31/10/2010 - 11:02

أتاك الربيع العربي الحزين/ رشاد أبو شاور

-

أتاك الربيع العربي الحزين/ رشاد أبو شاور
ارتبطت بعض الأشهر في ذاكرتي الطفلة بأمثال، وأغان، وألعاب، غابت هذه الأيام عن الأجيال الجديدة...

فمثلاً أنا لا أري أطفالاً أشباه عراة يركضون مرتجفين تحت المطر، وهم يتقافزون، ورؤوسهم مبتلة، وأسمالهم تقطر ماءً بارداً، وهم ينشدون مبتهجين بتسلل أشعة الشمس من بين الغيوم الشتائية الرمادية الثقيلة:
شمّست شميسة
في دار أبوعيشة
سيدي في المغارة
ذبح قطّة وفارة
وما عدت أسمع الأمثال عن الأشهر كما في أيّام زمان...
لقد تذكّرت بعض ما سمعته عن شهر شباط، فبراير، محرّم، وهو يقسو علينا ببرده القارس هذا العام.
شباط الخبّاط بيشبّط وبيخبّط وريحة الصيف فيه...
وثمّة مثل يقول: مثل شباط ما عليه رباط... (وهذا المثل يقصد به الشخص المراوغ، القلّب).

شباط باغتنا هذا العام، وتصرّف بقسوة مّما اضطرنا للوذ بالبيوت، والاستدفاء بكّل ما ملكت بيوتنا من وسائل تدفئة قديمة وحديثة، وارتداء ما ثقل من الملابس عند الاضطرار للخروج من البيت للتزوّد بالحاجيات.

وما صدقنا وشباط يحل عنّا، غير مأسوف عليه ـ وبرأيي إنه يستحق أن يكون شهراً قصير القامة بين إخوانه الشهور بسبب تقلباته، وزعرنته ـ رغم أنه حاول إصلاح الأمر معنا بما أشاعه من دفء في بعض الأيام، لكن الرشح، والسعال، تركا له في صدورنا وحناجرنا ذكري سيئة يصعب إصلاحها...

آذار الذي يقول المثل عنه: آذار الهدّار مرّة غطيطة ومرّة مطار ـ الغطيطة هي الضباب ـ وهو كما في المثل مشمس تارة، غائم تارة أخري.

آذار شهر الربيع، ورغم لذعاته الشتائية فإن أزهاره تبهج العين وتشرح النفس، وتبشّر بفصل البراعم والزهور والعطر الفوّاح...
أشجار المشمش، والدرّاق، والتفّاح، والخوخ، تفتّحت براعمها، وهاجت أزهارها، ومهرجان الألوان يأخذ النفس، فهو يبهر...

وقديماً قال جدنا (البحتري) الشاعر العبّاسي:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتي كاد أن يتكلما
وها هو الربيع يتكلّم بلغة نباتية بليغة، فالأزهار الصغيرة الأوراق هي بيضاء ناصعة في كؤوس من النارنج، وهاهي أزهار بيضاء مشرّبة بلون زهري شفّاف لا تدرك كيف تمّ مزجه، وهما الأبيض والأصفر يتداخلان، ثمّ ها هو لون مزيج من الأحمر والأزرق يشكّل لوناً لازورديّاً عجيباً...

أيام زمان، في الأعراس الفلاّحية كنت أسمع المغنّي ينشد:
ملعون أبوكي ما أكوسك ـ يعني ما أحسنك، ولعلّ أصل الكلمة من الكياسة ـ يا بلادنا.
ثمّ يطلع بصوت رخي:
زهر البنفسج يا ربيع بلادنا
وها هو النرجس بأوراقه الخضراء الرشيقة، وأزهاره الفوّاحة العطر، واحتفاء أضع شريط الشيخ زكريا أحمد في المسجّلة، وأطرب لصوته ممزوجاً بمهرجان الألوان في الغراس الصغيرة، والأشجار الكبيرة التي تنتشر في البيوت المجاورة:
ورد يا روح يا روح الروح...
إلي أن يسلطن، ويرسل كل ما في حنجرته من جمال رجولي ربّاني:
شوف الزهور بقي واتعلم
شوف يا بني آدم شوف، شوف
والبني آدم لا يشوف، وإن شاف لا ينتبه فحاسة النظر، ووظيفة العينين اضمحلّت في بلاد العرب، فالجوع، والخوف، والخزي مّما يلمّ بالأمة يغشي علي العينين، ويسّد النفس...

