08/07/2010 - 00:50

لعبة الهروب/ جورج جريس

لعبة الهروب/ جورج جريس
يوميا كنت أتسكع مع الشباب في الحارة بجانب المكان المحظور. يفصفصون حبات البزر ويفصفصون الرائح والآتي، من نساء تلبسن تنانير قصيرة فيغرقن في شر تعليقاتهم, وسيارات فخمة تصدح فيها موسيقى لم تكن موسيقى فيتعارك الشباب في معرفة طراز السيارات ومن منها الأفخم والأجمل.
رغم أحاديثهم الدائمة والمتكررة كان عليّ أن أصغي لها وأن لا أشترك فيها فحسب وإنما أن أطأطأ رأسي بعد كل رأي أو ذوق، إيجابا.
لم يجرؤ أي من الشباب المستفحلين على دخول المكان المحظور دون أن يعرفوا, لماذا؟ ربما أهاليهم والأكبر منهم سنا اللذين فرضوا عليهم الحظر، قد عرفوا.
في هذا اليوم وبعد أن ألمّ بي وجع في الرقبة من فرط ما طأطأت وفي غضون انشغال الشباب ببزرهم وهرجهم فتحت باب المكان، لم أر شيئا في العتمة الساكنة ولم تعثر رجلي على موقع الدرجة فتدحرجت من أعلى الدرج حتى انقلبت على ظهري في أسفله. أدركت أني في قبو فُحجبت عني الرؤيا وكأنني في كتلة ضباب كثيف. استقبلني غلام أسمر نحيف يحمل بيديه منقلا حديديا تتلألأ فيه جمرات الأرجيلة. غمزني الغلام بطرف عينيه وكأنه يقول لي أني ما زلت صغيرا على هذا المكان. تقدمت إلى وسط المكان فرأيت طاولة مثمنة يكتنفها سبعة لاعبي ورق. طرحت عليهم السلام، لم يجبني أحد بكلمة سوى نظرات ثاقبة لم أفهم معناها.
طلب مني أحدهم أن أملأ الكرسي الفارغ وسألني مباشرة إن كنت أحب الانضمام إليهم في اللعب. احمرّ وجهي ولم أجبه. لم أعرف إذا كانت النقود في جيبي تكفي لمشاركتهم اللعب وأنا لم ألعب لعبة " البوكر" من قبل لكني كنت أعرف قوانينها. قلت له بعد جفول قصير أني أكتفي حاليا بالفرجة.
كانت وجوه اللاعبين معروفة لي فهم أولاد بلدي ولكن لم اعرف أنهم بمناصبهم ومراكزهم يأتون كل يوم إلى هذا المكان والذي يبدو وكأنه بيتهم فهو يحوي على مطبخ صغير وحمام لقضاء الحاجة وللاستحمام أيضا وتلفاز وإضاءة خلفية خافتة وعفش كنبات وأثاث لا بأس به.
أتى الغلام إلى الطاولة, لم أكن أعرفه من قبل. سألت نفسي: ربما ُخلق هنا؟! جاء ووزع الجمرات بين أراجيل اللاعبين فأعطاه أبو طاهر وهو صاحب المقمرة ثلاثة شواقل. هذه الثلاثة شواقل أخرجها أبو طاهر من علبة فضية وهي علبة العمولة (المانور) التي كان يقتضيها من اللاعبين. كانت العلبة زاخرة بالنقود، أتكهن أنها تفوق الخمسة آلاف شاقل وهذه عمولة ليلة واحدة. ربما وحده الذي كان يربح! فرح الغلام بالثلاثة شواقل وهرع إلى المطبخ ليحضر ساندوشات اللاعبين.
أحد اللاعبين كان يطلق عليه"الأستاذ". هو كان فعلا أستاذا لكنه اعتزل مهنة التعليم منذ زمن بعيد. كلما كان يربح يقولون: "ربح الأستاذ", "هذه حسابات أستاذ", "الأستاذ يخلط الورق بطريقة جهنمية فيجلب الورق المناسب له فيربح". (ملعوبة أستاذ). تنفرج أساريره حين يسمع الكلمة:" أستاذ". ويشعر أنه ملك الطاولة!
اللاعب الذي يجلس قبالة الأستاذ يدعى: " الأسد". كان غريم الأستاذ. له لحية بيضاء وشعر أشعت كأنه لم ُيمشط منذ شهور طويلة. سيجارته المتناهية كانت ُتشعل سيجارته الجديدة وهكذا دواليك... يتمادى في رمادها حتى يتواقح معه الأستاذ: انفض يا هذا رماد سيجارتك في المنفضة. أجابه الأسد بكلمة لم أفهم معناها لكني فهمت من أوتار صوته الأجش الباكي انه خسر زوجته الروسية التي رحلت عنه إلى روسيا منذ عشر سنوات. حين سمع الأسد أن أبي طاهر سيحضر الليلة راقصة روسية كي ُتنعنش اللاعبين انتفض في مكانه وجفل جفولا حزينا. ربما ظن أن زوجته هي الراقصة الروسية الراحلة...
لم أتوقع أن أرى المحامي وهو صديق أخي الذي رسب في امتحان تأهيل المحامين ثلاث مرات. كان ينظم لهم اللعبة ويطلب من الأستاذ بالذات أن يلعب بنزاهة وأن يحافظوا جميعهم على الهدوء فهذه لعبة الهدوء...
أسالت الراقصة الروسية لعاب اللاعبين حين أتت بفستانها المغري وأخذت تتمايل بصدرها المكشوف المكتنز على رؤوس اللاعبين. حين وصل تمايلها رأس لاعب " موظف البنك" رأيت في وجهه عبوسا واربدادا. ربما لم يحب النساء... بالرغم من تلهف اللاعبين الجنسي إلا أن فقرة الراقصة لم تطل كثيرا ففضلوا مباشرة اللعب.

