25/10/2011 - 03:20

متى التقينا يا صبرا؟ / ناصر أبو نصار

أما أنا فلا أحد يطالبني بإنهاء هذه القصة، لست جان جينيه بأية حال، أنا الذي بدأتُ هذه القصة بحثاً عن لقاء أول مع صبرا، أجدني الآن ألهثُ بحثاً عن نهاية لها! كيف أنهيها والقتلة هم القتلة، والجثث المكومة في مشهدِ احتفال الضدِ يؤشر «رقصوا فوقنا»، كيف أنهيها وأنيابهم وبلطاتهم المسنونة كبرت وكثرت، يأمون ثورات الأرز الجديدة، كيف أنهيها وأم محمود تؤشر «هون هون دفنتو لمحمود.. وين الديك واقف! بإيديّ هدول دفنتو..»، كيف أنهيها وما زلتُ أسأل مَنْ أنزلَ محمود عن الشنكل؟ هل أنزلتهُ أمه الواقفة أمامي الآن؟ كيف أنهيها حينَ يكرم سعيد عقل والجميل وجعجع وتصاغُ «الجريمةَ كهوية»! كيف أنهيها؟ هل أهربُ إلى الرملة البيضا كما فعلتُ يومها! كيف أنهيها؛ أنا المحبوسُ في عمان دونَ بحر.

متى التقينا يا صبرا؟  / ناصر أبو نصار


مجموعة متحف فرحات "صبرا وشاتيلا"

أعودُ إلى بريدي الإلكتروني لمراجعة مراسلاتي مع رفيقتي الدنماركية ماري لارسن في محاولة بائسة لتحديد تاريخ لقائنا الأول، كنتُ قد وعدتها بترتيب زيارتها لمخيميّ صبرا وشاتيلا، لا تشير الرسائل إلى موعد زيارتنا للمخيم، بل إلى تاريخ عودتها إلى الدنمارك 22/1/2008، أحسُ بالخيبة؛ فلا تاريخ معلن للقائنا صبرا! أقفزُ باحثاً عن جواز سفري لأجد على الصفحة رقم 20 ختميّ الدخول والخروج (الأمن العام اللبناني- وصول المصنع-15/1/2008)- (الأمن العام اللبناني- مغادرة المصنع- 31/1/2008)، تضيق الاحتمالات إذاً! لا بُدَ أن لقائي الأول مع صبرا كان بين 15  يناير و22 يناير!

أحقاً كان لقائي الأول مع صبرا في مسافة زمنية مفترضة على رزنامة عام 2008؟ أم كانَ قبلَ ذلك بكثير! مرتميًا في قصص والدي التي كانَ يرويها لي عن المقاومة؟ تلك القصص التي كانت تدفع أمي للصراخ الهستيري «بيكفي خربت الولد، هلق بيصحى مكوبس، بيكفي قصص عن حرب ما قبل النوم، يلعن أبو الجبهة واللّي نفضها»! ذلك الصراخ المغري الذي كان يدفعني لطلب سماع المزيد والمزيد من تلك القصص التي تستفزُ أمي -وأنا المناكفُ الأول في العائلة - تلك القصص التي أخذت عنوانها المطبوع في ذاكرتي بالبونط العريض (حربُ ما قبلَ النوم).

أذكرُ تلك الليلة الشتوية جيداً، يوم اندسَ والدي في فراشي وبدأت الدروس العسكرية والذكريات الخاصة بالتداخل في قصص حرب ما قبلَ النوم:

- ما بصير الفدائي يترك سلاحو بعيد عنو حتى لو متر واحد!

 -لو معي كلاشين بنام معو! جيبلي كلاشين!

 -القصة مش بالسلاح يا بابا.

 -ولا؟

- القصة بالأوادم اللي حاملين السلاح بس يجي وقتها يا بابا أسهل شي تأمين السلاح.

- كيف؟

 -في الـ1982 بس صار الاجتياح وتحاصرنا ببيروت 80 يوم بطّل عنا ذخيرة وبدنا قذائف آر بي جيه مشان نقدر نواجه الدبابات جبناها من نص عيون الإسرائيلية!

-هيه كيف؟

- بكف حشيش ودولارات مزورة! دخلنا شاحنات محملة قذائف آر بي جيه على أنها حاملة فواكه وخضرة بقلك من نص عيون الإسرائيلية! وكان في أطفال بعمرك اسمهم «أشبال الأر بي جي» في الرشيدية والبرج الشمالي والبص وخلدة وعين الحلوة والقاسمية وصبرا جننو الإسرائيلية!

