تدوير المعنى والدلالة في سياق الخطاب الفلسطيني

لطالما سعت الدّول جاهدة إلى بناء منظومة تعليميّة وتربويّة تتوالد من خلالها ثقافة الانتماء، وفقًا لمنطلقاتٍ فلسفيةٍ ودينيةٍ وفكريةٍ تُبنى عليها، باعتبار أن لكلّ مجتمع معتقداته وثوابته وقيمه التي ينشأ عليها إيمانا واعتقادا.

تدوير المعنى والدلالة في سياق الخطاب الفلسطيني

النصب التذكاري للشهداء في جت (عرب 48)

لطالما سعت الدّول جاهدة إلى بناء منظومة تعليميّة وتربويّة تتوالد من خلالها ثقافة الانتماء، وفقًا لمنطلقاتٍ فلسفيةٍ ودينيةٍ وفكريةٍ تُبنى عليها، باعتبار أن لكلّ مجتمع معتقداته وثوابته وقيمه التي ينشأ عليها إيمانا واعتقادا.

وتعتبر المناهج كأهمّ مصادر تشكيل الوعي الثقافيّ والمعرفيّ والقيميّ لدى الأفراد، إذ تُجمل القيم والأفكار والمبادئ والتوجهات الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، التي تنص عليها الوثائق والسياسات التربويّة والتعليميّة، يتحدد من خلالها الإطار الفكريّ والقيميّ الموجب لجيل ناشئ، بوصفه المحرك لأيّ نهضة تنمويّة مستقبليّة، وفي مستعرض، لباولو فريري، ملخِّص نظريّة التعلم والحريّة، يقول فيه: "إنه لا وجود لنظام تعليمي محايد، فهو إما أداة للقهر أو محفّز للتحرير".

فهيمة كتاني غنايم

وفي سياق ما تقدّم فالمناهج العربيّة الفلسطينيّة - على جبهتي الحالة في الأرض المحتلة عام 48 وفلسطين عام 67 – بوصفها أداة ضروريّة من أدوات فرض ثقافةٍ تتبلور وفقا لرؤية وحاجة الشعب الفلسطيني التحرريّة، يتشكل معها وعي الأجيال بأبعاد قضاياها المصيريّة وواقعها المركّب، إلا أنه وعلى النقيض من ذلك، فإنّ بنيته الأساس لم تتشكل من قِبَلِ الفلسطينيين أنفسهم بناء على احتياجاتهم وقضاياهم، ولن تتشكل ما دام القرار الفلسطينيّ تابعًا، منزوع الاستقلاليّة جراء إكراهات الواقع التي تفرضها قوة الاستعمار من احتلال إحلاليّ مباشر في فلسطين 48، وإرهاصات اتفاقيّات سياسيّة مقيِّدة في فلسطين 67، وتداعيات ما أفرزته اتفاقيّة أوسلو وما تلاها من حالة تمزّق في الوعي والذاكرة، كنتاج لحالة الانهزام السياسي الخارجي والانقسام الداخلي.

فلا يمكن القبول بإخضاع الرواية التاريخيّة لشعب إلى الاعتبارات الدبلوماسيّة السياسيّة، أو اللحظة السياسيّة الراهنة، في ظل وضوح المعلومة التاريخيّة المؤكدة للحق الفلسطينيّ. والقبول بذلك لا يُشوّه التاريخ فحسب، بل يجعل الرّواية التاريخيّة رهينة التقلّبات السياسيّة للمرحلة، ومناخها المتأرجح.

وفي ظل ما نعيشه من صراع ثقافيّ وحضاريّ مع الآخر النقيض؛ تعتبر اللّغة المكون الأساس للخطاب السياسيّ والثقافيّ، والتي من شأنها تحديد رؤيتنا لكافّة مجريات أحداث العالم. وما الخطاب إلا تَوَلّدٌ لغوي أُنتِجَ في سياق معين، مبنيّ على نص له مدلولاته، ولكونه يبنى على سياق نصيّ وممارسة، نتلمُّس أركانه من خلال مظاهر الاستعمال اللغويّ، والتحولات التي طرأت عليه؛ دون إغفالِ العوامل الاجتماعيّة والنفسيّة واللغويّة في ذات الإطار.

