23/01/2012 - 19:48

كيف سيروي ابن كثيرٍ تاريخ الرّبيع العربيّ / د. علي باناعمة

...ثمّ دخلتْ سنةُ ثنتين وثلاثين وأربعمئةٍ وألفٍ! وفيها كانتِ الحوادثُ العظامُ، والأحداثُ الجسامُ، وانتظمَ فيها من جليل الوقائع ما لم ينتظمْ في سواها، وشهدتْ فيها أمّةُ العرب من زوالِ الملكِ، وتحوُّلِ الأحوالِ، وتبدُّلِ التّصاريفِ ما لا يكون مثلُهُ إلا في المدد المتطاولةِ، والأزمنةِ المنفسحةِ.

كيف سيروي ابن كثيرٍ تاريخ الرّبيع العربيّ / د. علي باناعمة


عــ48ــرب: ملف "عامٌ على الثّورة".


...ثمّ دخلتْ سنةُ ثنتين وثلاثين وأربعمئةٍ وألفٍ (1432 هـ)!

وفيها كانتِ الحوادثُ العظامُ، والأحداثُ الجسامُ، وانتظمَ فيها من جليل الوقائع ما لم ينتظمْ في سواها، وشهدتْ فيها أمّةُ العرب من زوالِ الملكِ، وتحوُّلِ الأحوالِ، وتبدُّلِ التّصاريفِ ما لا يكون مثلُهُ إلا في المدد المتطاولةِ، والأزمنةِ المنفسحةِ.

وما علمنا في التّاريخِ قطّ أن ملوكًا ثلاثةً كبارًا زالَ ملكُهُم في عامٍ واحدٍ إلا ماكان في هذه السّنةِ العجيبة!

ففيها فرَّ طاغيةٌ ظالمٌ كان يحكمُ أرض القيروانِ، يُقال له: ابن عليّ! وقد ذكروا أنَّه ماترك سبيلاً يُحاربُ به الدّين إلا سلكه! ولا هداه شيطانُهُ إلى شيءٍ فيه منقصةٌ للإسلامِ ورجالِهِ وتضييقٌ عليهم إلا أخذ به! فسجَنَ وعذَّبَ وقتلَ، ثم لم يرضَ حتى حوَّلَ بلادَ القيروانِ من عاصمةٍ شامخةٍ من عواصمِ الإسلام، وقلعةٍ منيعةٍ من قلاع العلم، إلى حانةٍ كبيرةٍ، يتسلّى فيها الفرنجةُ بكشفِ عوراتِهم، وإتيانِ رذائلهم، وقد بلغني فيما يرويه الثّقاتُ أنَّ المسلمة العفيفةَ ما كانتْ تسطيع أن تلبسَ حجابَها، وأنَّ جلاوزةَ هذا الظّالم ربّما نزعوه عنها في الطّرقاتِ وأماكنِ العمل! فالحمدُ لله الذي عجَّل بهلاكِهِ.

والعجيبُ أنَّ الله قد جعل مبدأ هلاكِهِ على يدِ فتى فقيرٍ كان يبيعُ ثمارَ الأرضِ يتعفّفُ بذلك عن السّؤال، فلمّا استبدَّ به الفقرُ، وغاظَهُ أن تمتدَّ إليه يدُ ذاتِ سوارٍ تلطمُهُ، أحرق – غفر الله لنا وله – نفسه، فلم يلبثْ أن هاجَ النّاسُ ففرَّ "بائعُ البلادِ" بفعلةِ "بائع الخضار"! ولله الأمر من قبل ومن بعدُ.

وفيها أُسِرَ فرعونٌ كان يحكمُ أرضَ مصر، جعل عاليها سافلها، واتّخذ له من سِفْلةِ النّاس أعوانًا وأنصارًا، فكان منهم الوزير، والمدير، والخفير، والسّاعي بالفساد، والمغتصبُ لحقوق النّاس، والمشيعُ للفاحشةِ.

وقد ذكروا أنّ شرَّ خصاله أنّه كان ردءًا لليهودِ يظاهرهم على بني دينه من أبناء فلسطين، ولقد سمعنا عن حصارِ القلاعِ، والمدنِ، ولكنّنا ماسمعنا قطُّ أنّ حاكمًا مسلمًا يحاصرُ شعبًا مسلمًا بأكمله سنين متطاولة، لا يبالي بموتِ من ماتَ، ولا بهلاك من هلك، ولا بجوع من جاع، ولا بمرض من مرض!

ولم أر فيما رأيتُ من تواريخِ الأمم والملوك والطّغاة والظّالمين حصارًا يكون تحتَ الأرض كما يكون فوقها! فقد ذكروا أنّه لم يرضَ بغلقِ المنافذِ ونصبِ العسكرِ على الحدود، حتّى شقَّ في الأرض شقًّا عميقًا، ثم دلّى فيه من ألوانِ الحديدِ وغيره ماصنع به جدارًا يَعْيا الحاذقُ بنقْبِهِ، وأعجبُ من هذا أنَّه جعل فيه شيئًا لا يُدرى ما هو، يجعل المرءَ إذا لمسه ينتفضُ فيموتُ!