أفكرُ الآن أن التواطؤ بين الأعداء مقبول أحياناً، خصوصاً عندما يسمح بتمرير شاحنات محملة بقذائف الأر بي جي! هذا التواطؤ الذي يعتقد فيه كلُ طرفٍ بأنهُ خدعَ الآخر! بينما تصمد بهِ المقاومة لعشرة أيام أخرى وتحولُ دونَ المجزرة! هل قال والدي صبرا؟! نعم.. صبرا الطفلة التي يحرسها أطفال بعمري!

أعودُ إلى صبيحة ذلك اليوم الضائع التاريخ من عام 2008 عندما استيقظتُ باكراً في عاليه -جبل لبنان- ونزلتُ برفقة رفيقي عربي إلى مقر اتحاد الشباب الديمقراطي حيث كانت رشا الصحفية في جريدة الأخبار وماري لارسن ورفاقها الدنماركيين في انتظارنا لنذهبَ إلى صبرا، لم أكن قادراً على إخفاء ذلك التوجس والتوتر أمام أي سؤالٍ كانت تطرحهُ ماري وتجيبهُ رشا، عن عدد الشهداء الذين سقطوا في المجزرة، عن الروايات التي سنسمعها، خصوصاً عندما كانت تختم إجابتها بـ «هلق بتشوفو كل شي»! كأنَ الشهداء لم يدفنوا، كأنهم على مشهديتهم المألوفة في أغنية «الحلم العربي» والأفلامِ الوثائقية، مكومين أمامَ أبواب منازلهم! مقطعين، عراةً، ومغتصبين! كأن تلك المرأة الفلسطينية لم تزل تسير في رائحة الموتِ الأسودِ تصرخ «وين العرب وين.. وين العرب وين.. صورووو صوروووو وودوووووو»! أعاتبكِ يا رشا وإن كانَ عتاباً متأخراً «كيف رح نشوف كل شي؟ كيف؟»! حتى أولئك الذين رأوا كل شيء وصوروا ووثقوا وكتبوا، هل نقلوا الحقيقة حقاً؟ ماذا إذا كانت الكتابة كذبة؟ عليكَ أن تكونَ مقتولاً وملقىً بين حطامِ الشهداء وتحت المقبرة حتى «تشوف كل شي يا رشا»! لا الكتابة ولا الصورة تلتقط الذباب الخارج من أفواه القتلى، ولا رائحة الموت الكثيفة «أنها لا تقول لنا القفزات التي يتحتم علينا القيام بها عندما ننتقل من جثة إلى جثة

وصلنا سوقَ صبرا «هو تقاطعُ شارعين» بدأت رشا بالشرح ورسمِ الخارطة السياسية ومن يسيطر على الشوارعِ المحاذية لصبرا «حركة أمل من مدخلِ السوق» هون الكشك الـ «متر بـ متر» أجرتو الشهرية 2000 دولار أغلا من الحمرا.. ولاوووو. عن يمينك هي المقبرة بالرجعة منشوفها في مقبرة تانية جوا».. بعد أن انتهى شارعُ السوق وصولاً إلى المزبلة التي ندخلُ منها صوب زواريب المخيم كانَ الرفاقُ في انتظارنا، عانقني فادي ذلك العناق الذي لا تفارقك رائحته، كأنهُ أحد تلك العناقات القديمة التي ألفتها بين أبي ورفاقه، وقال «أصدقاؤك في حماية الجبهة .. تفضلوو we are PFLP welcome welcome».. وبدأت الجولة.

كانَ قلبي يزدادُ انقباضاً كلما نفذتُ من زاروبةٍ لأخرى، ويدي اليسرى التي تتشنج كلما استثرتْ توقفت تماماً ولساني انعقد، لم يكن حجم الفقر والقذارة ورائحة المجاري والذل المعلب في أقل من 40 دونم ما شل لساني ويدي.. بل استمرارُ الحياة! وصرتُ أفكر في ضرورة الخروج بأسرع وقت، لم أستطع البقاء لأكثر من ثوانٍ معدودة في المقبرة التي يحتضنها المخيم، كنت أحاول جرهم جراً لإنهاء الجولة بأسرع وقت، ولكن الشهادات كانت في طريقها، أم علاء وأم محمود وأم وأم... ولم أستطع الهرب، عدنا بالشهادات بعد التقاطِ عدد كافٍ من الصور لزواريب المخيم إلى المقبرة التي في مدخلِ المخيم وبدأت أم محمود.

»هون هون دفنتو لمحمود.. وين الديك واقف! بإيديّ هدول دفنتو«...

