21/03/2011 - 15:27

من صهيل الخيول السمراء.../ مها عبد السلام زيدان

عشوائية الترتيب هي، تمامًا كضفائر شعري الذي قد ينسدل فيستر كتفي بعد بضعة أشهر من الآن. لا أطيقه مكبَّلاً بأغلالٍ تلمع أو بتلك الربّاطات الملوّنة. أعليَّ أن أجترَّ معاناةً ورديّةً لأعلنَ نفسي حوّاء؟!

من صهيل الخيول السمراء.../ مها عبد السلام زيدان

-كـفـر مـنـدا-

 

[توضيح لم يكن منه بدّ:

في شباط المنصرم، نُظّمت في ثانويّة مار إلياس في عبلّين مسابقة في الكتابة الإبداعيّة، شارك فيها بضعة وعشرون طالبًا وطالبة. في العامين السابقين، فازت بالمرتبة الأولى بامتيازٍ طالبتُنا مـهـا عـبـد الـسـلام زيـدان (ابنة السادسة عشرة والنصف، طالبة الصفّ الحـادي عـشـر -فرع الفيـزياء والكيمـياء). أمّا في هذا العام، فإنّ مـهـا ما فازت بالمرتبة الأولى ولا بالثانية ولا بالثالثة، بل فازت بمرتبة هي قبل الأولى! كان موضوعها إبداعًا لا إنشاءً تقليديًّا. أثار الإعجابَ، وكشَفَ عن موهبة حقيقيّة أكثر من متفتّحة بدرجات ودرجات، وأوقع لجنةَ التحكيم في تحيُّر بلغ أحيانًا حدَّ استخسار تقييم تلك المادّة بالأرقام.

من بين المواضيع الخمسة التي اقتُرحَ على المشاركين الكتابة في واحد منها، اختارت مـهـا أن تكتب باستيحاء من الموضوع الأوّل الذي كانت صيغته على النحو التالي:

"أجراس الياسمين تُؤْذِنُ بقيامات، ووجه الحرّيّةِ يشعُّ ميدانًا للتحريرِ في عينيهِ تصهلُ خيولٌ عربيّة أصيلة. أصغِ إلى صوتِ الخيولِ ذاكَ، واكتب ما يتراءى لكَ!".

باعتزاز وإعزاز، نضع أمام نواظركم ما كتبته مـهـا في تلك المسابقة -بموافقة منها-، بتدخُّل تعديليّ ضئيل جدًّا قمنا به لا يكاد يُذكَر]

 

الثامنة صباحًا بتوقيت ديك جارنا البغيض...

زعق هاتفي المحمول جانبًا... عزفٌ رحبانيٌّ على البيانو، إلاّ أنّ مهمّته -إيقاظي- كفيلة بجعلي أمقتها بشدّة.

طقوسي الصباحيّة الرّوتينية... أتخلّص من ملامح السّبات التي امتطت وجنتي وأتوجّه نحو محطّتي الأولى، صلاتي الروحية اليومية: خزانة أشرطتي الموسيقية.

عشوائية الترتيب هي، تمامًا كضفائر شعري الذي قد ينسدل فيستر كتفي بعد بضعة أشهر من الآن. لا أطيقه مكبَّلاً بأغلالٍ تلمع أو بتلك الربّاطات الملوّنة. أعليَّ أن أجترَّ معاناةً ورديّةً لأعلنَ نفسي حوّاء؟!

ما زلتُ كما عُهِدت، صعبةَ المِراس عنيدةً لا أقبل الحدودَ حتى لو سُجنتُ بقفصٍ من الذهب الإبريز!

بدأت أزاهير الرّاديوهات تتفتّح وتزغلل عينيها للآذان فتُنشيها.

هُراء! لا أطيق الرّاديو، لا أطيقه ولا أتحمّل تحكّمه بالمستمع! أنا أختار لنفسي ما أسمع لا أنتم!