هدوء شامل وانسجام عظيم عما بين اللاعبين فحين ينقض اللاعب الرابح على رصيد الربح في وسط الطاولة كان الجميع يهنئونه على الربح ويقولون:" صحتين". وحين يفتح اللاعب أوراقة لللاعب الآخر ليفسر لو مصداقية خروجه يجيبه: شريف. لكن عندما رأى الأسد ورقة " آس" مخبأة تحت كرسي الأستاذ قام القوم من كراسيهم واشتبكت الأنياب وقامت القيامة. محاولات المحامي في تهدئة الوضع باءت بالفشل. حاولت أن أنفذ بريشي وأن أخرج من المكان ولكن سرعان ما حل السلام بين الجميع. مهما تصارعت القلوب فتبقى اللعبة سيدة الاحكام...ويبقى المكان بيتهم... قال لي الأسد بصوته الأجش:" أرى فيك لاعبا ماهرا". أخرجت كل ما في جيبي, حوالي المأتي شاقل، لكني خسرتها جميعها في غضون دقائق. من أنا بين هؤلاء المخضرمين؟ هم يعرفون كل صغيرة وكبيرة في فنون اللعب. لاحظ جميعهم دموع الخسارة في عيني فقال لي الأستاذ:" بعدو عظمك طري. بكرا بتصير لاعب فنان"!

ودعتهم بعد أن ألحوا عليّ المجيء في اليوم المقبل. خرجت من باب المكان مسرعا إلى شلة الشباب كي أخبرهم أني أول فحل فيهم تجرأ على دخول المكان. لم أجد أي أحد. كانت الحارة خالية. فأدركت أن الساعة متأخرة جدا والفجر بات مستعدا للبزوغ فقد داهمني الوقت في المكان دون أن ادري أني مكثت فيه أكثر من عشر ساعات...


.

التعليقات