24/10/2011 - 16:42

الطين نص معماري../ د. عبد الله البياري*

فالمكان/المدينة كيان مركب، يغلب عليه الطابع اللغوي، وعلاقة الإنسان به هي علاقة طينية بمنطق المزاوجة بين الماء والطين، وتحرر الصلصال من وطأة المعروف من الشكل، لذا فالمسافة بين الطرفين هي مسافة تعبيرية، يحددها الانتماء الطيني

الطين نص معماري../ د. عبد الله البياري*
أن تُسأل (ماذا تعني لك المدينة؟)، هو نوع من الأسئلة الملَّغمة والتحريضية في آن، فهي تمنحك حيزا من الحرية والتعالي بما تقدمه من علاقة خرائطية مع المكان (وما فيها من دلالات لونية) تغري البصر وتغني الصورة، وتغوي التأويل بجمالية الخطيئة (الانفصال)، وذلك في حد ذاته حالة جمالية تستلزم قدرا عاليا من الحياد والموضوعية، وعدم الانجرار إلى غواية جمالية تستوثقها إجاباتنا حرفا مكتوبا بلغة خفيفة متطايرة في فرط تماسكها الجمالي الحر.

أما الجانب التحريضي من التساؤل، فيتمثل في كونه دعوة صريحة لقراءة تأويلية وتأملية في تفاصيل المكان/ المدينة/ الخريطة، باعتبارها نصا يتمظهر لمسا ومسا لغويا في مفرداته: البشر والمعمار والمسافات المجتمعية فيما بينهما، وانعكاس ذلك على القيمة والمدلول والتحرير، باعتبار أننا كائنات مكانية، تتحرك والمكان في البعد الزمني وحرية الفكرة.
 
الجانب الخطير الآخر من هكذا تساؤل، أنه لا يأتي وحيدا أبدا -وإن ادعى-، فالمكان هو حضور الغائب فيه، وحالة من التعيين والتحديد تحددها تجاذبات العلاقة بين حاضره وغائبه.
 
سؤال الذات عن تمثلات المدينة/المكان ودلالاتها، يحولها، إلى موضوع متسام عن مدركاتنا المدنية في جانبها المادي، فيحرر -السؤال- المدينة /المكان من صلابة "الوظيفية" البيولوجية والإثنوغرافية -في سلم آخر-، فتصبح المدينة/المكان حيزا تعبيريا بقدر ما تحقق القيمة المعمارية والمجتمعية والتاريخية قيميا، بقدر ما كان للمدلول الإنساني لها حرية أكبر وقيمة أكبر. (وهذا هو سبب المزاوجية في المتن السابق بين حرية "المكان" واتساع حدوده الميتافيزيقية ومحدودية "المدينة" لغرض معماري بحت).

فالمكان/المدينة كيان مركب، يغلب عليه الطابع اللغوي، وعلاقة الإنسان به هي علاقة طينية بمنطق المزاوجة بين الماء والطين، وتحرر الصلصال من وطأة المعروف من الشكل، لذا فالمسافة بين الطرفين هي مسافة تعبيرية، يحددها الانتماء الطيني.
 
تصعب الإجابة على هكذا تساؤل في مدينتي التي يسير سكان أماكنها فيها -بمعزل عن مكانهم- وأبصارهم شاخصة في قلق وجودي في موطئ أقدامهم لا تعلوه حلما بقدر ما تتدناه خوفا، غير قادرين على رؤية الفلك المشم في المتون المرفوعة بين أرضهم وسمائهم، إما عن إحساس مفرط بالذنب تتقاذفه عيونهم فيما بين مسيرهم في عروقها، يوسف وذئب، وإما استسلام لوطأة حياة حوَّلت الظلال قوام لمس للضوء، فعطبت الثابت من الحياة و الموت.

في المدينة، اجتماع شذراتنا المائية في لحمة الجسد المائي في جريانه اليومي، بكامل اتفاقه، وتواطؤ جاذبية المدينة تارة معه وأخرى ضده، جريان يوسوس لنا مجيبا نداء الطين فينا نحن بشره، وبذره.
 
إن المدينة/الطين التي لا يؤول بها بذرها/بشرها، و البشر الذين لا يحررهم تأويلهم الطيني المتَّمدْن، هم اغتراب المعنى عن ملموس اللفظ.
 