يا لهُ من صباحٍ غريبِ الملامح، تلك النكزة في داخلي. كم خشيتُ أن يباغتني ذاك الذي لا يَجِدُ وقتًا أنسبَ من الذي لا يُناسبني حتى يطعنني في الظهر.

(قبضَ ذلك على يدي وشدّني إلى دهاليز الطفولة حيث كانت جدتي تتعوّذ من الشيطان الرجيم حين يُذكر اسمٌ لمرضٍ خطفَ منها أحدَ أحبّائها، وتنهرنا بقسوةٍ إذا ما خطا ألسنتَنا السّاذجة).

يا لي من حمقاء! كيف لم يخطر ببالي لِمَ كانت كذلك -بقافها القرويّة- تتعوّذ عندَ ذِكر من سلبوها أرضها!

الثامنة والنصف..

لم أتعمّد التأخّر لكنّ تأمّلاتي الخرساء تلتهم دقائقي بلا هوادة.

عُدت إلى خزانتي، أُفاوض الفوضى علّها تَجِدُ لها موطنًا آخرَ غير موسيقاي. بالفعل، لا أدري ما المشترك بين الفيروز وتغريد حصى النّيل سوى ذوقي!

عالمٌ غريب! الفوضى تَجِدُ موطنًا أمّا نحن فنذوب في زحام الملامح، نعشق الرّحيل الضبابيّ، الضباب الذي أراه حاسّةً سادسةً لكل المغتربين، هو أمل دائم للقاءٍ مفاجئ حتى لو كان عديم الاحتمال، فيه عدم رؤية الآخر تعني بالضرورة أن الآخر لا يراك لكن ذلك لا ينفي أنه لا يشعر بك!

الآخر قد يكون وطنًا! ترتطم به فجأة فتُصدم! تحملق في تكدّس الإعياء جفونه الثكلى، تُلملم أشياءك، تعتذر له وتمضي.

هكذا نحن، يمتصّنا الانتظار ونعزّي أنفسنا بتلك النظرية التي تنصّ على أن انتزاع السكين من القلب أصعب من الطعنة ذاتها!

أرتدي ابتسامتي وأرحل نحو بركاني المائيّ المتقافز، أعشق الفكر الدرويشيّ حين ينطق بالجنون: "القهوة، لمن يعرفها مثلي، عذراء الصباح الصامت".

كان لا يحضّر قهوته إلاّ بيديه، لقوله أن حامل الطبق هو حامل الكلام، والكلام الأول يُفسد القهوة عذريّتها.

لهذا لم أنبس ببنت شفة حتى الآن، ألقُمُ البنّ بحركات طفولية، انتزع الركوة وأُلبسها غطاءً لا يناسبها البتّة! وأهرع...

أرتشف منها قليلاً، اللعنة! لقد نسيتُ السُّكّر ثانيةً، طعمُ المآتم!

كيف لم أتساءل مرّةً لِمَ يقدّمونها مُرَّةً في بيوت العزاء؟! ألِيُذَكّرونا بمرارة الفقدان؟ إذا كان الأمر كذلك، فعلى المغتربين أجمعين أن يشربوا القهوة حنظلاً لِما فقدوه!

سَرَت رعشةٌ في جسدي كلّه! إنّها إنفلونزا الشوق لا محالة! توقيتها مأساويّ هذه المرّة!

حين تنتابني أشعرُ بقوّةٍ خارقةٍ لأتحدّى أباطرةَ العلوم فردًا فردًا! أولئك الذين يزعمون أن القلبَ عضلةٌ تقع يسار الصدر. أريد من أحدهم أن يفسّر لي لِمَ يرتعش جسدي –لا فؤادي فقط- حين تستلبني ذكراه!

الغربة تعطّل الفصول، تسلب الدنيا ألوانها فتغدو كتلفازٍ وَخَطَ الشيبُ سوادَ ذكرياته.

