كرة القدم... من ذاكرة منشأ اللعبة

لم يقتصر تطوُّر لعبة كرة القدم الإنجليزيّة على مدارس الأطفال ومصانع العمّال، بل للجيش دور في صناعة ما أطلق عليه كريستوفر فيرارو بـ"كرة القدم العسكريّة" في إنجلترا الفيكتوريّة

كرة القدم... من ذاكرة منشأ اللعبة

(Getty Images)

"قال وليلنغتون (Wellington) ليس هناك شكّ في أن تعليم الأولاد الإنجليز الكريكيت وكرة القدم، قد مكّنهم من الذهاب إلى الهند، وقد شقّوا طريقهم من الجزيرة إلى الجزيرة في المحيط الهادئ، أو الخضوع لمواكب الإرهاق في مصر. لقد علّمتهم كرة القدم خبرات العمل، والمقاومة، وقد علّمتهم ضربة الكرة الأخذ والعطاء".

هذا ما قاله هاسلام (Haslam)، مدير مدرسة ريبون للأولاد عام 1884 في إنجلترا الفيكتوريّة، حيث كانت كلّ من مدارس محاربة عمالة الأطفال، ومصانع العمّال، وثكنات وحدات القتال، تسير جنبا إلى جنب في صناعة أكثر رياضة صارت وطنيّة وشعبيّة في التاريخ الحديث... كرة القدم.

في كتابه "الإمبرياليّة والهويّة الثقافيّة وكرة القدم"

يحاول كريستوفر فيرارو تتبُّع الكيفيّة التي نشأت فيها كرة القدم في إنجلترا الفكتوريّة، عبر مدارس الأطفال ومصانع العمّال، ثمّ الجيش الإنجليزيّ الاستعماريّ، الذي أضحت كرة القدم بحلول نهاية القرن التاسع عشر، اللعبة الأكثر شعبيّة بين وحداته العسكريّة، إلى حدِّ إنشاء وحدة إداريّة في الجيش مهمّتها التخطيط لبطولات كرة القدم، ثمّ دور الجيش بمجنّديه وموظّفيه في حمل اللعبة إلى المستعمرات.

صورة غلاف الكتاب

أطفال وعمّال

كانت بريطانيا في نهايات القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، هي مهد المجتمع الصناعيّ الأوروبيّ، وثورته التي ترتَّب عليها ظهور أسوء ظاهرتين اجتماعيتين فيها؛ استغلال العمّال وعمالة الأطفال. وبالتالي، إن نشوء لعبة كرة القدم كرياضة "وطنيّة شعبيّة"، قد انبثق عن تشريعات قانونيّة هدفت لمنع عمالة الأطفال واستغلال العمّال، منها قوانين سُنَّت على إثر تقرير لجنة سادلر 1832، الذي استفاض بشكل مفصَّل في شرح ظروف العبوديّة التي يعمل في ظلّها الأطفال، ممّا أفضى إلى انزعاج المجتمع، وتحرُّك أعضاء البرلمان لإجراء التعديلات وسنّ القوانين مثل قانون الصناعة عام 1833، الذي أوجب ساعتين من الدراسة للأطفال يوميًّا، كما نصَّ على عدم إلحاق أي طفل دون سنّ التاسعة بالعمل إطلاقا. ثمّ ازدادت ساعات تعليم الأطفال إلى ثلاث ساعات يوميًّا، وقيد ساعات عملهم على ساعتين ونصف الساعة في اليوم مع تحديث قانون الصناعة عام 1844، حتّى أقرّ البرلمان في عام 1870 قانون التعليم، والذي كان الأول من نوعه في العالم، والذي أُنشئت على إثره المجالس المحليّة والتي خصّصت بدورها موارد لاستيعاب الأطفال، وبناء المدارس في المناطق المحرومة منها.

(توضيحية - Getty Images)

أما عن العمّال المستغلّين، فبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خفّضت التشريعات القانونيّة البريطانيّة للعمّال من ساعات عملهم الأسبوعيّة، وزادت من أجورهم، الأمر الذي ساهم في تشكيل الطبقة الوسطى العاملة، التي ستنعم بحقّ "الدخل وساعات الفراغ".

