31/10/2010 - 11:02

سنرجع يوماً إلي حيّنا/رشاد أبو شاور

-

سنرجع يوماً إلي حيّنا/رشاد أبو شاور
قبل سنوات بعيدة كنت أتسكّع في وسط العاصمة الأردنيّة عمّان، ولقضاء الوقت كنت أتصفّح الجرائد، والكتب المرميّة بمحاذاة جدار المسجد الحسيني الكبير، بينما صاحب بسطة الكتب والجرائد يرمقني بطرف عينه ـ في الأيام الأولي تحديداً ـ شكّاً منه في هذا المتسكّع المجهول الذي انبثق فجأةً وصار زبوناً دائماً، يقرأ الجرائد ولا يمّد يده إلي جيبه ليدفع ثمن صحيفة قرشاً ونصف القرش، أو ليشتري كتاباً بخمسة أو عشرة قروش.
اطمأن صاحب البسطه لي، هو نصف النائم غالباً بعد أن يكوّم صحفه، ويفرد مجلاّته، ويسند كتبه إلي الجدار لعلّها تجتذب بعناوينها قارئاً يدّس أصابع يده في جيب جاكتته، أو الجيب الصغير لبنطاله.

استرعي انتباهي واستوقفني كتاب صغير لعلّه صادر عن دار الحياة في بيروت، من تأليف الدكتور فاضل الجمالي رئيس وزراء العراق السابق، خاصةً وهو ينصح الفلسطينيين بعقد مؤتمر لهم في (بال) بسويسرا أسوةً بالمؤتمر الصهيوني برئاسة هيرتزل، ومن هناك ينطلقون لرسم الخطط لتحرير وطنهم!.
لم أكن أملك ثمن الكتاب، ولذا ولعدّة أيام اختلفت إلي المكان، وتناولته من بين الكتب، واستظهرت عباراته لحفظها غيباً.
لم أعجب بالفكرة، ولكنني دهشت لورودها من مسؤول عربي كبير كان من الممكن أن يدعو قادة فلسطينيين لعقد مؤتمرهم في العراق الذي يرأس وزارته. كان من بين الأمور التي استوضحتها من الدكتور فاضل الجمالي عندما قدّمني له الجار والصديق في المنزه التاسع أبونضال تركماني، في بيته بضاحية التلّة الفرنسيّة التي تحتضن مقبرة الجنود الفرنسيين وتطّل علي مشهد شاعري أخّاذ من بيوت سيدي بوسعيد العالية ولا ينتهي سوي بأفق بعيد يندغم بأنفاس بحر صافي الزرقة لا حدود له.

سألت الدكتور الجمالي وقد بتّ مطمئناً إلي أريحيّة الرجل، واستعداده لسماع أي رأي مهما اختلف معه:

ـ ولكن يا دكتور: لماذا اقترحت أن يعقد الفلسطينيون مؤتمراً لهم في (بال)؟

أجابني:

ـ ليقرروا باستقلاليّة بعيداً عن الخلافات العربيّة...

لم أقتنع بالجواب، لأن الخلافات العربية ستلاحق الفلسطينيين حيثما كانوا، وهنا سألته:

ـ الست تري يا دكتور أنك بهذا، وأنت العربي والمسلم، تصهين الفلسطينيين؟

أدهشته الفكرة، ونفي أن تكون خطرت بباله، فأوضحت له:
ـ أنت بهذا، ومن موقعك الرسمي، تريد للفلسطينيين أن يتحمّلوا وحدهم عبء القضيّة الفلسطينيّة، وكأنك بصراحة أردت نزع القضيّة من يد أي عربي ينتدب نفسه لتبنيها والالتزام بها (والحق أن الذي خطر ببالي هو جمال عبد الناصر ومصر الناصريّة).

الصهاينة التقوا في بال لأن مشروعهم أوربي، وهم لم تكن لهم (دولة)، ولا ينتمون لأمّة كما هو حال العرب الفلسطينيين، فكيف يذهب الفلسطينيون إلي بال؟.

الفلسطينيون حاليّاً لايجدون بلداً عربيّاً واحداً يرحّب بمؤتمر للاجئين الفلسطينيين المتشبثين بحّق العودة، علماً إنّ حق العودة يستند إلي قرار أممي دولي مثبت، مكرّر التصويت عليه، والمطالبة بتنفيذ بند 11 من القرار 94 ليس تطرّفاً ولا إرهاباً، ولا خروجاً علي الشرعيّة الدولية.