ما دمت أتحدث عن الربيع فإنني أتذكّر الربيع في منطقة (بيت لحم)، وحول قرية (الخضر)، أتذكّر حقول الخوخ، والمشمش، وحقول الحنّون التي تغطي عري السهول،أتذكّر فتأتي إليّ روائح النعناع البرّي، والبابونج، والميرميّة. ولأن الذكريات تهيج وتستدعي بعضها فإن ربيع سهول (أريحا) يمتزج بربيع (بيت لحم) و(الخضر)، وتلال القدس، وجبال الخليل، حيث تتغندر الأرض وتزف من جديد في عرس يرقّص الروح التي تشف وتصبح جزءاً من الطبيعة التي يتكلّم ربيعها كما في وصف جدنا (البحتري)، ذلك الوصف المستعاد من زمن رخي بعيد، زمن كان العرب يعيشون فيه أسياداً علي أرضهم، يتمتعون بفصولهم...
هنا في بيتي بعمّان، وأنا في هذا الحي الريفي، فإنني أجلس أمام الأشجار الصغيرة متأملاً أعوادها التي اكتست بالأزهار، أعوادها الناشفة التي ارتوت بماء المطر في شباط ومطلع آذار، ثمّ أباحت بأسرار براعمها، في أعواد صارت بنيّة بما فيها من ارتواء وكانت جّافة رمادية ميتة،لا يصدّق المرء أنها ستينع يوماً بالأوراق الخضراء والأزهار والثمار...

إنها الحياة في دورتها، في فصولها، تختصر في شجيرة صغيرة، تبدأ قصفة عود، أو بذرة، ثمّ شجيرة، فشجرة تحمل أزهاراً وثماراً لذيذة، ومن بعد تتساقط الأوراق و..إلي عام آخر،إنها دورة حياة وموت...

لقد تعلّمت من الأشجار أن بعـــــض الناس يعطـــــون كالأشجار، بعض الناس حضورهم ربيع، وبعض الناس أشواك ضّارة بلا نفع ولا ثمار...

ربيعنا في بلاد العرب هذا العام قاتم، ملبّد بالمزيد من الخراب، لولا أزهار الدم في فلسطين والعراق التي ترسم ربيعاً بلون واحد هو الأحمر، مع وعد بتحوّل هذا اللون القاني إلي ألوان ربيعية طبيعيّة عندما تغتسل أرضنا بمطر نقّي، وتغتسل من أدران الاحتلال...

الصديق الدكتور محمد الجعيدي اتصل بي من مدريد وقال لي: بعد ندوة مدريد، ستتوجه أنت وعز الدين المناصرة إلي (الأندلس) حيث ستلتقيان بمطلع ربيع الأندلس !...
ربيع الأندلس !.. بماذا يعدنا ربيع الأندلس، هل سيخفف مما يجثم علي نفوسنا من حزن وقهر؟ بماذا سنستمتع في الأندلس، في قرطبة وغرناطة؟ بأطلال القصور التي تركها أجدادنا؟ وماذا نستذكر؟ اقتتال الحكّام العرب وتواطؤهم علي بعضهم نكاية، وكيدهم ببعضهم الذي دفعهم للتحالف مع الأعداء حتي سقطوا جميعاً، وتكلل انهيارهم بمشهد الهزيمة المرّة لـ(أبوعبد الله الصغير) وهو يسلّم مفاتيح غرناطة صاغراً ذليلاً، باكياً كالنساء ملكاً مضاعاً لم يصنه لا هو ولا من سبقه أو عاصره؟

وراءنا نترك حكّاماً يتحالفون مع الأعداء، يسلّمون مفاتيح القدس، وبغداد، و..ربّما دمشق الشام، من أجل سلامة كراسيهم ورؤوسهم، وأمامنا في (ربيع الأندلس) لن نري الربيع الطلق يختال ضاحكاً، ولكننا سنري أطلالاً، وأوابد، حضارة سادت ثمّ بادت...

في الأندلس يا صاحبي، يا عز الدين ستقرأ شعراً علي أضرحة أسلافنا، وربما نبكي معاً لشدّة جمال الربيع في بلاد الآخرين، ولبؤس الربيع في بلاد عرب هذا الزمان...فأينما ولّينا وجوهنا العربية فليس ثمّة غير الأحزان، فاعذرينا يا أزهار بلادنا، فالفرح (ليس مهنتنا)...



عن القدس العربي

التعليقات