قاد منع عمالة الأطفال إلى "التعليم الإلزاميّ"، كما قاد منع استغلال العمّال إلى "ساعات الفراغ". وقاد الأمران بدورهما إلى ممارسة اللعب، وتحديدا كرة القدم، فالإشكالات الاجتماعيّة الجماعّية المتّصلة بالأطفال والعمّال، دفعت إلى ابتكار ممارسة ألعاب جماعيّة، منها لعبة الكريكيت، وكذلك كرة القدم.

المدارس الفيكتوريّة

كان لأفكار ما عُرف بـ"المسيحيّة القويّة" أو "المسيحية العضلية"(*) في إنجلترا الفيكتوريّة، كبير أثر في إعطاء تفسير دينيّ - أخلاقيّ لضرورة إلزام أطفال المدارس بممارسة الرياضة ولعب الكرة، من حيث أنها تُسهم في تطوير الأخلاق المسيحيّة، واللياقة البدنيّة والشخصيّة القويّة. وكان ثمّة اعتقاد، بأن مبادئ الفرق الرياضيّة، يمكن أن تُسهم في تنمية الرجل المثاليّ للمسيحيّة العضلية القويّة. إضافة إلى أفكار أخرى، كان قد عبّر عنها أحد رواد المسيحيّة العضلية القويّة، وهو تشارلز كينجسلي (Charles Kingsely)، المتّصلة بالرياضة، وأثرها في توليد الشجاعة والولاء والانضباط.

يشير كريستوفر فيرارو في كتابه إلى أهمّ المدارس الإنجليزيّة الفيكتوريّة، ودورها في تثبيت "اللعب الإلزاميّ" في مناهجها التعليميّة، والسّجلّات المُلزِمة لمشاركة الطلاب في مسابقات لكرة القدم، منها المسابقات التي أُقيمت في مدارس مثل مدرسة "هارو" عام 1850، ومدرسة "مارلبورو" عام 1859، وعام 1864 في مدرسة "أوبنغهام". كما أشار فيرارو إلى نشأة نظام "المدرسة الداخليّة"، التي عزّزت وكثّفت من ظاهرة مسابقات الفرق الرياضيّة لكرة القدم. ثمّ انتقال لعبة الكرة إلى خارج أسوار المدارس، حيث الجامعات وتشكيل الفرق الكرويّة الجامعيّة الإنجليزيّة، والتي ارتبط فيها وضع أُسس قوانين كرة القدم الحديثة المعروفة بـ"قوانين كامبريدج"، نسبة لجامعة كامبريدج الإنجليزيّة، حيث اجتمع ممثلو الفرق الكرويّة الجامعيّة فيها، وأقرّوا قواعد اللعبة في عام 1848.

كرة المصنع

إذا كان لمدارس إنجلترا الفيكتوريّة وجامعاتها دور في تعميم كرة القدم وتطوير قواعدها، فإنّ للمصانع العمّاليّة دور في ذلك، وفي إنشاء ملاعب الكرة، وخصوصا المصانع الحربيّة المتصلة بالجيش الإمبراطوريّ. إن نادي فريق "آرسنال" المشهور إلى يومنا هذا، تعود أصوله إلى مصنع آرسنال للأسلحة والذخيرة، حيث لعب عمّاله كرة القدم بعد أن مُنحوا في سنة 1886 بشكل غير رسميّ، إجازة يوم السبت للتسلية، ما حدا بهم لإنشاء نادي "دايل سكوير (Dial Square)"، والذي عُرف في ما بعد بنادي آرسنال لكرة القدم.

ضباط وعناصر أمن بريطانيّ يلعبون الكرة (Getty Images)

لقد طوّرت العديد من المصانع الحربيّة وغير الحربيّة، فرقا للعب كرة القدم منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثل نادي مصنع الذخائر "رويال أوردانس (Royal Ordance)" عام 1892، ونادي عمّال "نيوتن هيلث لانكشاير (Newton Helath Lancashhire)"، ونادي يوركشاير للسكك الحديدية الذي صار من أشهر فرق الكرة في العالم، حيث يُعرف اليوم باسم "مانشستر يونايتد" لكرة القدم.

