31/10/2010 - 11:02

وأنا أرى الطائرات في 5 حزيران الـ38/ رشاد أبو شاور

-

وأنا أرى الطائرات في 5 حزيران الـ38/ رشاد أبو شاور
وأنا أري الطائرات تغير علي معسكرات الجيش، تنقّض حتي لتكاد تلامس الأرض، مطمئنة إلي انعدام المقاومة بعد أن أحرقت كلّ شيء، طفحت نفسي بالقهر...

وأنا أري الطائرات تغير في سماء أريحا العريقة الخالدة ملقية منشورات تطالبنا بالاستسلام، وتدلّنا علي طريق الرحيل من وطننا، ولا يرّد عليها بالنار الحارقة امتلأت نفسي بالمهانة، ووقفت علي قمّة تلّة أرقب لعلّ ناراً تصعد من أرضنا ترّد الطائرات الأمريكيّة، والبريطانيّة، والفرنسيّة، فلم تتأجج سوي نار غضب أهلي المحرومين من السلاح.

وأنا أري، أقصد وأنا عار تماماً، بيدين فارغتين، بقلب فلسطيني مجرّد من السلاح، فلسطيني يكتمل ضياع وطنه أمام عينيه وهو يقف عاجزاً في حرب تكشّفت عن مسخرة، وأنا أركض علي تلال أريحا، وسهولها، منتظراً تفجّر حرب تليق بألم فلسطين، وغربة شعبها، بهتاف جماهير وعربيّة كبتت طويلاً، ووعدت بالثأر وبقرب يوم العقاب.. سقط قلبي علي الرمال، رأيته يتمرّغ بثري بقيّة وطن يستباح ولا من يرّد عنه الأعداء.

وأنا في يوم الخامس من حزيران 67، في زمن (النابالم)، وأنا أشّم رائحة القتار من أجساد احترقت بقذائف طائرات أمريكيّة وبريطانيّة وفرنسيّة للتو خرجت من المصانع، مجهزّة بأنواع (حديثة) من قذائف (النابالم) التي طوّرت خصيصاً لأجسادنا وأرواحنا نحن العرب، حشيت بالنفط وبأنواع لم نسمع بها من وسائل الحرق لأبداننا العربية المبذولة لطيّارين انتشوا لفرط المتعة وهم يرونها تحترق، تتفحّم، تضمحّل، ومنها تتصاعد شآبيب النار والدخان.. فتحت عينيّ علي وسعهما لتختزنا مشاهد الجحيم...

وأنا أري جيراننا وقد مسخت ملامحهم، فباتوا بقايا متفحّمة، أجساداً نشّف (النابالم) ماءها ودمها وحوّلها كتلاً متفحّمة كريهة الرائحة، وأنا أري السيّارات الهاربة بناسها المذهولين الخائفين مهروسة معدناً وبشراً،يختلط وقودها ودم ناسها وصيحاتهم، نظرت إلي السماء المستباحة بطائرات عدو انتصر علي أمّة ملايينها مغيّبة، وسألت ربّي أن لا يغفر لمن تسببوا لنا بكّل هذا الضعف والعار، وأقسمت مع ملايين العرب علي عدم انتظار نبأ تحرير وطننا من فّم المذيع،وخطيب المهرجان، والناطق الرسمي بوعوده الخلّب.

هناك، في تلك اللحظة الممتدة أيّاماً هي أيام عار وذّل، ولدنا من (الخاصرة)، نحن الذين لاحقتنا الطائرات، نحن من رأينا عيون الطيّارين لفرط قربهم من رؤوسنا المكشوفة، نحن الذين وعدنا بعودتنا لفلسطين وعودتها لنا، نحن الذين تمّت خيانتنا من (الداخل)، وشّر صنوف (الخونة) هم خونة الداخل.

نحن الذين ولدنا من (الخاصرة) بقلوب تنبض بالقهر، ونفوس فرّخ فيها الغضب، أدرنا وجوهنا ونحن نعبر نهر (الأردن) وأطلقنا صوتنا الواحد، ونحن نهّز قبضاتنا: المعركة القادمة معنا، مع من لم تجرّبوا مواجهتهم، مع من قيّدوا طويلاً، مع من ضمنت لكم عملية تغييبهم فانتصرتم علي تغييبهم وقيودهم، وذّلهم، وحبسهم.

وأنا أعبر النهر، وأنا أنتصب علي قمّة تلّة رملية التقت نظرة عينّي بنظرة عيني طيار منتش بانتصار علي سماء فارغة، وبلاد مفتوحة الأبواب، حماتها غائبون.

