31/10/2010 - 11:02

سمير قصير... لا ثمن لهذا الموت/ عباس بيضون

-

سمير قصير... لا ثمن لهذا الموت/ عباس بيضون
يقول لي السائق انهم قتلوا صحافيا يدعى سمير قصير. لن اقول له انني صحافي مثله ولا انني من اصحابه. لا داعي لان اقول له او اقول شيئا لنفسي. حجر في رأسي ولا اجد فكرة. من الصعب ان نلم شيئا عن الطريق او عن المنصة او حتى عن وجودنا كله سوى جثة. وحين نراه على الشاشة يضحك سنقاومه، سنجتهد كي لا يغوينا. سنقول أن ليس فينا ما يُغوي، نحن ايضا في هذه اللحظة بلا معنى ولا يمكننا ان نمنح دلالة لأي شيء، سنحاول ان ننظر بعيون متحجرة لليد المدلاة والرأس المتكي على المقعد. لن نبيع ذلك او نشتريه بأي مقدار من الحنين وبأي مقدار من الذكرى، سنقول ان الذاكرة تكون في وقت جدارا، ان الاعتراف هو القسوة الضرورية على انفسنا. الاعتراف في لحظة كاملة بأن كل هذا عسف وكل هذا ركيك، ولا شيء يمكن ان نضعه مقابل هذا الرأس المدلى على مقعد. لا شيء بالطبع يساوي ذلك، انها لحظة مفرغة بالكامل. لحظة سحبوا هواءها كله، وليس فيها بصيص واحد ولا اشارة ولا رسالة. حجر فوق الكلمات والافكار والمجلدات. مجرد حجر.

سيحاولون ان يضيفوا هذه اللحظة لمسيرات سابقة ولاحقة. سيبعثون هذا الموت الى سيل من لقاءات واجتماعات وبيانات. سيقولون انه باق في السلسلة وانه باق في المد ولم يتوقف شيء. يخافون ان يتوقف شيء. ان يكون هذا الموت جرحا فحسب، بل قطعا لا يلتئم، ثقبا في زمن او حياة. قليلون يعرفون ان شيئا عصي او توقف هنا ولن يعاود السير ولن يمر ثانية. قليلون يعرفون ان هذه اللحظة ستبقى ثقبا، ثقبا في البيان، ثقبا في الخطاب، ثقبا في المسيرة الصاعدة او الهابطة الى لامكان، ثقبا وحلقة مفقودة. سيكون صعبا ان نخطو هنا او نضع اصبعا او ان ننظر من داخل الثقب. سيكون صعبا ان نكتب كلمة بهذا الدم او نبصم به على اوهام وخدع وغوايات اخرى. سيكون من الركاكة ان نوقع به على دارج مكرور او نطعم به دارجا مربكا، ان نرسم به شعارا او عنوانا. ليس للشهداء قافلة.

انهم تائهون في تلك الصحراء الموازية لحياتنا. تائهون ولن يعودوا قبل الغروب. لن نستدعيهم بهذا الناقوس الذي لا يوقظ الموتى. ليسوا بالتأكيد متلاصقين ولا يمشون في دروب مرسومة، ولا يحملون بالطبع مصابيح ليضيئوا حياتنا ولا اجراسا ليستدعونا الى الجادة، ثم انهم يمشون مثقلي الرؤوس تحت الاكاليل التي توجناهم بها، تحت التيجان التي يعرفون انها حجرية وصعبة. اننا نشتري بهم الوهم الذي نستحقه، النصر الكاذب والمجد المضاع. اي نصر هذا سيكون في الكأس اذا شممنا فيه رائحة الدم، دمنا او دم اخوتنا. اي نجاح يستحق ان يكون ثمنه هذا الرأس المدلى على مقعد، حين نطيّر في الهواء فقاعات الفرح. فرح يوازي المخيلة القصيرة لاصحابه والحلم القصير لمن صنعوه. من يصنع مقابل ذلك وفي الكفة الاخرى منه ابتسامة الاجمل المقصومة، ذكاء الافضل المكسوف، دم الاجمل الضائع. فكل دم ضائع وكل دم مهدور. مخلصون بالتأكيد واكثر حذاقة سيجدونه فورا مساويا لهذا الموت. دم جديد لحجة قديمة. خسارة طازجة بأطروحة معادة.

