26/01/2005 - 18:04

طريق الأدب العربي الى المستقبل.. وصعود الرواية /فيصل درّاج

طريق الأدب العربي الى المستقبل.. وصعود الرواية /فيصل درّاج
ليس مستقبل أدب معين, عربياً كان ام غير عربي, إلا حاضره, ذلك ان الحاضر هو الزمن الذي انتهى إليه الماضي وينطلق منه المستقبل معاً. وهذا ما يجعل من قراءة الأدب العربي في الحاضر مدخلاً لاستبصار احواله المقبلة, ولو بمقدار. تستطيع هذه القراءة ان تأخذ بأحد طريقين, عنوان احدهما: القراءة الاجتماعية للأدب, حيث الأدب محصلة لشروط القارئ والأديب الاجتماعية, وعنوان ثانيهما: القراءة الأدبية للمجتمع, التي تعيّن الأدب مرآة لمساءلة ما هو خارجه وداخله في آن معاً. وعلى رغم تداخل الطريقين, في حدود معينة, فإن التاريخ الأدبي للمجتمع كان دائماً اكثر وضوحاً من التاريخ الاجتماعي للأدب.

تحيل الطريقة الأولى على جملة معقدة من المواضيع, مثل حرية الإبداع, التي تستدعي الرقابة, رسمية كانت ام اجتماعية, والمؤسسة الأدبية, التي تتعين بالحقل الاجتماعي للأدب, المتمثل بالمجلات المختصة والتعليم الجامعي وجمهور القراءة والسوق الأدبية, والمتخيّل الاجتماعي, الذي ينصر الأدب إن كان متخيلاً مدنياً مستقبلياً, والذي يعوّق, او يهدم, شروط الظاهرة الأدبية, إن كان متخيلاً ماضوياً موزعاً على فئات غير متجانسة, بعيدة من واقع المجتمع المدني, الذي لا يكون الأدب إلا به. فإذا كان الأدب في إنتاجه واستقباله وتوزيعه, ظاهرة حديثة, فإنه لا يتحقق إلا في مجتمع حديث, يشكل الأدب فيه علاقة داخلية, تتجاوز جمهوراً ضيقاً يقترب من الهامشية... ومع ان الأدب العربي, بالمعنى الحديث, عرف الصعود والارتقاء, بأشكال لا متكافئة, فإن ما أنجزه اصطدم, ولا يزال, بعوائق اجتماعية كثيرة, تزايدت في العقدين الأخيرين تزايداً ملحوظاً, بدأت بالرقابة الرسمية وانتهت بالاستنكار الاجتماعي للإبداع الأدبي. ولعل هذا النزوع, الذي همّش الأدب تهميشاً مأسوياً, تصرّح به دور النشر الى حدود الوجع, هو ما تقول به القراءة الأدبية للمجتمع, حيث التفكك والتقوّض والتداعي هو موضوع الرواية العربية الأثير, منذ ربع قرن من الزمن على الأقل, وحيث الشعر, كما المسرح, يرى قارئاً يتناقص يوماً بعد يوم. وإذا قبل القارئ بما تقول به الرواية العربية, وهو الجنس الأدبي الأكثر واقعية ووضوحاً وكفاحية, وجد نفسه امام مجتمع غريب, يخترع زمناً خاصاً به ويهرب من الأزمنة الإنسانية.