****************************
 
قال لي حرف/حجر، شق فتقه اللفظي من جسد النص المعماري في مدينتي ولم يكن ببالي مرآه سقطاً كغيره:

أنا انعكاس نبضك المائي في الطين، وأنت وبنو طينك تعتزلونني في طقس حداثة الطين الكذب، ولا أدري لم، ألمقتلة سياسية ومجتمعية وطأتكم؟ أي الأحمال تلك التي تحملونها على أكتفاكم، تكسبكم خرسا مزهوا؟

نظرت إليه وهالتني تفاصيله الحاضرة، لاهوادة فيها، لا وقت فيها إلا ظلاً، ولا ظل فيها إلا وقتاً. أعطته تعاريفه المظلولة تفاصيل اللاموصوف من قصور إدراكنا، نحن قاطني نصه، متأملون -والجمع دلالة فقد الحضور الفرد هنا- الغمر الساكن في الشكل.
 
ومساً أصابتني هوة البعد المختصر مكانا وزمانا في لمسه، واستيثاقه بصرا، فتوقف النص الطيني عند أول الطين وأول اللمس.. كم أهملناه وأهملنا، فسقط الزمان بيننا على جسد وفاء الموصوفات لللامحتمل مكتوما، لا يبعثه ابصار حواسنا ولا كثافة فقدنا.
 
هاله صمتي، وكتل الزمان والمكان بيننا رخوة من فرط نهب مدننا، فقال:
أللحيرة جسد؟
قلت: بل للجسد حيرة ونص، في كون أغمض عينيه عن أجساد يلمحها ونهابها، وبيننا خلسة وآية ومنطق الحديد.
قال: أين اجسادكم الحائرة، ومرآوية الزئبق الكاذب تغطيها وتحيطكم، تُفْرطون في وثنية الجسد، بقيافة النص الجسور -شكلا- في تقييد البعد. عبث أنيق هو نصكم، ومرآوية الزئبق فيه لا تخبر إلا ما أردتم من الكذب، ومعتقد الرماد في سرديات اللهب البارد. فالزئبق هو نبض الهروب الأزلي.

نصوصكم/عرَّافوكم، أصواتكم التي تثير حفيظة السماء.. أخرستموها، فلتعودوا إلى مائكم / مَنِّيكم، فزجاجكم الزئبقي لايقول إلا ما يطلب منه، كوزير الوالي وجبريل السماء.. وهنا هو قوَّاد الحي إلى جمالية العدل الإنساني المنهوب.
 
تدخلون أجسادكم الفضية/ الزئبقية عارية اللون والمعنى، حتى الشمس -أصل المعنى والأنوثة- لا تُعْرِّفها، شؤونكم فقدكم النصي المقدس، تسرقون من أنفسكم خلسةً خلسة زمنكم، وألق الآخر. مثقلة متونكم بآخْرِّكم ومنحسرة هي ذواتكم، يطغى حاضرها الملول بقناعة ماضيكم.

وبين كل ثرى وثريا عراب هزيمة منتصرة، يتوج الرماد بالرماد، يبيع لهاث صلصالكم، يتلو عليكم تراتيل إله المعدن، يسرق سماءكم ليحشو بها منطق ملابسه الداخلية معدنا، في زمن الأبوة المقدسة.

جاءكم من قافلة حكماء يدربون صغار الموتى على خيانة أنفسهم، كلما اطمأنوا إلى أنهم أبناء نسل خان حيث قدر على الخيانة. موتىً هم حيث أنجز كل واحد منهم معجزة موته ثقة بانتصار الموت فقط، فعادوا بخرائط جليلة للعمران حول حدائق الموت، خرائط من ريح ومن دوي الصدوع المهولة، وانهيار سفوح المعنى.
 
قلت: أهذا كل ما تراه؟
قال: كلا، فللنص بصر، لا يراكم، ويتنبأ.
فضاؤكم بلا أمكنة، وزمنكم بلا ديمومة، حضوركم في معماركم هو عَرضُ اللهاث من النفس، هو خروج وهروب على الدوام، ذاكرة مضطربة في هزائم المكان المنتصرة. تتلمسون هَوِّياتكم تحت الدروع الذكورية بيد من ضمادات نصوصية لا فضاء فيها، والهوية صلصال وطين وأنثى حرة ومقاومة.
 