لذا بتنا نسمع عن عقد مؤتمرات حقّ العودة في العواصم الأوربيّة البعيدة عن مخيماتنا في الأردن، وسوريّة، ولبنان، و..طبعاً الضفّة والقطاع رغم وجود سلطة فلسطينيّة معلّقة في الفراغ والأرض تسحب من تحتها.

في الدول العربيّة يستدعي للتحقيق كل من يتحرّك، وينشط، ويتصل ببني جلدته الفلسطينيين اللاجئين حاثّاً إياهم علي رفض مشاريع التوطين، والتعويضات مهما بلغت، وتبديل الوطن بالوطن البديل، وفقاً لطروحات الليكود ومشتقاته بأن الأردن وطن الفلسطينيين.

بات من الطبيعي أن نسمع عن مؤتمرات تعقد في لندن، برلين، فيّينا، يلتقي فيها نشطاء فلسطينيون يعيشون في الشتات والمنافي البعيدة، وعن عيون الأنظمة العربيّة الرسميّة، يتحاورون، ويخططون، ويقررون، ثمّ ينفّض مؤتمرهم علي وعد أن يتلقوا بعد عام في مكان ما من قّارة أوربة، لينشدوا من هناك ما جاشت به روح وقريحة هارون هاشم رشيد في مخيمات غزّة، البريج، الشاطيء، جباليا.. قبل خمسين سنة:

سنرجع يوماً إلي حيّنا
ونغرق في دافئات المني
سنرجع خبّرني العندليب
غداة التقينا علي منحني

ما زلت أطرب وأنتشي حين أسمع (اسمهان) الرائعة وهي تشدو برائعتها (ليالي الأنس في فيّينا).

إذا كنت رفضت فكرة الدكتور فاضل الجمالي بعقد مؤتمر فلسطيني في (بال) في مطلع شبابي، فإنه ما كان ليخطر ببالي وأنا أتسكّع في شوارع عمّان، أو وأنا أقيم بمخيّم (النويعمة) قرب (أريحا)، و(اليرموك) الملاصق لدمشق، وصبرا
والفاكهاني في بيروت أن أتحمّس للسفر إلي (فيّينا) تلبية لدعوة من مركز العودة الفلسطيني ورابطة فلسطين الإعلاميّة، للمشاركة في مؤتمر فلسطينيي أوربّة للمنافحة عن أم قضايانا: حق اللاجئين في العودة إلي ديارهم...
لم يخطر بـ..بال ..ي..أنني بعد سنين طويلة سألتقي بمن فارقتهم شباباً وقد وخط الشيب رؤوسهم وقلوبهم وهم في الغربة، ولكن لم تفتر لهم همّة، وما زالوا يلقنون أبناءهم وبناتهم ـ وحتي زوجاتهم الأجنبيات ـ نشيد: سنرجع يوماً و..عائدون!.

لا، لن تحبط الغربة، والملاحقات، والمضايقات، ووثيقة (جنيف) ـ يبدو أن معركتنا في جانب منها تدور في أوربّة عقر دار الصهونية ومسقط رأسها ـ من تشبثنا بحّقنا في العودة إلي مدننا وقرانا، ولن تغرينا الدعوات (الكندية) وغيرها للتوطّن هناك في بلاد الثلج وفرص الشغل، فنحن لسنا شعباً متزلّجاً، ولا جوّاب آفاق يفتّش عن شغلة. نحن شغلتنا أن ننشّف دم وريق من أخرجونا من ديارنا، فنحن لا نبحث عن فرص عمل في خدمة الآخرين. نحن علي عاتقنا مهمّة تاريخيّة حضاريّة لا بدّ أن ننجزها مهما كانت المعاناة. نحن، أقصد كل المعنيين بحّق العودة وعدم التفريط بحقوق اللاجئين، يجب أن نلتقي في أي مكان يتيسر لنا اللقاء فيه، وأن نوحّد جهودنا لتصبّ في هدف واحد مقدّس يجمعنا. نحن لنا وطن اسمه فلسطين، وإليه:

سنرجع مهما يمّر الزمان وتنأي المسافات ما بيننا...

التعليقات