28/01/2012 - 20:58

شيء لا يعقل / بيروت حمّود*

مات "أبو سِعْده"، لا لأننا لم نعد نسمع عنه مطلقًا، ولا لأنه هرم كثيرًا فلم يعد جسده الضئيل قادرًا على حمل تلك البضاعة كلها، بل لأننا نحن كبرنا، ولم نعد نذهب إلى الجنوب، ولأنه حقًا انتهى عمره ومات!

شيء لا يعقل / بيروت حمّود*

- بيروت حمّود -

لا يعقل.. لا يمكن.. مستحيـيييل.

كيف حدث ذلك؟ كيف..كيف؟

كان الموت يلاحقهما ككابوس، يلح عليهما كهاجس يقرع أجراس الذاكرة والعاطفة، يحدق فيهما كبوم تخلى عن احتراف الحكمة ليعتنق مذهب الصدى. ما كان يقلقهما سوى الشمس التي سيعلقها الرب على شماعة السماء ذلك الفجر؛ فالفجر في "مقبرة الشهداء" يدق الطبول إعلانًا عن حرب التفاصيل هنا، مع الفجر يأتي من تقاعد عن الفرح يزرع فوق الأضرحة ما يحتمل زمهرير كانون. ولهذه المقبرة شِعب واحد شقه "الشهداء" في تموز حين تناقض العام مع الخاص واختلط اللحم بالإسمنت والغبار، حين سقطت سهوًا صواريخ "كتيوشا" وسط "مجد الكروم" ولم يصرخ أحدٌ بالمقاومة اللبنانية "أيا إخوتنا رأفة بنا".. فقد صار الفقيدان شهداء في الجنة، لأن السيد "حسن نصر الله" ألبس موتهما رداء الشهادة!

هكذا وجدت مقابر مجد الكروم ذاتها تختنق فحفرنا لهم قبورًا ضاربة حتى القاع في أرض بلا قاع.

وكان هذا هو الجنوب..

وبكيت الجنوب كما نبكي فقدان عزيز، بكيته كما لمْ أبكِ أحدًا من قبل، في غرفتي في شرفتي عند شباكي على أوراقي ويدي تحاصر القلم كما الكلمات تحاصرني.. بكيته حتى التخمة، فقذفت معدتي آخر ما أكلته ذلك النهار..

وعاد الألم.. عاد يحاصرني عندما وجدت فردة حذائه ملقاة في الشارع، وصفير الرياح يصرخ وكأن الله من عليائه يجهش بكاءً فوق المجزرة، وكان الشارع يلوك دمه تحت الغطاء الأبيض.

 تجمع الناس والشرطة حول الجثة الهامدة:

من هذا الغريب؟ هذا الغريب ليس منّا / ليس لنا / لا نعرفه / لمْ نره قبل اليوم / كيف مات؟ / ليرحمه الله..

وهذا الغريب جاءنا من المريخ طالبًا بعض المال ليعيل أسرة أنهكها الفوسفور في محرقة غزة الأخيرة..

إنه ليس منا!.

خذوا الجثة لتشرّحوها وارجعوه إلى دياره فيدفن هناك، هذا ما اقترحه شرطي..

اترك الجثة حتى يعود الهارب.. لقد دخلوا إلينا بهويات مزورة، لن يفلتا من العقاب! - قال آخر.

وكيف صرت أيها الجنوب؟! وكيف صرت بلا زيتون، بلا جذور، بلا رحمة؟

***

مرة أخرى لا يعقل، لا يعقل أن يظل هذا الشيء قابعًا في مكانه هكذا دون أن يبحث عن منفذ يتردد على الضوء من خلاخله، بت لا أطيقه، أريد أن أنام مرة واحدة بسلام دون أن أشعر بثقله.. وهل الطريق الوحيد هو أن يخرج مني؟! فليخرج إذًا!

