدأ بهذه المقدمة حول "دور المثقف" كما عرضها إدوارد سعيد، لحوارنا مع الباحث في الشأن السياسي والمحاضر في قسم السياسة والحكم في جامعة بئر السبع، البروفيسور أحمد سعدي*، لأن الحوار معه ساقنا إلى قضية دور الأكاديميين والمثقفين في الحيز العام، وهو دور يترواح بين الغياب والتهميش، في ساحة من أكثر الساحات حاجة لمثل هذا الدور، بفعل التركيب والتعقيد الذي يميز العمل السياسي فيها.

"عرب 48": نقولها بحق، أنت واحد من الأسماء التي غابت عن الساحة السياسية والاجتماعية في العقد الأخير، وهم كثر، ما سبب هذا الانكفاء، علما أن نتائجه السلبية بادية للعيان؟

سعدي: لا شك أن تضييق وتصفية أي حيز للنقاش المتزن والموضوعي والذي يحتمل الرأي والرأي الآخر ويتسع لتعدد الاجتهادات والرؤى على قاعدة الهدف المشترك، إضافة إلى غياب أي نوع من النزاهة والاحترام المتبادل في التعامل على مستوى الأفراد والمجموعات، وهيمنة عقلية التخوين والتكفير، يبعد الكثير من العناصر والجماعات عن ساحة الفعل الجماهيري.

"عرب 48": ماذا تقصد بانحسار الحيز المتاح للنقاش وإبداء الرأي، فنحن والحمد لله، ما زلنا مجتمعا لديه تعددية حزبية تقوم على أساس الانتماءات الأيدلوجية المتباينة؛ وأعتقد أن عهد احتكار الحزب الواحد قد مضى منذ زمن؟

سعدي: هي عقلية الهيمنة والاحتكار وعدم قبول الرأي الآخر واللجوء إلى أسلوب الشتم والردح عوضا عن مقابلة الحجة بالحجة والاستفادة من تعدد الآراء لإثراء الحالة الثقافية والفكرية واعتماد النقد في المستوى الراهن والتاريخي كأسلوب لتقييم تجاربنا والإفادة من أخطائنا لبناء مشروعنا المستقبلي على أسس سليمة خالية من الشوائب، تأخذ من الماضي صالحه وتؤسس عليه للحاضر الأفضل. تلك العقلية ما زالت معششة فينا بل هي الموجه الأساس لسلوكنا السياسي.

"عرب 48": لدى إعدادي لهذه المقابلة معك، أخرج لي محرك البحث مداخلة كنت قد قدمتها في مؤتمرعقد في لندن عام 2010 تحت عنوان الصهيونية والشيوعية، شارك فيه إلى جانبك أيضا النائب السابق عصام مخول، وصراحة، الورقة تشكل لائحة اتهام صعبة ضد الحزب الشيوعي الإسرائيلي، علما بأن الرد عليها بالقذف والتخوين غير مبرر خاصة وأنك تعرض لحقائق تاريخية من موقعك كباحث في الشأن السياسي؟

سعدي: لقد طرحت حينها تساؤلا واحدا ردا على الادعاء القائل بأن الحزب الشيوعي كان الحاضنة لشعراء المقاومة، أمثال محمود درويش وسميح القاسم، وهو، ماذا كان المقابل لإتاحة هذا الهامش من حرية التعبير؟ والجواب موجود في الورقة التي قدمتها والتي أثارت حفيظتهم، علما بأنني لم آت سوى بحقائق تاريخية سبقني إلى ذكرها العديد من المؤرخين والباحثين.

"عرب 48": لاحظت أنك اقتبست لدى الحديث عن صفقة السلاح التشيكية ما أورده المؤرخ إيلان بابي حرفيا، والذي أشار فيخ إلى "أن الحزب الشيوعي قد أدّى دورا هاما في إنجاز هذه الصفقة"، وهو (بابي) كما هو معروف كان مقربا من الحزب الشيوعي وسبق وأدرج اسمه في موقع متقدم في قائمته الانتخابية للكنيست سابقا، كما أن مؤرخين ومثقفين آخرين مقربين من الحزب الشيوعي، أمثال ماهر الشريف وسليمان بشير، قد تعرضوا لهذه الحقائق، ولم يحظوا بـ "شرف" التخوين الذي حظيت به أنت ومحمود محارب وعادل مناع وغيرهم من المحسوبين على التيار الوطني؟

سعدي: يندرج موقف الحزب الشيوعي في إطار أكثر اتساعا وشمولا، وهو موقف الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، ما يجعل مسألة تجاوزه وإغفاله غير ممكنة من قبل أي مؤرخ أو باحث كون هذا الموقف أثر تأثيرا حاسما على مجرى القضية الفلسطينية.