الاغتيال والجريمة السياسية والارهاب وعودة الاجهزة ستكون جميعها في المقابل. ليس هذا صحيحا فحسب، بل صحيح الى درجة الغيبوبة. يحسن التلخيص وفي النهاية تأتي الخلاصات. خلاصات الدم وخلاصات الروح وخلاصات الفكرة. تأتي العبر والدروس ونصل الى الرقم الصحيح ويوزن الدم والحياة والفقدان بالدرهم. الحياة تلعب على نفسها بالسياسة والمهم ان لا تتوقف الرقصة. تلعب على نفسها جامعة الدم مع الورق مع الاهازيج والميكروفونات. الرقم هنا والسعر هنا واللعبة هنا والوردة هنا. وهنا ايضا العناوين الجديدة للمفقودين. لا يقول احد سحقا، من خوف ان تكون الخسارة نهائية وان لا تكون هناك عودة. لا يقول احد سحقا من خوف ان لا نجد عنوانا للدم والفقدان. لا يقول احد من خوف ان نعرف اننا نلعب مع الشيطان ونتعشى مع التنين.

سمير قصير الذي طالما احب المجلدات، لن نقول ان حياته قصيرة. بالمجلدات التي الفها لم تكن كذلك. نعيش اياما ام صفحات ام اوراقا مطبوعة ما الفرق. طويلة ام قصيرة ما الفرق. الفرق امامنا هو السيارة المحترقة التي لن تكون لنا بعد حياة إن لم نطردها من حياتنا. الفرق هو ان تنفجر السيارة في حياتنا وتترك فيها حفرة موازية. ثم ما معنى ان نطلب الحقيقة ما دامت الحفرة لا تجيب. لنقل اننا نشيّد حياتنا من السيارات، من الحقائق المحترقة. لنقل ان الذكاء والسحر اللذين سفحا في سيارة سمير المحترقة يلخصان كل شيء، وان من الغباء ان نضع لذلك ثمنا او ان نبيعه بأي اطروحة او خلاصة او شعار. لنقبل بؤس حياتنا كما هو. لنقل انها الخسارة ولا نضع اي رقم لها. لنقل انه الدم ولا نجد له عنوانا. ولنقل انها حياتنا نحن، اسطورتنا نحن مصنوعة من الرماد. لنقل انها بطولتنا ايضا مجبولة بالاجساد المتفحمة. لنقل انه جمالنا ملفوح بالبرق والنار. لنقل انه الذكاء الذي ينطفئ بأجمل ما يستطيع في شعلته الاخيرة.

سيتكلمون ضد الاغتيال والجريمة السياسية اما انا فبودي ان اتكلم على امور موجودة في العظام وفي سلسلة الظهر، على تقليد الحية والضب والجمل الحانق واحيانا الثعلب، على الغل والثأر والمكر الرخيص، على المخيلة القصيرة والحلم القصير، على العقل القاييني والعجز عن المتعة والارتياب بالجمال والخوف من الغواية والقتل المتسلسل للاخ الذي لا جواب عمن يصرخ مقابله "اين دفنت اخاك"؟

ان نعترف بأننا نخسر بلا رحمة، وان هذه تقريبا ملحمتنا، وان جبل خسائرنا يبقى قلعتنا الوحيدة. اننا نخسر اعمق بكثير وأرباحنا قبض ريح. اننا تقريبا نربح بضحالة ونكسب بسخف. ما نربحه يعيش ليلة ويفقد لمعانه في الصباح. لنعترف بأن كنزنا الاكبر في مقاساتنا وان اكمل ما صنعناه ثاو في الفقدان. لنعترف بأننا نبيع غاليا برخيص وحياة بيافطة، لنقل ان حقائقنا الاكبر في الحفرة وفي السيارة المحترقة. ان دماءنا بلا ثمن، وان نبلنا وكرمنا وذكاءنا في القاع. ان ناجحينا يثيرون الضجر ورابحينا خيالات وهداتنا اشباح، وعلى اشياء كمقعد سمير قصير يسبح وجودنا وتسبح حقائقنا.

لن يقول سمير قصير هذا لو تكلم، سيتكلم على الاستمرار والمتابعة، لن اقول شيئا آخر. الذين يستمرون سيستمرون. لكن ليس بجرس كاذب ولا بمصباح اعمى يمكن ان نتكلم على النصر.

التعليقات