كأنني تحضرت لمجيئه، جلست على كرسي القش أتابع شيئا لا أتابعه على شاشة التلفاز، ونسيت إبهامي يلوكه اللسان داخل فمي، وانتبهت في اللحظة الأخيرة لصوت المفتاح وهو يتحرك خارجًا في فتحة الباب، فأخرجت إبهامي بسرعة ونشفته بكم الكنزة، لأنه كان قد طلب إليّ ألف مرة أن لا أمص إبهامي ذلك، بكل بساطة  لأنني "صرت كبيرة"؛ وكنت إذ ذاك في نهاية صف السادس كما أذكر.. دخل وقبلني وشممت رائحة العرق تنبعث من فمه، وأخذ أنفي يتابع رائحة العرق، وتمنيت أن ينسى زجاجته في المطبخ فأندفع كعادتي أصب لي القليل منه وأمزجه بالماء المثلج حينما يخلد هو للنوم بعد أن يحدثني الكثير في السياسة التي لم أكن أفقه فيها شيئًا.. وكنت أجد في ذلك الحديث متعة نسيت طعمها هذه الأيام، لكنه ذلك المساء لم يحدثني في شيء، قدم لي مجلد القصص لغسان كنفاني وقال بجدية: من لا يقرأ غسان لن يعرف عن فلسطين شيئًا!

أبي كان عاقلاً لدرجة أنه لم يترك رشفة واحدة في زجاجة العرق ذلك اليوم، وكان واعيًا لينبهني إلى أن داخلي لن يكون مقبرة كبيرة تتسع لمئات القصص، بل سيكون كرامة لهذه القصص أن تكتب لا أن تموت!

قد أيقنت مع مرور الوقت أن ما يمنح حق الدخول لا يخرج بسهولة، وأن القصص التي أحيا ليس بيدي أن أمحوها، كما أنه ليس بيدي قصة التناسي تلك.. فلا شيء يمحى ولا شيء ينسى ولا شيء يضيع!

لكن الكتابة شيء آخر، الكتابة تشبه الحب، وقد أكون أصغر بكثير من أن أقيّم الكتابة أو أتحدث عنها، ما يمكنني قوله حتى الآن أنه لا يعقل، لا يعقل أن أكون قد تجاوزت نصف مدة النوم التي خصصتها لنفسي لأستيقظ في ساعة محددة من الصباح حتى أتمكن من الذهاب بنشاط إلى محاضرة العلوم السياسية، لأن "السياسة مش رز بحليب"، كما قال الدكتور، وفي عز النوم أستيقظ مذهولة لأن الكلمات أعلنت حربها المجنونة، ولأن الذاكرة ترشح قصصها كما جرح يرشح الدم، ولأنني أنا أضعف بكثير من أن أفكر حتى في مقاومتها.

***

لنعد إلى القصة، هذه القصة حقًا قصة وقصيصة.