قال "واسيني" حين واساني بِعَرَجِه ذات مرّة: "في الحبّ يختلّ منطق الأبجديّات"...* جملة كتلك ربّتت على كتفي، وطمأنتني أنّي لستُ البشرية الوحيدة التي تجد في الحبّ والشوق اختلالاً ما -على اعتبارهما توأمين سياميّين من المستعصى الفصل بينهما.

كم أشعر برغبة في إطفاء الشمس، بأن أُؤلّه أصابعي فأوقفَ اللحظة هذه! أتحكّم بالشروق والأصيل كما تتحكّم أخبار الوطن بألبابنا الحلزونية! نشمّ عبق احتراقه فندخل قوقعتنا ونردّد:

"حصل خير، يومين وبيمشي الحال! كلّو كويّس!"

تمرّ بضع عشرات من الأيّام ولا "يمشي الحال"!

نطلُّ من قوقعتنا الباردة مختلسين النظر، فنرى ألسنة اللهب تلعلع في أفواه المحتجّين، نغار على الوطن -إذا ما قُلنا بالغيرة حبًّا للتملّك المشروع.

امتدّت يدي إلى أسطوانة عَبَدَت الغبارَ لقلّة استماعي إليها، "خطيرة" لشربل روحانا :

"سلام قبل الحكي، سلام بعد الحكي

سلامي إلك،

مع إنو ما فيه حكي، ولا حتى فيه بكي

فيه قلوب فيها الوجع

وإنت السفر والشوق وأنا، سلامي معك!"

كم أشعرُ بالذَّنْب! اقتادني ذلك إلى حضن جدّي حين كان يهمس لي:

"يا سيدي، اللي بدّو يِقْنَى مُهرة وما يطعميهاش، يمشي عَ إجريه أشرفلو!". لم أفهم ذلك وقتها، لكنّي أدركتُ الآن أنّي لا أستحقّ شوقًا يحرقني! ولا وطنًا أتوق إليه! كان يرتدي كنزته الصوفيّة في عزّ الحرّ قائلاً :"منفاول عالدنيا تا تشتي، فلبسناها!". ركضتُ إلى كوفيّتي أشتمّها!

كم أتمنى امتلاك رئتين أكبرَ ممّا لديّ! أعبّئ صدري بما أشاء دون حدود ولا ضلوع تكبّلني!

"لا هيي المسافة ولا هوّي الوقت اللي وقّف الحكي!"

إسمح لي، شربل! إنها المسافة والوقتُ سويًّا!

"آه هيي الحال، وعصفور ما لُو نغم!"

أيّ حالٍ هي تلك؟! لم يترك صهيل الخيول التحريريّة حالاً لنا!

حملقتُ في السماء لأجدَ الشمس تتربّع شرقًا، وطيفٌ للقمر يزغرد غربًا. إذا كانا يتراقصان هنا معًا، فمن يضيء للخيل طريقها في الوطن؟!

كم هلعتُ حين حوّلتني تلك الأفكار إلى وترٍ في عودٍ مصريّ! وأخذت تُفَرْعِنُ أمواجَ النيل لتنسجها رنيمًا يغازل الحرّية!

مع أنّ الراديو كان أخرسَ تمامًا، إلاّ أن الفيروز صَدَح:

"وبْلَيل كلّو لَيل، سال الحقد بْفَيّة البيوتْ

والإيدَين السَودا خلعت الِبْوابْ

وصارت البيوت بلا صحابْ!"

ترك النِّيليّون "الحصانَ وحيدًا" كي يؤنس بيوتهم، لأن البيوت تموت إذا ما غاب سكّانها!

 

* تلك جملة وردت في رواية الروائيّ الجزائريّ واسيني الأعرج "شرفات بحر الشمال".

شباط 2011

(مدرسة مار الياس الثانويّة - عبلّين)

التعليقات