وقد أدرك علماؤنا الأقدمون خطورة الانفصام بين اللفظ والعقل والواقع، منوها إلى ذلك أبو حامد الغزالي: "إن للأشياء وجودًا في الأعيان ووجودًا في الأذهان ووجودًا في اللّسان، أما الوجود في الأعيان فهو الوجود الأصليّ الحقيقيّ، والوجود في الأذهان هو الوجود العلميّ الصوريّ، والوجود في اللسان هو الوجود اللفظيّ الدليليّ". ما يؤكد على ضرورة التمييز بين الوجود العينيّ، والوجود الذهنيّ، والوجود اللسانيّ.

ومخالفة ذلك إنما يخلق محمولًا ثقافيّا ونموذجًا معرفيًا هجينًا، يخضع لما يسمى بـ"الإمبرياليّة اللغويّة" كما يصفها، روبرت فيلبسن، عبر كتابه "الإمبرياليّة اللغويّة"، في إحالة إلى ما يطلق عليه بمعركة الوعي وحرب المصطلحات، فالمصطلح ليس إلا تعبيرا عن مفهوم الشعوب لحقيقة وجودها، إذ تعرّف نفسها من خلاله، وبالتالي فاستيراد المصطلحات خارج سياقها، إنما يعبر بالضرورة عن معايير مشوهة لا تنطبق وقيمنا بما تعنيه ذهنيّا وفعلًا وسلوكًا.

وما نشهده في السنوات الأخيرة من ظاهرة تناسل المصطلحات، وغزوها لمفرداتنا ووعينا الجمعي، إنما تدور في إطار حرب المصطلحات التي تشنها الدول الإمبرياليّة على من يخالفها من شعوب العالم بهدف تبسيط وتسطيح الواقع، غازيةً للوعيّ العربيّ بذريعة الانفتاح على الثقافات الأخرى، مستهدفة للسياق الثقافيّ والإعلاميّ، مُنتِجَةً ما اصطُلِحَ على تسميته بثقافة الهزيمة، نجتر معها استعمالات لغويّة لا تعبر عن بيئة اجتماعية وسياسية، وإنما عن حالة اغتراب ثقافي، تستدعينا التنبّه لخطورة ذلك وتماثلِهِ مع الوعي الجمعيّ، ما يحتّم ضرورة إعادة صياغة ما يجب تداوله جمعيا وفرديا، للحفاظ على مدلولات المعنى وتعبيراته الواقعيّة والمعرفيّة والتاريخيّة.

وتعتبر معركة المفاهيم والمصطلحات من أخطر ميادين الصراع الفكريّ والثقافيّ عبر التاريخ، حيث لم يسجل التاريخ قضية من قبل اجتمعت عليها التآمرات والتقاطعات الدوليّة كما حدث مع قضيّة فلسطين.

وتجسيدا لمقولة ستيفين بيكو: "إنّ أقوى سلاح في يد القامعين هو عقول المقموعين"، فكانت وما تزال الصهيونيّة والقوى الاستعماريّة الإمبرياليّة تمارس محاولات تشويه الذاكرة الفلسطينيّة وترويض عقول أبنائها، لتصلنا كثقافة مستوردة مقولبة، تمنع رؤية قضية فلسطين بوصفها قضية استعمارية كولونيالية، وإسرائيل كيانا غاصبا محتلا، مما ساهم في خلق واقع ذهني جديد في الشرق، صَوّر إسرائيل على أنها ضحية العالم العربي؛ لهذا فالقضية الفلسطينيّة تشكّل معقلا للرمزيّة والدلالات المكثّفة؛ ما يؤكد على أنها قضيّة مركزيّة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.

