09/02/2011 - 22:47

"كل الحكاية عيون بهية"../ فخر الدين فياض*

المارد الشعبي العربي، الحضاري، المدني، الحر قد خرج من قمقمه.. ولن يعود إليه ثانية. وسيذكر التاريخ أنه في مصر العظيمة تم تحرير هذا المارد من إسار النظام الشمولي.. وانطلق فاتحاً مدنياً أبواب العرب جميعاً..

 
1
مصر، وقبلها تونس، أعادتنا إلى أنفسنا..
بعد أن اغتربنا وتشردنا وفقدنا لغتنا وطعم عروبتنا..
 بعد أن غابت عنا بصيرة طه حسين ومنافي بيرم التونسي.. ونضارة صباحات العم سيد.
مصر وقبلها تونس، أعادتنا إلى أنفسنا..
فجأة عدنا إلى عليّة التونسية و"جاري ياحمودة"..
ووقعنا في غرام بهية.. من جديد.
بهية التي ليس لعشقها دواء أو طبيب..
2
 لم يعد مهماً إن رحل حسني مبارك.. أو بقي.
ولم يعد مهماً إن تلاحقت الثورات في العالم العربي.. أم تأخرت وتقطّعت..
ولم يعد مهماً إن حاول هذا النظام العربي أو ذاك إصلاح نفسه..
ولم يعد مهماً إن حاول النظام العربي التصالح مع شعبه.. أم أبقى على القطيعة ـ وعلى سواتر الإسمنت وحراب الحزب الحاكم وأنياب بوليسه السري ـ بينه وبين الناس..
فالمارد الشعبي العربي، الحضاري، المدني، الحر قد خرج من قمقمه.. ولن يعود إليه ثانية.
وسيذكر التاريخ أنه في مصر العظيمة تم تحرير هذا المارد من إسار النظام الشمولي.. وانطلق فاتحاً مدنياً أبواب العرب جميعاً..
3
 في (ميدان التحرير) سقطت أوهامنا ومخاوفنا.. وزالت عنا "تعاويذ" العمى ورهاب العسكر و"حجابات" محاكم أمن الدولة..
في (ميدان التحرير) نظر العرب إلى أنفسهم لأول مرة، منذ ألف وخمسمائة عام، سقطت أوراق التوت عن الأصنام، وعاد الشعر ديوان العروبة التي تعانق الكون عبر سحر الفراعنة وحروف كنعان وفلاسفة أثينا الذين ولدوا في الإسكندرية وصيدا وصور وشهبا وحمص..
في (ميدان التحرير) تفتحت زهرة اللوتس عن تويجاتها التي لم تصلها "غرغرينا" الحزب الحاكم و"غرغرينا" المعارضة المفصّلة في أقبية المال والسلطة والفساد..
في الميدان العظيم تزوجت صبية، وحضر زفافها مليونا زهرة ومليونا كتاب ومليونا أمثولة ومليونا حالم بوطن يستحق أن يضحي المرء لأجله بحياته..
في الميدان العظيم صلى المسلمون والمسيحيون لإله واحد.. وارتفع الهلال والصليب رمز التبرؤ من الاستبداد والفساد والقهر..
 
4
 في الميدان العظيم امتد النيل يتلألأ بخضرته نحو الحاضرة العربية.. يحتضن قحطها وكآبتها ويمسح دموعها بورق البردي.. وكأن النيل أبانا وأمنا.. وكأننا ولدنا فيه منذ الأزل واقتلعتنا عاصفة الخوف وعاصفة الجيش الإنكشاري وحولتنا إلى عبيد لا لون لنا..
لكننا في الميدان العظيم.. عدنا.... نعم عدنا.
منذ زمن بعيد كرهت وحدة العرب، ومن نادى بها، ومن تاجر بها، وتحوّل إلى نخّاس رخيص..
كرهت مؤتمراتها وزعمائها وطغاتها..
كرهت "قطط الولائم القومية" الذين ينتقلون من التأييد على مأدبة الملك.. إلى الهتاف على وليمة الرئيس..
لكنني اليوم أشعر بالعروبة تنبع من أعماق أعماقي.. تتلون بلون النيل وتخترق الفضاء فرعونية وكنعانية وبابلية.. لتقول مع محمد العزبي "كل الحكاية عيون بهية"..
5
 هي ليست ثورة كلاسيكية.. لا أحزاب عقائدية ولا عسكر..
ثورة مصر المحروسة غاب عنها تشي غيفارا ومسدساته الثورية والمتحفزة، مثلما غاب عنها جمال عبد الناصر وغيرة العسكر وتدابيرهم..
ثورة علمت العالم الدرس الأزلي الذي قلما تحقق في ثورات الدم أو انقلابات الفئات الجهوية..
ثورة مصر المحروسة قالت "إذا الشعب يوماً أراد الحياة" وأراد الحرية والتمدن والعدالة.. لن يقف في وجهه طاغية، ولن يردعه ساتر "غيبي" أو إسمنتي..
ثورة شبان تسلحوا بالعلم وأدوات العصر و السلام.. شبان سال دمهم نضراً وبريئاً ونقياً في سبيل أن يقف التاريخ على قدميه بعد أن ظل طويلاً يمشي على رأسه..
ثورة اقتحمت عالم العرب بأكمله، تسرّبت إلى الوجدان العميق.. فأزهرت وعياً وتمرداً لدى جيل عربي واسع، تمّت محاصرته بالأسلاك الشائكة، وبمعايير السقوط والبلطجة والتجهيل.. جيل تسّمر اليوم أمام شاشات الفضائيات، وهو يرى ميدان التحرير يرسم صورة مستقبله.. على خطى بهية العظيمة.
ألم أقل أن كل حكاية العرب هي "عيون بهية"؟

التعليقات