كان يجيء "أبو سِعْده" إلى مجد الكروم يحمل بضاعته على ظهره، وقد تكون هذه البضاعة سجاجيد صغيرة كنا نسمي الواحدة منها "إياس"، أو تكون ملابس داخلية، أو أغراض منزلية بسيطة.. هكذا يعني ما تَيَسر لهذا الرجل أن يحمل.. وكنا نسمع صوته وهو ينادي سجاجيد، مكانس، شيالات.. فنهرع كلٌ إلى جدته نخبرهن بأن "أبو سِعْده" قد جاء، فتركض جداتنا إليه تدعوه كل واحدة إلى مصطبتها، والحق يقال، كان "أبو سِعده" عادلاً بما فيه الكفاية ليبسط ميزانه فيتخذ في كل مرة مصطبة واحدة منهن، ويفرش بضاعته ويبيع منها ما أمكن.. ومرة افتقدنا حضوره، وكأن مجيأه ضروري، لا لنمارس شفقتنا المعتادة كأطفال على رجل كبير السن، بل لأنه صار جزءا من تلك الطفولة، وظننا أن إسرائيل منعته من الدخول إلى أراضيها، لكننا أدركنا جميعًا فيما بعد أنه لم يعد يأتي إلى الحارات، فقد حدد موعدًا هو الثامن والعشرين من كل شهر (اليوم الذي يقبض فيه العجزة رواتبهم من التأمين الوطني)، يجلس فيه عند باب البنك وينتظر خروج كبار السن فيبيع بضاعته لهم.. ورغم أننا حقدنا عليه، إلا أننا اقتنعنا أن ذلك كله يصب فيه مصلحته المادية.. وذات ثامن وعشرين من شهر ما، اصطحبتني جدتي معها إلى البنك، وشاهدت "أبو سِعْده" يجلس هناك، وقد علق صدرية حمراء كبيرة جدًا إلى حد أنها تتسع لأثداء جميع نساء الدنيا، ومن يومها لمْ أره مطلقًا، لأن جدتي أيقنت أن بضاعة هذا الرجل ستفسد أخلاقي.. وأخذت جدتي تحاول أن تجد شيئًا تلهينا فيه، فوجهت أمرًا لعمتي بأن تصطحبنا إلى "الجلاهي"، وهي تله في جنوب مجد الكروم كان الناس يرمون زبالتهم فيها، وهكذا صارت مهمة ملقاة على عاتق العمة أن تصطحبنا كل صباح إلى الجنوب، وأكثر من ذلك، كانت مجبرة بأن تطعم عشرين فاه، فكانت تحملنا خبزًا وماءً وعلبة "مية بندورة" (يحضرونها الناس في الصيف، وذلك بمعس البندورة واستخراج مياهها ثم نشرها على سطوح المنازل، فتجف مياهها وتبقى كتلة واحدة تشبه العجينة بلون أحمر، وهي مالحة جدًا)، وعندما نصل إلى "الجلاهي"، كانت العمة تخترع ألعابًا عجيبة، فمرة أمرتنا بجمع الإطارات البالية والصعود إلى قمة التل لدحرجتها، والفائز هو من يصل إطاره إلى خط النهاية دون أن يتعثر، ومرة قالت لنا إن الفائز هو من يجمع مئة زهرة من نوع كنا ندعوه "فسا كلاب" خلال خمسة دقائق! وهكذا فقط بدأت علاقتي بهذا الجنوب.

مات "أبو سِعْده"، لا لأننا لم نعد نسمع عنه مطلقًا، ولا لأنه هرم كثيرًا فلم يعد جسده الضئيل قادرًا على حمل تلك البضاعة كلها، بل لأننا نحن كبرنا، ولم نعد نذهب إلى الجنوب، ولأنه حقًا انتهى عمره ومات!

لا يعقل! سأجن!

لمْ أعد أرغب في العودة إلى مجد الكروم، قلت ذلك قبل الآن، ولم يصغ أحد إليّ ولم يستوعبني أحد، لا أحد يرغب بأن يفهم أن هنالك روح ماتت، وأنني أنا لا يمكنني النظر مطلقًا إلى الجنوب بعد الذي حصل!

هذا الشتاء ليس شتاءً، إنه خريف بالمطلق، مئات مثل "أبو سِعْده" أتوا فيما مضى إلى مجد الكروم، مثلها مثل باقي القرى الجليلية، من غزة والضفة، طلبًا للرزق، لأن إسرائيل "أرض المال"..

هذه المرة لم يرأف أحد بأحد، لم يدعهم أحد للمبيت عنده حرصًا على "الأمن العام"، فناما في المقبرة، ربما استعدادًا للموت الذي انتظرهما.. وفي الصباح مات أحدهما بحادث دهس، والآخر بحادث فقدان!

وقررت بمجرد أنني وصلت مجد الكروم وشاهدت الجنوب أصلعًا لا زيتون فيه ألا أخرج من البيت لحين انتهاء عطلتي، لكن هذه التكنولوجيا اللعينة التي قتلت روحنا أنبأتني موته بخبر في رئيسية الموقع الذي لا يخبر إلا عن الموت الذي تعددت أسبابه.. فكفرت.

كفرت بكم وبزيتونكم وبأراضيكم وبسكة قطاركم الحديدي الذي سيمتد على روحي قبل أن يمتد على شيء آخر.. كفرت بالجنوب!

ألم تقل "بيرل باك" إن الحقيقة دائما مثيرة، لذا قلها، فالحياة مملة بدونها؟

***

نظر إليّ في مرآة السيارة بعد أن صب كأس ويسكي آخر:

أنا الوحيد الذي أفهمكِ في هذا العالم!

التعليقات