بينما تتجسد خطورة ذلك الاستيراد ، بدس سمومه في عسل "تقبّل الآخر" و"التعايش والسلميّة"، وما إلى ذلك من المسميّات، وتداول تعابير رديفة تعبّر عن دلالات هجينة كـ"المناطق المتنازع عليها"، و"الوسط العربيّ"، و"إرهابيّ"، ومصطلح "الصراع" ترسيخا لصورة الندية بين قوة الاحتلال والشعب المحتل، واستخدام مصطلح "الصراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ" بهدف خلق وعي جديد مفاده بأن صراع "إسرائيل" ليس مع العالم العربيّ أو العالم الإسلاميّ، إنّما هو صراع ينحصر في فلك محاربة "الإرهاب" الفلسطينيّ والجماعات الإرهابيّة، عملًا على سلخ القضية الفلسطينية عن امتدادها القوميّ والعربيّ.

فمنذ غرَزَ الكيان الصهيوني أنيابه في جسد هذه الأرض، يسعى جاهدًا لفرض روايته النقيض وتشريعها بشتى الطرق، وأشدّها ضراوة ما تجسّد ثقافيًا وتربويًا، مع ما رافقها من عمليّات تطهير عرقي وتطهير للذاكرة الفلسطينيّة في الداخل الفلسطينيّ والقدس تحديدًا، وطمس كل مَعْلَمٍ يدلل على عروبتها وإسلاميتها وامتدادها الحضاريّ والإنسانيّ.

مستعينة بنصوص توراتيّة مختلقة، فُصّلت لتشريعها كمسوّغات صهيونيّة إسرائيليّة تمارس من خلالها أفظع جرائم التاريخ الحديث.

عروجا على ما تقدم ومع إحيائِنا كل عام لذكرى ما يطلق عليها في الداخل الفلسطيني "هبّة أكتوبر"، فمن الملفت أن عجّت وما تزال صفحات التواصل الاجتماعيّ بهذه التسمية، في إشارة إلى أحداث هبّة القدس والأقصى، والتي امتدت شعلتها إلى كافة الأراضي الفلسطينيّة لتنصهر أمامها كل الحواجز التي عمل الاحتلال على تشييدها بين فئات شعبنا في الداخل لسنوات طويلة، فكانت المفاجأة صادمة لساسة القمع الإسرائيليّ، ما حدا بهم إلى استخدام الرصاص الحيّ في مواجهة الوعي الجمعيّ لهذا الشعب، وقتل عدد من أبنائنا كي يعود أدراجه من خلال الترهيب والقمع والقتل.

وبما أنّ حيفا والناصرة وسخنين وكفر كنا وعرّابة والمثلث والنقب، جميعها تشكل جزءًا من أرض فلسطين التاريخيّة المحتلة، فلزاما عليها أن تكون في مقدمة العمل الوطنيّ الفلسطينيّ حالما يستدعيها الواجب الوطنيّ، ولا مبرر لإطلاق مسمّيات تختلف بمعناها ومضمونها عن الحالة التي عصفت بكافة الأراضي الفلسطينيّة في حينه؛ فشهداؤنا في الداخل هم شهداء الشعب الفلسطينيّ وانتفاضة القدس والأقصى، وليسوا شهداء "هبة أكتوبر" التي لا ترتبط بالحدث إلا بتزامن وقوعه في شهر أكتوبر، وإلا لسميت بهبّة أيلول لو استقدمت شهرًا، أو هبّة نوفمبر لو تأخرت شهرًا.

وعليه فثمة حاجة لتحرير خطابنا من سلاسل الخطاب الكولونيالي، وإعادته إلى سياقه الأصيل، عبر تكوين مصطلح وطنيّ يغذي الوعي الجمعيّ، ويحفظ الهويّة والأرض والإنسان الفلسطينيّ. وما عدا ذلك سيبقى الوعي الفلسطينيّ رهين قوالب اصطلاحيّة تخدم سرديّة الاحتلال السياسيّة والدينيّة.

فالذاكرة الجمعيّة تعد إحدى أهم الروافد الأساسيّة لتشَكُل الهُويّة، وجبَ الحفاظ عليها باعتبارها مكونا أصيلا من مكونات الرواية؛ وما هويّة شعب إلا روايته.


فهيمة كتّاني - غنايم: محاضرة في أكاديميّة القاسمي – باقة الغربيّة، باحثة مهتمّة بالشأن الثقافيّ والسياسيّ الفلسطينيّ والعربيّ.

التعليقات