ظلّت لعبة كرة القدم في إنجلترا الفيكتوريّة تجري في الحقول المفتوحة حتى سبعينيّات القرن التاسع عشر، إلى أن بدأ إنشاء الملاعب المستطيلة المُخصّصة للعب الكرة. كانت مواقع إقامة الملاعب في حينه مرتبطة بمواقع محطّات السكك الحديديّة التي صارت وسيلة النقل الأهمّ في ظلّ الثورة الصناعيّة الإنجليزيّة، فمثلا ملعب "ستامفورد بريدج (Stamfrad Bridge)"، والذي يلعب فيه نادي تشيلسي لكرة القدم، بُني عمدا بجوار محطّة مترو وأنفاق "فولهام برودواي (Fulham Bradway)". وقد انتقل لاخقا نادي آرسنال لكرة القدم من منزله الأصليّ في وليتش إلى هاي بيري شماليّ لندن، كي يكون بالقرب من محطّة "بيكادلي (Piccadilly)".

كان الرابط بين موقع ملعب كرة القدم وموقع محطّات سكك حديد القطار هو الجمهور، لتسهيل حضوره إلى الملعب، ومن هنا بدأت تتحوّل كرة القدم في إنجلترا الفيكتوريّة من لعبة الهواة إلى الاحتراف، إذ ساهمت فكرة حضور جمهور المشجّعين على تنظيم ملاعب مخصّصة للعب والمنافسة، ورأسماليّة بيع التذاكر، ممّا دفع الاتحاد الإنجليزيّ لكرة القدم إلى الموافقة في نهاية موسم 1884 - 1885 على التصريح باحترافية اللاعبين، بحصول اللاعب الرياضيّ على أجر كمقابل بسيط لخدمته.

الكرة العسكريّة

لم يقتصر تطوُّر لعبة كرة القدم الإنجليزيّة على مدارس الأطفال ومصانع العمّال، بل للجيش دور في صناعة ما أطلق عليه كريستوفر فيرارو بـ"كرة القدم العسكريّة" في إنجلترا الفيكتوريّة. تطوّرت لعبة كرة القدم في الجيش البريطانيّ مع فيلق المهندسين الملكيّ، الذي كانت وحدات تدريبه المحلية تقع في شاتام Chatham والدرشوت Aldershot في إنجلترا.

كانت من مهامّ سلاح المهندسين في الجيش منذ منتصف القرن التاسع عشر بناء الجسور، وإنشاء السّكك الحديديّة، والعمليّات المرتبطة بإعداد التليغراف، وغوّاصات الدفاع، ممّا تطلّب طلابا جامعيين ورجالا لديهم مهارات تكنولوجية. وقد نمت لدى هؤلاء تقاليد رياضات جماعيّة وفرديّة، وأهمّها كرة القدم. ولقد عُرف اتحاد نادي المهندسين الملكيّ لكرة القدم باسم "كرة القدم العسكريّة (Sappers)"، وهو أوّل فريق عسكريّ ينضمّ إلى الاتحاد الكرويّ الإنجليزيّ.

رسمة تظهر مجموعة من الأطفال يلعبون الكرة التي كانت تُلعب في الحقول (Getty Images)

كما شقّت لعبة كرة القدم العسكريّة طريقها إلى البحريّة الحربيّة الملكيّة الإنجليزيّة، وكان دافع البحريّة الحربيّة لكرة القدم هو لمواجهة الملل أثناء أشهر طويلة يمضونها في البحر. وعموما فإنّ ألعابا كثيرة كانت قد انبثقت عبر التاريخ عن ظهر السفن، خصوصا ألعاب المقامرة والميسر، وذلك بدافع كسْر رتابة الإبحار التي كانت تستمرّ أشهرا، ممّا كان يؤدي إلى ضجر المبحرين إلى حدّ انتحار بعضهم في بعض الأحيان.