ثمّ هو بعد ذلك يبسطُ لليهود بيمينه ما قبضه عن الفلسطينيين بشماله، ولقد جعل الحرَّ عبدًا، والعبدَ حرًّا، حتّى لَمصرُ في عهدِهِ أحقّ بقول أبي الطيب:

نامتْ نواطير مصر عن ثعالبِها *** فالحرُّ مستعبدٌ والعبدُ معبودُ

فلم يلبثِ المصريّون الأحرارُ أن ذَكَروا به الحاكم بأمر الله.. فهاجوا عليه كما هاجوا من قبلُ على الحاكمِ، على أنّهم أسروه ولم يقتلوه.

وقيل: إنّه احتشد في أرضٍ يقال لها التّحريرُ ثمانية ألفِ ألفِ إنسان، فيهم الرّجل والمرأة، والصّغير والكبير، والمسلمُ وغير المسلم، فما زالوا ثَمّ يهتفون ويصرخون، مارفعوا سلاحًا ولا آذوا إنسانًا، ولا تلطّخوا بجريرة، وظلّوا لا يبرحونَ حتّى تنحّى ذلك الحاكمُ وأُخِذ أسيرًا. وقيل: إنّه بكى طويلاً لما زاره صديق قديم!

ولله في خلقه شؤون!

وفيها قُتِلَ طاغوتٌ من طواغيتِ الأرضِ عزّ نظيرُهُ.

قتلَهُ من قتلَهُ بعد أن أُخذَ أسيرًا من سَرَبٍ كان قد اختبأ فيه ذليلاً بعد عزّة، قليلاً بعد كثرة.

قالوا: وكان هذا الرّجلُ وليّ أمر طرابلس وما حولها أربعين عامًا، ماترك قتلاً ولا ظلمًا ولا نهبًا ولا جنونًا ولاحماقةً إلا أتى بها!

وبلغَ من حمقِهِ أنّه كان يلتقطُ المزقَ من الأقمشةِ فيجعل منها ثوبًا!

وأنّه كان يقف بين ملوك الأرضِ، فيسخر ويهزأ ويتمخرقُ ويمزّق الأوراقَ ويلقي بها في وجوه النّاس!

وأنّه جعل لنفسِهِ لقبًا عجيبًا ماعرف النّاسُ أطولَ منه!

وأنّه كانت له خيمةٌ يطوف بها الأرض، يضربُ أوتادها حيثُ حلَّ، ثمّ تكون هي مجلسَه ومضافتَهُ، وربّما نصبها بجوار القصر الكبير الفخمِ، ثمّ يأتيه الرّئيسُ أو الملك فلا يُجلسُهُ إلا فيها!

وأنّه لم يرض أن يؤرّخ بتاريخ المسلمين ولا بتاريخ غيرهم! فابتدع لنفسه تاريخا ابتدأ من وفاةِ نبيّنا صلى الله عليه وسلم! ثمّ ألقى بأسماء الأشهر التي عرفها العربُ والعجمُ وسمّى شهوره: أين النّار! والماء! والتّمور! والطّير! وهلمّ جرًّا.

وبلغَ من حمقه كذلك أن صنّف كتابًا سمّاه "الأخضر"، ادّعى أنّ فيه صلاح العالمين، وخلاص الأرضِ من فقرِها وعنائها، وأنَّه دستورُ العصرِ سياسةً واقتصادًا!

وفي الجملة فإنّ غرائبه لا تحصى.

ومن وقائع هذه السّنة كذلك ما فعله حاكمُ الشّام لمّا تنادى أهلها بطلبِ حقوقهم وحرّيّتهم، فلم يلبث أن سلط عليهم جلاوزتَه، ونفرًا كانوا يُسمونهم "الشَّبِّيْحة"، واحدُهم "شَبِّيْح"، وهو الرّجلُ من غير العسكرِ يُعطى السّلاحَ فيفعل به مايشاءُ.

وفعل الرّجلُ في أهل الشام ما لو وجده إبليسُ في صحائفِهِ لأخزاهُ واستحيا منه!

ومثلُ ذلك فعلُهُ رجلٌ ظلَّ يحكم اليمن ثلاثين عامًا، فلمّا ملّه النّاسُ، وآذنوه بالرحيل، عاجلهم قصفًا وقنصًا وقتلاً وجرحًا، فكان ما كان ممّا لستُ أذكره!

ثم انقضت هذه السّنة ودخلت سنةُ ثلاث وثلاثين وأربعئمة وألف.. وفيها..".

اهـ.

 

هذا ماتصوّرتُ أنَّ المؤرّخ الكبير الإمام ابن كثير سيكتُبُهُ لو قُدِّر له أن تكون هذه السّنّةُ العجيبةُ ضمنَ ما أرَّخ له في كتابِهِ الفذّ "البداية والنّهاية".

 

.........................................................................

لمشاهدة جميع مواد ملف "عامٌ على الثّورة": 

http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=88595

التعليقات