09/05/2011 - 13:51

إننا راجعون!../ المحامي جريس بولس

إنها اليوم على شواطئ لبنان، وفي مرابع سورية ووادي الأردن، وغداً على شاطئ حيفا ويافا مرة ثانية

إننا راجعون!../ المحامي جريس بولس

مهداه الى شهداء غزة وفلسطين البررة أينما كانوا.

 

"طريق العودة معجون بالعرق والدموع والدماء، إنه طريق البذل والتضحيه والفداء".

 

لا أزالُ أذكر يوم 10 أيار وكنت على الشاطئ، وقد امتلأ البحر بالزوارق، والأخشاب العائمة تحمل القوافل إثر القوافل.

 

-         ما لهؤلاء هجروا أوطانهم!

-         لا تقول قد هجرناها! لقد تركنا كل شئ هناك – بيوتنا، أموالنا، قلوبنا.

 

إننا راجعون. لن نقيم هنا إلا بمقدار ما نغرز خيمة تظلّلنا ثم نقتلعها.

 

لقد كنت أتصفح هذه الوجوه فلم أرَ عليها ظلال الشك، ولا غبرة الاستسلام، إنها تفيض بالرجاء والوثوب .... إنها تملأ الدروب.

 

إنها اليوم على شواطئ لبنان، وفي مرابع سورية ووادي الأردن، وغداً على شاطئ حيفا ويافا مرة ثانية.     

 

إننا راجعون! أجل إننا راجعون.

 

مررت بعد عام، بذلك الشاطئ، فإذا الخيام لا تزال منصوبة، وإذا اللاجئون لا يزالون لاجئين، ولكن صفرة وجوههم، تزيد، واليأس أخذ بشدة على مخانقهم.

 

إننا راجعون!

 

 مررت بعد عامين، فإذا الخيام تمزقت ولا تزال قائمة. ومررتُ بعد ثلاثة أعوام، وبعد أربعة، فإذا الأوتاد قد تحطمت من اليأس، والخيام صارت كالغرابيل ... ولكن أشواق العودة لا تزال باقية بدون عودة.

 

إننا راجعون!

 

وبعد عشرة أعوام أزيل أكثر الأوتاد، وطويت أكثر الخيام، وحل محلها مساكن من حجر، والأصوات وراء هذه المساكن لا تسمع لأن المساكن الثابتة لا ترجِّع ما تقوله الخيام:

 

-         إننا راجعون ....

 

أين الأشواق التي توسمتها عميقة على تجاعيد ذلك الوجه الهرم الذي لا يزال يريد أن يعود ...

 

وأين الأشواق التي لمستها لهيباً مشرقاً على وجه الفتى الذي سئم الانتظار؟ وأين الأشواق على وجه الطفل الذي لا يزال يرى كالخيال كيف هجر بيته ولماذا؟

 

لن أنسى تلك الأم وابنتها في أحد الملاجئ .... تلك الإبنة المسلولة تسأل أمها عن العودة، فتجيبها الأم:

 

-         سنعود – لا بد أن نعود!

-         قريباً؟

-         قد يكون موعدنا غداً، أو بعد غد، أو بعده.

-         ما أقرب ميعادنا! ولكن كم طال هذا الموعد! إلى متى ننتظر؟

-         لن يكون لنا مستقر في أية أرض حتى نعود .... وهذه الخيام الهزيلة توحي إلينا بأننا سنعود.

-         أجل، سنعود .... ربما نرى طريق العودة بأعيننا.

-         بل نطؤه بأرجلنا.

-         ذلك الأمل وحده يدعوني إلى التشبت بالحياة، بينما أراها تهرب مني بسرعة، هل يغلبني الموت.

-         لن تموتي قبل أن تعودي، وتري أرضك الهاربة.

     يا له من أمل جميل تعلل به الأم ابنتها. ولكن ماذا كانت النهاية؟!

 

لم ترد الأم أن تطيل عذاب ابنتها في المرض والانتظار .... دسَّت لها السم في الدواء، وقالت لها اشربي!

           

شربت الإبنة حتى القطرة الأخيرة، وهي تردد على أمها في الاحتضار:

 

-         ليتك تنظرين الآن ما أنظر يا أماه!

   

     مرابع فلسطين الخضراء، سهولها الحالمة، وأمواجها الزرقاء، والأبطال الذين عادوا إلى الحياة.

 

     إنني وصلت ... وصلت إلى أرضنا.

 

     خرجت الأم هائمة على وجهها في أرض الملجأ .....

 

-         هذا يقول: هل ابنتها ماتت؟

 

-         هذا يقول: إنها مجنونة.

 

-         والآخر يصيح: ولكن أليس الجنون خيراً من العقل؟ لو كنا مجانين لما كنا هنا.

 

     والأم تعبت من هذه الأصوات:

 

     ويحكم؟ الملجأ كله يتحرك: إنه يريد العودة ... إلى متى نظل ضيوف الملاجئ؟ سأعود وحدي إن لم تعودوا أنتم. إن من يريد طريق العودة فليتبعني!

 

     ولا يعرف أحد بعد ذلك عن مصير هذه المرأة المجهولة شيئاً. هل عادت؟ هل  وصلت؟ ولكن الحقيقة هي أنهم وجدوا امرأة مصابة بين الأسلاك الشائكة التي قيدوا بها فلسطين الجميلة.... وغالباً لم تكن هذه المرأة إلا تلك الأم ....

 

    ولا يزال ذلك الصوت يرجع ولا أظنه ينقطع.

 

-   إننا راجعون! أجل إننا راجعون.

                   

                                      ***********

 

قالوا لنا: إن قضية فلسطين أصبحت قضية عالمية. أيريد العالم أن يحِلَّ مشاكله على ظهر  فلسطين؟ أيريد العالم أن يقرر السلم على أعناق اكثر من مليون لاجئ لفظتهم الأرض، وتنكرت لهم السماء؟ أيريد العالم أن يعدم هذا العدد كله من أجل فئة مجرمة همها السلب والاعتداء، وسفك الدماء؟                               

 

لعمر المنصفين! أبعد هذا                            يلامُ المستشيطُ على الملام

 

أيقتل آمِنٌ. ويقالُ: رفِّهْ                      عليك، فما حمامك بالحمامِ

 

ستسعدُ بالذي يشقِكَ حالاً                    وتنعم بعد خَسْفِ بالمقامِ

 

مضى عهدٌ يُجَارُ فيهِ                                  ويؤخذُ للحلال من الحرامِ

 

أجل، إن قضية فلسطين قضية عالمية، فإما أن يعيد العالم الحق إلى أهله إذا أرادَ السلام، واما أن ينتظر الشرارة التي ستشعل الأرضَ ناراً من هذا المكان الذي نزل فيه رسول السلام، وعذب من أجل السلام .... وإذ ذاك سنقول مع ذلك القائل:

 

أليس الجنون خيراً من العقل؟

 

لو كنا مجانين لما صبرنا ... لأننا لن نكون وحدنا ضحايا هذا السلام الكاذب.

التعليقات