ليس سؤال الأدب العربي, في حاضره ومستقبله, معاً, إلا سؤال الحداثة العربية المخفقة, التي استولدت ادباً جديداً, على رغم اسئلة كثيرة, في زمن ميلادها, والتي جرّت الأدب الى حيز محاصر, وهي تدخل في مرحلة الأفول. فقد ولدت الرواية العربية, قبل قرن من الزمن تقريباً, في فضاء اجتماعي وليد, يقبل بـ"ثقافة الآخر" يستورد منه الرواية وألواناً من الثقافة مختلفة, ويرضى بمتخيل اجتماعي متعدد, بعضه يحنّ الى الماضي وبعض آخر يتطلع الى محاكاة النموذج الأوروبي, ويرى الى الآخر, داخلياً كان ام خارجياً, ويعترف به مبتعداً, ولو نسبياً, عن يقينة صارمة, توزع البشر على خير وشر لا يلتقيان. وهذه العناصر, التي تحتقب الحوار والاعتراف بالآخر ونسبية المعرفة والانشداد الى المستقبل, هي التي سمحت بظهور الرواية وكوّنت عناصر بنيتها الداخلية. ولم يكن النقد الأدبي مختلفاً في مساره, منذ ان ترجم سليمان البستاني بشغف كبير إلياذة هوميروس, وقارن روحي الخالدي بين فيكتور هوغو والشعر العربي, واستعان العقاد والمازني بالرومانسيين الإنكليز في نقد شوقي, واتكأ طه حسين على ديكارت وهو يقرأ المتنبي قراءة غير موفقة... ويمكن القول ان التوق الى معرفة جديدة, تزيح المعرفة القديمة عن مواقعها, كان في اساس صعود الأجناس الأدبية العربية الحديثة, التي قاسمها قارى جديد الفضول والنزوع. وفي الحالات جميعاً كان هناك, دائماً, الاعتراف بالمستقبل وبمثل وغايات وأحلام تنتمي إليه, وبالاعتراف اكثر بأن الأجناس الأدبية "الوافدة", وهي قوام الأدب العربي الحديث, وتتفق مع المستقبل وتأتلف مع المشروع المستقبلي, مسرحية كانت ام رواية ام قصة قصيرة, ام نقداً يجمع بين فيكتور هوغو والعرب.

لا غرابة, إذاً, اعتماداً على مشروع ثقافي يجمع بين المجتمع والمثقفين, ان يعثر الأدب العربي, على نهضته الثانية, بعد منتصف القرن الماضي, حيث محفوظ يعطي الرواية العربية تأسيساً وولادة جديدين, والقصة القصيرة تزدهر في صفحات يوسف ادريس وسميرة عزام وزكريا تامر, وينتقل المسرح من الريحاني الى آفاق نعمان عاشور وميخائيل رومان في انتظار مسرح سعدالله ونوس... كان الأدب العربي في هذا كله علاقة اجتماعية تحايث علاقات اجتماعية اخرى, وكانت الممارسة الأدبية الصاعدة ممارسة جديدة تجمع بين الأديب والقارئ معاً. ولعل هذا الصعود, الذي يفسّر بمجتمع سياسي متعدد تؤمّن السياسة فيه تجدد الثقافة وحواريتها الداخلية, هو الذي وضع بداية "الشعر العربي الحديث" في نهاية اربعينات القرن الماضي, رداً على شعر عربي قديم يضيّق الحركة ويمنع عن الشاعر حرية يحتاجها. وما أسماء الحداثة الشعرية العربية, التي احتضنت نزار قباني وأودنيس ونازك الملائكة والسياب والبياتي وصولاً الى الماغوط ومحمود درويش, إلا التعبير المطابق عن تحولات اجتماعية وجدت في الشعر الحديث مرايا متعددة لها.

وإذا كان في صعود اجناس ادبية جديدة ما يعبر عن تحولات اجتماعية, فإن في تراجع هذه الأجناس, في شكل لا متكافئ, منذ عقدين وأكثر, ما يكشف عن تحولات مغايرة, ترفض الحداثة العربية مع الأجناس الأدبية التي جاءت بها. ولهذا يشكو ناشر نجيب محفوظ من "القارئ الجديد", الذي لا يُقبل على "كتب الأستاذ", مثلما كان يفعل "القارئ القديم". ويشكو الشاعر الحديث, الذي استقر في جيلين, من غياب "جمهور الشعر", الى درجة تجعل دور النشر لا ترحب إلا بأسماء قليلة, اما سعد الله ونوس, الذي اكد دائماً بأن المسرح فن جماعي واجتماعي, فقد زهد بتحريض "المتفرج", قبل رحيله بسنوات كثيرة. يقوم الأساسي في هذا كله في مقولات واضحة محددة هي: القارئ, الجمهور, المتفرج, التي يحتاجها الازدهار الأدبي, لسبب بسيط يقول: لا إنتاج بلا استهلاك, او لا إرسال بلا استقبال, او لا أدب بلا جمهور يعترف بالأدب ويحاوره. وبداهة فإن المقولات السابقة لا تحيل على نقص في "المواهب العربية" ولا ترد الى عقم في المتخيل الأدبي العربي ولا تقول بـ"جوهر عربي" يعادي الإبداع ويحزّ اعنــاق المبدعيــن, بل تستدعي علاقة وحيدة مسيطرة مهيمنة هي: "السلطة السياسية, التي تنتج ممارساتها المتعددة جمهــوراً يؤيد الإبداع او يحبّذ التكفير, وتخلق متفرجاً يذهب الى المسرح او الى "فرجـــة بذيئــــة", وتعطــي قارئــاً يقبــل بالمتنوع والمتـجـدد او يكتفـي بعادات تنهى عن القراءة.

