31/10/2010 - 11:02

داهمني الوقت../ بسام الهلسه

-

داهمني الوقت../ بسام الهلسه

* تأخر المساء هذا المساء! لكنه جاء. نظرت من النافذة المجاورة لمكتبك فرأيته منتشراً. ابتسمت وتذكرت ما كان بينكما من نفور قديم حينما كان الوقت الذي يجيء آخر النهار وأول الليل، يشعرك بالوحشة.
لم تعرف لماذا.. وظل الشعور بالوحشة يؤرقك لسنوات وسنوات ثم زال دون أن تعرف لماذا أيضاً.

أيام الصبا، حينما كانت الشمس تتلاشى في الأفق البعيد، وتبدأ سحب العتمة بالتمدد، كنت تنكفيء على نفسك موغلاً في الصمت موارياً ما ينتابك من أحاسيس مبهمة محيَّرة لا تفهمها ولا تستطيع شرحها. وما كنت لتخبر أحداً بما بك، فقد يسخر منك أقرانك، أما الكبار فهم لا يبالون كعادتهم بما يشغل الصغار ويقلقهم.. يكفيهم ما بهم من هموم وتعب يومٍ مضنٍ يبدأ مع انبثاق الفجر. وسؤالهم عن هذا المبهم المحيِّر، يبدو ترفاً نافلاً قد يواجه بالصراخ.

سوف تعرف فيما بعد، حينما كبرت وعاينت وفكرت، أن الفقراء ليسوا محرومين من الثروة فقط، بل ومن وقت الفراغ أيضاً. أي الوقت الفائض عن أوقات عملهم وحاجاتهم الجسدية الضرورية، واللازم للبشر لتخصيصه لحاجات أخرى. وإنْ توفر القليل منه، فإن التزاماتهم الاجتماعية تستحوذ عليه. أما الأغنياء فلديهم الثروة، والمناصب، والوقت الكافي لممارسة ما يستهويهم من اهتمامات ترفيهية أو ثقافية أو سياسية أو غيرها.

ولديهم الوقت ليعنوا بأطفالهم أكثر بكثير من الفقراء الذين تترك أغلبيتهم أبناءها للحارات لتتكفل بهم.. هذا إن لم يرسلونهم إلى العمل صغاراً لمساعدتهم في مغالبة الحياة، إضافة إلى قيامهم بالمعاونة في الأعمال المنزلية.

تبين لك إذاً، ان الوقت ليس محايداً، فهو يخضع لأنظمة المُلكية السائدة في المجتمعات كغيره من "الأشياء".
والطبقات، والفئات، والأفراد، في كل مجتمع يتفاوتون في حصصهم من أوقات الفراغ مثلما يتفاوتون في سائر أنواع الملكية، وفي سائر أنواع القابليات والإمكانيات.

أتاحت لك هذه المعرفة، فهم أحد أسباب ابتعاد أغلبية الطبقات الشعبية –وخصوصاً النساء- عن الاهتمام بالشؤون العامة، إضافة إلى الأسباب المعروفة المتعلقة بانعدام الحريات، أو تدني الوعي العام، كنتيجة للجهل أو التبعثر الجغرافي، أو فقدان الأمل بالتغيير وشيوع اليأس، أوانتشار روح التواكل، أو بسبب هيمنة أشكال الولاء والروابط المغلقة: العائلية، والقبلية، والطائفية، والجِهَوِية، والمهنية التخصصية.

في حدود ما نعرف، فإن الصراع على كسب الوقت والاستحواذ عليه واستخدامه، كان وما زال أحد مجالات الصراع البشري، وقسم من مفكري ومؤرخي الحضارات يعلل تطورها بامتلاك جماعات وطبقات اجتماعية قوية مالكة -منذ نشوء العبودية- لأوقات فراغ كرستها للشؤون الفكرية والمعرفية والفنية والرياضية والترفية، بعدما سَخَّرت غيرها من الأمم والطبقات للعمل في خدمتها.

وأحد المعايير المعاصرة في قياس تقدم ورفاه الشعوب، هو مقدار ما تحظى به من أوقات فراغ، والطرق التي تستخدم بها هذا الفراغ.

وكما نذكر كان النضال من أجل تقصير يوم العمل من (14 أو 16 ساعة –في القرن التاسع عشر- إلى الوقت المعمول به الآن- 8 ساعات)، أول المعارك التي خاضها العمال ضد أصحاب العمل الاستغلاليين. فبدون الحصول على وقت خاص خارج العمل، لا مجال للاهتمام بقضايا أخرى. ولا يعرف أحد معنى ظلم وبؤس الوقت كما يعرفه المستضعفون والمستضعفات المضطرون للعمل معظم الوقت لتأمين حاجاتهم الأولية الملحة.

ربما لهذا السبب تحفل الأشعار والأغاني الشعبية بالشكوى من "الزمان" الذي تلقي عليه أوزار ومظالم الأنظمة الاجتماعية- الاقتصادية الجائرة التي تمنح الامتيازات والحقوق لفئات محظية، فيما تلقي بالحرمان والواجبات على الآخرين، فتنهمك الأولى بتبديد الوقت، وتنهك الثانية تحت ضغط الوقت.

فإذا كان على البشر أن يحلموا ويعملوا لبناء مجتمع عادل، فإن عليهم أن لا يحصروا تفكيرهم في حدود تحقيق توزيع عادل للسلطة والثروة، بل عليهم أن يفكروا أيضاً في تحقيق توزيع عادل للوقت أيضاً.
* * *
ارجو المعذرة..
داهمني الـوقـت !

التعليقات