وعندما نتطرق إلى مواقف عينية للشيوعيين فإن الهدف هو إلقاء الضوء على هذا التاريخ، ومن الخطر بمكان أن يسلط سيف الإرهاب على رقبة المؤرخ أو الباحث لمجرد أنه يريد أن يكون أمينا على حقائق التاريخ، مثلما هو من العار أن يقمع أي صاحب رأي لمجرد أن رأيه لا يتفق مع الرأي الآخر لمجرد أن هذا الرأي هو المهيمن.

"عرب 48": كتبت عن النكبة وما بعد النكبة، عن ما تبقى من فلسطينيين تحت حكم الدولة العبرية ومحاولات السيطرة عليهم، مؤسف أن كتابيك صدرا باللغة الإنجليزية ولم يتم الاستفادة منهما بشكل مباشر؟

سعدي: المؤسف أن الكتابات الأساسية المتعلقة بالعرب في إسرائيل كتبها مستشرقون أو "مستعربون" يهود إن صح التعبير، أمثال سامي سموحة وغيره، وليس نحن، هم يعطوننا هويات ونحن نتقمصها، يضعوننا في قوالب ونحن ننساب فيها، دون أن نسأل أين نحن وكيف نعرف أنفسنا.

نحن نفتن بكتاب هليل كوهين، الذي يكتب تاريخنا من خلال رجال الأمن، ونعجب بسموحة الذي يؤيد الديمقراطية الإثنية والتطور المتوازي دون أن ندرك أن هذا نمط من أنماط الأبرتهايد، ودون أن نسأل أنفسنا أين أكاديميينا ولماذا لا يفكرون خارج الخطاب الإسرائيلي ويخرجون عن الصورة النمطية التي وضعوها لنا ولماذا لا يقومون بإظهار صورتنا الوطنية الحقيقية.

نشرت جلّ أبحاثي في الإنجليزية لأنها لغة العلم السائدة، وللأسف فإن المؤسسات العربية لا تعير اهتماما لترجمة كتاب عرب، بل تميل لنشر أبحاث أعدها مؤلفون غربيون وإسرائيليون. فمثلا كتاب "النكبة" الذي حررته مع الباحثة المعروفة عالميا ليلى أبو لغد، قبل عقد من الزمن، وهو أول إصدار عن الذاكرة الجماعية للنكبة، ويدرس في العديد من جامعات العالم، تمت ترجمته إلى الإسبانية والفارسية، لكن لم تنجح جهودنا في إقناع أي دار نشر عربية في ترجمته.

كذلك عرضت كتابي الثاني وهو بعنوان "المراقبة الشاملة" - ويعتمد على وثائق من الأراشيف الإسرائيلية - على عدة دور نشر عربية، ولكن لم تصدر من أي منها مبادرة لنشره، بالرغم من أن الكتاب حاز على مرتبة ثاني أفضل كتاب حول المراقبة والتعقب التي صدرت عام 2014. لا عجب إذ أن الفكر الاستشراقي والصهيوني منتشر محليا وعربيا أحيانا، وذلك بسبب تسارع دور النشر العربية إلى ترجمة الكتب التي يعدها مؤلفون إسرائيليون.