اسباب سلبية كثيرة, لا ضرورة للتذكير بها, اعطت علاقة القارئ بالقراءة صيغة جديدة: فإذا كان العقل المتفتح الطليق يجعل من المقروء نصاً متفتحاً مملوءاً باحتمالات التأويل, فإن الواقع العربي, وبنسب لا متكافئة, انتج عقلاً مغلقاً مسكوناً ببداهات اخيرة, لا تأتلف مع الإبداع الأدبي, الذي يطرح الأسئلة ويبتعد عن الإجابات الإيمانية المغلقة. انتهى هذا الواقع الى صيغة محددة هي: الكتاب/ المتلقي, حيث التلقين والاستظهار المستبدين هما قوام القراءة وجوهرها, على مبعدة عن صيغة تطابق الإبداع الأدبي, تقول بـ: النص/ القارئ, حيث حوار القارئ الطليق مع الكتاب يحوّل الأخير الى نص بقدر ما يحوّل المتلقي الى قارئ. يظهر هنا معنى التربية الاجتماعية, التي تعترف بالأنا المفرد, كما النصوص المفردة, او تلغيها, بقدر ما تتكشف حدود المتخيل الاجتماعي, المتنوعة في التربية الديموقراطية, والمتماثل الى حدود الفجيعة في ازمنة التداعي والانحطاط. والمسألة كلها انه لا وجود للأدب بمعزل عن متخيل متعدد في القراءة والكتابة معاً. وربما يطرح سؤال مستقبل الأدب العربي الحديث, الذي لا يزال متمسكاً بماضيه, سؤالاً اكثر مأسوية وإيلاماً, يمس الديموقراطية والمجتمع العربي وطول عهد الأخير بغياب الديموقراطية, والسؤال هو: ما آفاق الأدب العربي, الذي يحتاج الحوار الاجتماعي وحرية التعبير, في مجتمع ادمن على تقديس العادات الى حدود الاستسلام, ورأى في الثبات السلبي الذي يعيشه خصوصية جوهرية ينبغي الحفاظ عليها والدفاع عنها؟

إذا كان كل مركز لا وجود له إلا بهامش متجدد مغاير لا سبيل الى إلغائه, فإن افق الأدب العربي الحديث, وبأقساط غير متعادلة, يأتي من هامش خاص به عنوانه: الاستقلال الذاتي النسبي للظواهر الأدبية التي اعطاها تاريخها الخاص بنية متميزة, قابلة للقمع والتراجع وغير قابلة للضمور والزوال. والمثال الأوضح, في هذا المجال, هو الرواية العربية التي اصبحت, على رغم السلب العربي المتكاثر, ثابتاً من ثوابت الثقافة العربية الحداثية, لا تمسها الرقابة ولا تتلفها ثقافة الأدعية ولا تئدها عادات القراءة. فبعد عقد من الزمن لا تزال الرواية قادرة على المسير, بل انها لا تسير إلا بفضل ما انجزته خلال قرن, وهو ما يعطيها مرونة كبيرة, تمتد من القاهرة الى بيروت وصولاً الى جهات في المغرب والخليج العربيين. وبداهة فمن السخف القول بـ"انقراض الشعر" أو "الموت النهائي للقصة القصيرة", او باندثار حتمي لما جاء به الخالدي والبستاني والعقاد ومحمد مندور وغيرهم من النقاد العرب.

لا شيء يهزم تماماً, ولا شيء يضمحل على رغم التحولات, طالما ان كل مركز لا وجود له إلا في هامش يصارعه ويعده بأكثر من مفاجأة. فسواء كانت المعايير النقدية, صارمة او مخلوطة بتفاؤل رخيص, فمن الصعب العثور على إجابات حاسمة, لأن الجواب الحاسم اساءة الى المنهج, قبل ان يكون دعوة الى تشاؤم مكتمل لا نفع فيه. فإذا لم يكن بإمكان الأدب العربي ان يحقق وثبة في المستقبل, وهو ما تقول به معطيات الحاضر, فإنه سيحتفظ بالتأكيد بهامش مقاوم, هو الأكثر حياة ونضارة في ثقافة عربية معاصرة, تقترب من السبات, على رغم مساهمات مضيئة قليلة.

(عن "الحياة")

التعليقات