في الخامس من حزيران 67 لم نمت، وحتي يومنا الحزيراني هذا لم نمت، وأحسب أننا لن نموت دون أن نرّد الموت.
بطاقات النعي التي شنّت نفسيّاً تنعي موت الأمّة، مّمن لم يؤمنوا بها يوماً: من الطائفي، والإقليمي، والكاتب والصحافي المرتشي بائع الضمير، من إذاعات قصفتنا بحملات التشكيك، بالسخريّة الموجعة، بالتحليلات التي تصّب في كسر معنوياتنا، كلّها رغم وطئها علي النفس والعقل لم تفّت في أرواحنا، ولذا ما زلنا أحياء، وما زالت المقاومة هي الحقيقة الثابتة والوحيدة التي تعلي من قيمة الإنسان الفرد، الشعوب، الأمم، والإنسانية كلّها.

قتلونا شعراً ونثراً وفكراً وصحافة وإذاعات ومحطات تلفزة و.. لكننا ما زلنا نعيش بالمقاومة رغم ذبحها المتكرر، ورميها بالإرهاب، ومصادرة رصاصاتها.

في الخامس من حزيران 67 لم نتحوّل إلي ندّابين لطّامي خدود، بكّائين في مأتم الأمّة، لأننا ولدنا رغم الـ5 من حزيران من جديد، وولدنا هذه المرّة من الخاصرة، فطلعنا عليهم نافضين للقيود والوعود، وما زلنا نقاتلهم بما نملك من شجاع الكلام، ويقظة الضمير، وجارح السلاح حجراً كان أم جسداً ملغوماً أو..ما تيسر من خفيف السلاح.

نحن الذين ولدنا من الخاصرة، منذ ذلك اليوم ونحن ننظر حولنا بغضب، لا أمامنا حسب، والغضب أول الفعل، والغضب مقدّمة المسيرة، والغضب الساطع في الصدور إيمان، الغضب سليل الكبرياء والاعتداد بالنفس وعنفوان الكرامة.

لا، لسنا جيل الهزيمة، فمن هزم هم أولئك الذين يكرّسون الهزيمة في حياتنا بالخراب والفساد وتمزيق الصفوف حتي يومنا هذا، يساندون العدو ويعاضدونه علينا نحن العرب، نحن أبناء هذه الأرض المبتلاة.

في الـ5 من حزيران 67 أراد حلف الشّر اصطيادنا وتحويلنا كأمّة إلي حالة عجز دائمة،أمّة مريضة بيأس لا شفاء منه، كتلة رخوة ممدّة علي مائدة الأطماع والتقسيم والنهب.

في لحظة الهزيمة خرجنا من الخاصرة وصرخنا بغضب في وجه عدونا: نحن من سيقاتلك ويقتلك، من سيرّد سيفك إلي نحرك، من سينظّف السماء والأرض منك.

هناك في اللحظة الحزيرانية الفاجعة عام 67 خرجت الملايين ورفعت قائدها جمال عبد الناصر ومنحته صوتها ليطهر الصفوف ويبني جيشاً يعبر الهزيمة إلي النصر، يجعل من (سيناء) ناراً تحرق برمالها المحتلين الغزاة، فطلع صوته علينا: المقاومة أنبل ظاهرة، وما أخذ بالقوّة لا يسترّد بغير القوّة...

منذ ذلك الـ5 من حزيران 67 وحتي الـ5 من حزيران 2005 ونحن نقاوم. خميرة الأمّة وملحها نحن. لم ننتصر..نعم، ولكننا لم ننهزم رغم احتلال المزيد من أرضنا في العراق، وتسيّد الأقليات الموتورة، والطائفيّة الجهول بولائها الشعوبي.
زاد الاحتلال وتوسّع !..نعم، ولكن المقاومة تمتّد ونارها تتأجج رغم شراسة (الثورة) المضادة، والعسف الاحتلالي، وضراوة تحالف الأعداء...

وليكن، أليس شرفاً لأمتنا أنها وحدها علي هذه الأرض يجرؤ أبناؤها وبناتها علي مقاومة الهيمنة الأمريكية والصهيونيّة؟
نعم: سرقوا طفولتنا في الـ48، وشبابنا في 5 حزيران 67، ولكننا نكتب ونقاوم، فهل هذا قليل؟!...

يسألني الصحافي الشاب عبر الهاتف، ويريدني أن أجيبه في أسطر: كيف تنظر إلي 5 حزيران بعد كل هذه السنوات؟ بعد كّل هذا الألم، والدم، والكتابة، يريدني أن أجيبه في سطرين...

التعليقات