يشير فيرارو في كتابه إلى تقارير عن القوات البحرية الإنجليزيّة، ورد فيها أنّ كل سفينة تقريبا في عام 1896، كانت تضمّ فريقا لكرة القدم، يدخل المنافسة عندما تكون السفينة في الميناء. وأشار كذلك إلى منافسة السفن على كأس كرة قدم الأسطول المتوسطيّ، وإلى أهمّ فرق السفن التي فازت بالكأس في سنوات مختلفة ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

ولمّا اندلعت الحرب العالميّة الأولى سنة 1914، كانت كرة القدم العسكريّة واحدة من أدوات التعبئة على بثّ الروح الوطنيّة داخل ثكنات الجيش البريطانيّ، خصوصا بعد أن أنشأت البحريّة الملكيّة "اتحاد المارينز الملكيّ لكرة القدم" في بداية عام 1900. وأثناء الحرب، جرى تشكيل فوج "ميدليكس (Middleex)" الذي احتوى على كتيبة الخدمة 17 (كرة قدم). وكان الغرض من هذا الفوج تجنيد اللاعبين المحترفين والهواة على حدٍّ سواء، من خلال منحهم وحدة تجمعهم مع زملائهم من لاعبي كرة القدم. وسرعان ما أصبحت هذه الوحدة معروفة بشكل غير رسميّ، سواء في الجيش أو الصحف، باسم كتيبة كرة القدم.

كانت مجلة "بونش (Punch)" البريطانيّة الساخرة، تعمل خلال الحرب على رسم رسوم كارتونيّة تشجّع لاعبي كرة القدم على الانضمام إلى الجيش. كما قام الجيش البريطانيّ نفسه بنشر سلسلة ملصقات بغرض تشجيع الرياضيين على التجنيد، ومن هذه الملصقات: "العَب المباراة الكبيرة وانضم إلى كتيبة كرة القدم"، والمقصود بالمباراة الكبيرة هي الحرب. ويقول كريستوفر فيرارو، إنّ جهود المجلات العيكريّة وملصقات الجيش لم تذهب هباءً، ففريق "القلوب (Hearts)" وهو فريق كرة قدم احترافي في إسكتلندا، قد انضمّ بأكمله وبشكل جماعيّ إلى الجيش البريطانيّ في نهاية السنة الأولى من الحرب. ويعني تعبير "لمسة الحزن" في ذاكرة الجيش البريطانيّ مقتل سبعة من لاعبي فريق "القلوب"، أثناء القتال في فرنسا.

مشاهدة مباراة عام 1929؛ "كانت كرة القدم العسكريّة واحدة من أدوات التعبئة على بثّ الروح الوطنيّة داخل ثكنات الجيش البريطانيّ" (توضيحية - Getty Images)

أُقيمت المباريات الكرويّة خلال الحرب، لدبّ الروح الوطنيّة وبثّها أوّلا، ومن ثم لتعبئة المجندين، إضافة إلى جمع الأموال للمحاربين القدامى... إنّ ما جعل كرة القدم ممارسة للسياسة بوسائل أخرى ومختلفة، إلى حدِّ القول بإصلاح الكرة لما أفسدته الحرب؛ يعود إلى ليلة أعياد الميلاد من عام 1914 أثناء الحرب، حين همّ الجنود الألمان والإنجليز، المتناحرون في خنادق قرية "لاشبابيل دي أرمينتيريس (Lachapelle d Armentieres)"، وشرعوا في ترتيل أغاني الميلاد، ولم تكتمل ليلة الإخاء اليتيمة تلك بين جنود الجيشين المتحاربين، إلّا بعد أن ألقوا أسلحتهم وشاركوا في مباراة كرة قدم.


(*) المسيحيّة القويّة أو العضلية هي حركة دينيّة رياضيّة في العصر الفيكتوريّ. ولم تكن حركة تسعى فقط لبناء الجسم عن طريق الرياضة، فإلى جانب ذلك، كانت تقوم على مجموعة من القيم منها العمل الجاد، واللعب النزيه وغيرها.

التعليقات