أخرستني كلمات وصفه، راكدة تنتسب للمكان عن المكان، أي مرآة تلك "أماكننا"، أي نصوص هي التي تعري فينا خوفا ممسوسا، لا تعوزه إلا مصادقة الموتى من الحياة.

في البلاد بلادي ومكاني خيال يحيا متذررا على حد سيف وشرعة كاهن، يهرب متنكرا في نصوص جسدية لا تهادن أرواحها، ولا أفكارها، بلاد القناعة فيها أول القهر.

بين خيال منتهب وقناعة مسلوبة، يصبح للطين هاجس الأشكال، فيدفن افتراضه الطفل. تنقصنا حرية اللغة، الكسولة كالديمومة، بين ذواتنا وقشرة الموت اللغوي فقدا. لغة رقيقة تخرج من فروج إناثنا، وتسامي تائهن في هوائنا، لغة لا تحتجب لذئب ولا تتماهى ظلاما لخصية، لغة لا جزية لمطبقاتها وتورياتها، لغة لا لواقعها عليها سيف وشيخ، هي كل لزومنا لوأد غيابة الطين في معمارنا وصلصالنا.

نصوصنا/طينتنا سردية تواريخ الفقد المشكول الوصف، هندستها أختام السديم الجمهوري والملكي حولنا سجناً، بأبدان قيدٍ لقضبانه أثير الملمس وشيخه، وعبادة التمر، في علوم المفقودين في ثنايا مخمل المجلس، وزمن الفيلة.
 
نصوصنا، خروج الاسم من خطوط الكف والرقم، عودة التأكيد المنهوب على الوجود. أي النصوص تلك التي يسائلني الحرف فيها عن فقد المنظور من المعنى، أي تساؤل كهذا، يقف محدقا في جرائم اللون والرمز في فينا؟
 
عندما نقع عبيد وصوف حواسنا وبيولوجيتنا الأزلية أيديولوجيا، فطبيعي أن نهاب حرية اللاموصوف، وخيالنا وقع المنهوب منا فينا. حينها يصبح الحب لمنطق النص ضربا من جنون الخيال وتبذير المنطق، متحررا من وطأة القيد والمنفى لغة، حضوره كرم القاعدة المضطرة شذوذا.
 
منحوتنا الحرف، خيال من نبذٍ معمارية هي نصوص موتى وعماء أيديولوجيا، هو أقصى حضور الألفة المجزوءة من فقد الكل.
قال الحرف مستوثقا من غضب نصه الصامت:
خيال له قوام الرمل، نبذ لا تكتمل سرداً، حيواتكم فيه لا تأكيد فيها إلا على حرية الموت، فلتعودوا لبادئ الهوية ومنتهى التجاذب، تلفظوا ماءكم، فمتى تلفظتم الآخر كان ومتى تلفظتموه كنتم حرفا من نص حر.. أنتم، فالموتى لا يلمسون الموتى ولا يتحاورون في الوثنية. نصوصكم/معماركم انتهاك خريطة من ريح وحبكة بلا حكاية.
 
ثم وضع حرفه بين خطوط يدي، وملمس الاسم الإلهي كفاً، وقال:
فيك نبضة قلب تائهة، تنادي حرية المطلق في جسد مغترب نصا.
اعترفت:
أحبها بقدر ما أهوى خرائطها ويغويني فقد اللون فيها بين رمادي بخيل وأسود مفرط في الكرم السلطوي، فتحررني ألوانها المنتهبة رمادا طائرا.
 
قال: لاتتركها إذن، تغدو حكيا أنثويا، يعوزه ذكورية اللفظ، ليتحرر المعنى من وطأة الهروب، لا تفعل لكي لا ينتصر العدم على العدم، وتعود كيمياء المدينة كيمياء متون رطبة.. فقط.
ورحل حاضرا.
 
فتذكرت حينها مدننا المنهوبة والمحتلة، أتراهم يسمعوننا، وماذا كانت لتقول لنا حروفهم، التي تستجير بدعاء الظلام المتصبب حولها فيمنحنا خرسا تهتز له أعراف الضوء، وتلفيق تاريخنا للظلام.. ظلامنا.

التعليقات