"عرب 48": في ورقة كتبتها لصالح مؤسسة "عدالة"، حول مفهوم الاحتجاج، وعرضه من قبل لجنة أور، قلت إن لجنة أور اعتبرت الاحتجاج العربي كنابع عن "غريزة" القطيع، في حين تم التطرق للمظاهرات التي قامت بها مجموعات يهودية وكأنها ناتجة عن تحرك ضمير إنساني، ولذلك ارتبط تصرف الشرطة والأساليب والأسلحة التي استعملتها مقابل المجتمع العربي، عضويا بفهم احتجاج العرب كفاقد لأي سياق أو وازع أخلاقي وعادل. وبناء عليه فإن التقرير جاء ليكرس علاقات القوة القائمة، وتذويت اختلال موازين القوى من قبل وعي الإنسان المهزوم، الذي يقبل أي شيء تعرضه الدولة؟

سعدي: نعم، ولذلك استغربت أن يثني رئيس لجنة المتابعة، حينها، على التقرير، ويرى فيه تعبيرا عن الديمقراطية، خاصة وأن التقرير لم يعتبر العرب في إسرائيل الذين خرجوا للتعبير عن قضية عادلة ضمن المجموعات المتضررة والتي اقتصرها على المجتمع اليهودي والعائلات الثكلى وقوات الأمن الإسرائيلية.

كما أفرد التقرير 50 صفحة لانتقاد القيادات العربية و30 صفحة لانتقاد الشرطة وأقل من صفحة واحدة لتصريحات تحريضية من قبل قيادات إسرائيلية ضد العرب.

ولو كان هنالك حيز موضوعي لدينا لمناقشة هذه الهبة الشعبية ونتائجها، لكان من الممكن تحليل وفهم هذا التقرير بشكل أصح، بعيدا عن التعميمات العشوائية التي أصدرتها قيادات سياسية وأكاديمية عربية.

"عرب 48": أخيرا، هل ترى سبيلا للخروج من مأزقنا الراهن في ضوء أزمة القائمة المشتركة وحالة الشلل السياسي الراهنة؟

سعدي: ما يحدث مؤسف جدا وهو لا يليق بممثلي جماهير واقعة تحت اضطهاد وظلم وقهر دائم، يجب أن يتوفر بينهم حد أدنى من التضامن، كانوا في قائمة مشتركة أم لم يكونوا. إنه لأمر مؤلم أن يتكرر مع باسل غطاس ما حدث مع عزمي بشارة قبل عقد من الزمن، عندما احتضن الإعلام الإسرائيلي الذي كان يفرض حظرا على النواب العرب في الكنيست، احتضن عددا من هؤلاء وأفرد لهم منصاته بهدف التشهير والتضليل والطعن بعزمي بشارة.

الأمر ذاته تكرر مع باسل غطاس، رغم انضواء الجميع تحت القائمة المشتركة، وهو ما زال يتعرض للتشهير والطعن وحتى التجريم على فعل قام به وتحمل مسؤوليته.

ولا شك أن تداعيات أزمة التناوب المرتبطة بتلك القضية، تقوم بنزع المزيد من غطاء شرعية العمل السياسي البرلماني، خاصة في ضوء افتقاد الثوابت الوطنية والضميرية والاعتماد بدلا من ذلك على الفردانية الفهلوة والعنتريات اللغوية والاستعراضات الشخصية التي لا تليق بممثلي شعب مقهور.


*أحمد سعدي بروفسور في قسم السياسة والحكم في جامعة بن غوريون في مدينة بئر السبع بالنقب. يتمحور بحثه حول مواضيع متنوعة بما في ذلك الذاكرة الجماعية؛ المراقبة والسيطرة السياسية وإدارة السكان؛ الاستعمار وما بعد الاستعمار؛ التنمية والتنمية المعاقة.
وهو المحرر المشارك مع ليلى أبو لغد لكتاب "النكبة: فلسطين، 1948 ومطالب الذاكرة" الصادر عن مطبعة جامعة كولومبيا، عام 2007، ومؤلف كتاب "المراقبة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيلية لإدارة السكان والرقابة السياسية تجاه الفلسطينيين" الصادر عن مطبعة جامعة مانشستر عام 2013؛ بالإضافة إلى أكثر من 40 مقالة بحثية وفصول في كتب علمية. عمل أستاذا زائرا في جامعات مختلفة منها: جامعة واسدا في اليابان، الجامعة الوطنية في سنغافورة وجامعة كولومبيا في نيويورك. وقد نشرت أبحاثة باللغات الإنجليزية والعربية والعبرية والألمانية واليابانية والإسبانية والفارسية.
 

التعليقات