سألتني ماري أن أترجم، وبعد أن ترجمت سألت ماري كيف عاشت أم محمود وماتَ محمود؟!
»كنت باعثة محمود ينام ببيت سيدو برا المخيم ليلة الأربعا وأنا كانت الصغيرة بترضع ع بزي، وأنا بنام بكير وكان ضو بيتي مطفي، سمعت على الباب صوت جنود بيحكوش عربي بيحكو عبراني أو شي ثاني، وللصدفة مش لشي ثاني وحسب ما فهمت بعد المجزرة إنهم كانوا يطفو ضواو البيوت يلي بيذبحوا اللي فيها علامة إنهِم قتلوا أهلها. وخوف من أن تصيح البنت ويسمعوا حسها ويذبحونا، فتحت برميل الحمام البلاستيك الكبير وسكرتو عليّ وعلى البنت.. بعدين سمعت حركة في البيت وظليت قابضة على قلبي وبدعي الله إنو تظل مريم نايمة! هيك ظلت حالتي 3 أيام جوا هالبرميل«...

لم أستطع الاستمرار في الترجمة، طلبتُ إليها التوقف قليلاً، غير أن ماري المتبعثرة أمام صلابة أم محمود وهي تروي القصة، بدأت بالبكاء وسألت: محمود كيف لقيتي محمود!
«حسب ما خبرتني ستو إنو صار يعيط بدو يرجع عالدار، قام سيدو حملو نهار الجمعة بدو يرجعو عالمخيم وقتلوهم عالحاجز.. قبال ملحمة. طلعت من البرميل بس صرت أسمع حس الناس والعالم، درت على الناس أتفقدهم، بالي محمود عند سيدو، وكنت بشكر بالله طول الوقت قدام يلي شفتو إنو ولادي ظلو بخير، شفت هديل اللي اغتصبوها كانت دايرة بين شوارع المخيم مشلحة وأنا بلحق فيها استرها، جننوها ولاد الكلب، وأنا بلحق وراها وبإيدي الغطى من زاروبة لزاروبة، وكل ما تتعب وتقعد وأغطيها ترجع تركض مشلحة، وارجع أنا ألحق فيها الناس مذبّحة عن يميني وعن شمالي، وجوههم معفنة سودا، ناس مذبوحة بالبلطات والسكاكين وأنا بنط بيناتهم رافعة ثوبي بإيد وماسكة الغطا بإيدي الثانية، وأنا بلحق فيها صارت الملحمة  قدامي، وأنا بركض اتطلعت هيك ومرقت من جنب الملحمة، ولمحت بنطلون كحلي بعرفو لولد صغير معلق بالشنكل مثل الجِدي.. وسقط قلبي.. هذا بنطلون محمود... محمووووود«!

توقفتُ عن الترجمة عند كلمة «بنطلون كحلي بعرفو» كنتُ مذهولاً، وربما كنتُ قد وصلتُ إلى نهاية القصة قبل أن تنهيها أم محمود بتلك الصرخة المكتومة «محموووود» وتبكي..

ماري:  !Nasser what happened next! What happened to Mahmoud

- Lets go Mari I cant translate any more!       

يقول جان جينيه: «ناشر رواية «أسير عاشق» طالبني بأن أكمل الكتاب، لكنني خشيت أن تدلَ نهايتهُ على نهاية المقاومة، وذلك لأن كتابي سيكون قد أوضح ما هي المقاومة، بل ما إذا كان قراري بكتابة ما كانتهُ سنواتي مع المقاومة دليلاً على أنها تبتعد، ذلك أن شعوراً لا يُسمّى ينبئني أن الثورة تتهافت، تتعب وقد تنعطفُ في الدرب وتختفي».

أما أنا فلا أحد يطالبني بإنهاء هذه القصة، لست جان جينيه بأية حال، أنا الذي بدأتُ هذه القصة بحثاً عن لقاء أول مع صبرا، أجدني الآن ألهثُ بحثاً عن نهاية لها! كيف أنهيها والقتلة هم القتلة، والجثث المكومة في مشهدِ احتفال الضدِ يؤشر «رقصوا فوقنا»، كيف أنهيها وأنيابهم وبلطاتهم المسنونة كبرت وكثرت، يأمون ثورات الأرز الجديدة، كيف أنهيها وأم محمود تؤشر «هون هون دفنتو لمحمود.. وين الديك واقف! بإيديّ هدول دفنتو..»، كيف أنهيها وما زلتُ أسأل مَنْ أنزلَ محمود عن الشنكل؟ هل أنزلتهُ أمه الواقفة أمامي الآن؟ كيف أنهيها حينَ يكرم سعيد عقل والجميل وجعجع وتصاغُ «الجريمةَ كهوية»! كيف أنهيها؟ هل أهربُ إلى الرملة البيضا كما فعلتُ يومها! كيف أنهيها؛ أنا المحبوسُ في عمان دونَ بحر.

فلسطين، عمان

nasser.abu.nassar@hotmail.com

التعليقات