11/05/2012 - 01:04

"سوبر غلو" / خالد عودة الله

راضي محمود ملتزم جادّ وعنيد بقضايا التحرر والعدالة الاجتماعية، ولم يترك نظريّة في الانعتاق والثورة والتحرر والمقاومة إلا ودرسها ولخصها ووضع ملاحظات وشروحا على هوامشها، وشيئا فشيئا تحوّل راضي إلى موسوعة متحركة في الاغتراب والثورة والآيديولوجيا والنقد والرأسمالية المتوحشة والاستعمار وما بعد الاستعمار والطليعة والمثقف العضوي والالتزام والتطبيع ونقده، وكل ما له صلة من قريب أو من بعيد بالقضايا النظرية والمنهجية للتحرر الوطني والعدالة الاجتماعية.

راضي محمود ملتزم جادّ وعنيد بقضايا التحرر والعدالة الاجتماعية، ولم يترك  نظريّة في الانعتاق والثورة والتحرر والمقاومة إلا ودرسها ولخصها ووضع ملاحظات وشروحا على هوامشها، وشيئا فشيئا تحوّل راضي إلى موسوعة متحركة في الاغتراب والثورة والآيديولوجيا والنقد والرأسمالية المتوحشة والاستعمار وما بعد الاستعمار والطليعة والمثقف العضوي والالتزام والتطبيع ونقده، وكل ما له صلة من قريب أو من بعيد بالقضايا النظرية والمنهجية للتحرر الوطني والعدالة الاجتماعية.

لم يكن راضي محمود ممن يفصلون النظرية عن الممارسة، فحرص أن يكون دائما في الصفوف الأولى للندوات والوقفات والاعتصامات والحفلات  والمسيرات والمحاضرات والاحتجاجات، وكان بعد كل مشاركة نضالية يرجع مساء إلى مكتبته التي تضخمت شيئا فشيئا حتى زحفت الكتب وغزت غرفة الجلوس وخزائن المطبخ ورفوف البهارات وفوق الثلاجة وخزانة الأدوية وطاولة الطعام وفوق "التلفزيون" وتحته، وتكدست في الممرات وصولا إلى الحمام، فقد كان راضي محمود  يحرص ألا يضيّع دقيقة واحدة دون أن يستغلها في تثقيف نفسه حتى أثناء قضائه للحاجة.

حدث ذلك فجأة ذات مساء، عاد راضي مبحوح الصوت من مسيرة حاشدة، وأسرع إلى مكتبته لإكمال قراءة "نقد العقل الجدلي" لسارتر.. حمل راضي الكتاب وتوجه إلى المطبخ ليحضّر فنجانا من اليانسون المحلّى بالسكر الفضي لتهدئة أعصابه ولعلاج بحّة صوته، حمل راضي إبريق اليانسون الساخن وتوجه إلى غرفة المكتبة واضعا الكتاب تحت إبطه، وما أن همّ بالجلوس حتى وقع الكتاب على الأرض فانفصل غلافه عنه، أخذ راضي يبحث عن مادة لاصقة ليعيد  تثبيت الغلاف، فراضي محمود حريص جدا على كتبه.. وجد علبة الغراء المخصصة لصيانة الكتب قد جفّت، فاستعاض عنها "بالسوبر غلو" سريع الجفاف، لصق راضي غلاف الكتاب، وأخذ رشفة من فنجان اليانسون، وأخذ يتفحص غلاف الكتاب ليتأكد من سلامة موضعه، لامس أحد أصابع راضي المادة اللاصقة دون أن يشعر، وعندما هم بإرجاع الفنجان إلى الطاولة، اكتشف راضي أن إصبعه قد التصق به.. سحب راضي إصبعه بقوه لكنه لم يفلح في تحرير إصبعه، وبعد محاولات عدة من السحب والثني، نجح راضي أخيرا في فصل اصبعه عن الفنجان. تأمل راضي رأس اصبعه وقد تشكلت عليه طبقة زجاجية عنيدة حاول غسلها بالماء الساخن والصابون، لكنه لم يفلح  في إزالتها.

توجه راضي إلى سريره بعد أن تكدّر مزاجه واستلقى على السرير منصتا إلى  المطر المرتطم بشباك غرفته، وأخذ يتحسس اصبعه المزجج متأملا في "القوة السحرية" للسوبر غلو".. تداخلت نظريات الثورة والالتزام التي يعج بها عقله مع التفسيرات الفيزيائية  المحتملة لقوة "السوبر غلو"، وفجأة برق في ذهنه التساؤل المجنون: هل يمكن "للسوبر غلو" بقوته السحرية العنيدة أن يحل إشكالية العلاقة ما بين النظريّة والممارسة التي طالما أرقته، خاصة بعد عودته من كل مسيرة أو اعتصام، حيث يتسلل شعور ثقيل بالعدمية واللا جدوى ليجثم على صدره!!!

لم يدر راضي لماذا لم يستطع في تلك الليلة الباردة الطويلة أن يبعد عن ذهنه تلك القناعة المخيفة في عبثيّة تلك الكتب المتكدسة في كل مكان! خاصة تلك التي تتحدث عن الثورة منها، وشعر أنه عالق في فخ محكم منذ سنين، عندما وقع في حبائل الكتب متنقلا من متاهة إلى متاهة، ومن أطروحة إلى نقدها، ومن نقدها إلى نقد نقدها، وهكذا إلى أن أدخلته القراءة في دروب حلزونيّة متداخلة لا تنتهي، وأخذ يتذكر كم كتابا قرأ عن المقاومة والثورة وهو لا يستطيع أن يقول "لا" ولو لمرة واحدة لمديره المنتفخ فسادا وعمالة.

تحسس راضي بقايا "السوبر غلو" على إصبعه، وأخذ يتساءل ماذا لو وضعت بعضا من هذه المادة السحرية في قفل باب غرفة المدير، وماذا لو خلطت هذه المادة السحرية مع الصابون السائل الخاص "بمستر جون"، الخبير في مناهج تدريس التاريخ للصفوف الابتدائية، وماذا لو...........؟ وماذا لو............؟

في الصباح اسيقظ راضي بعد ليلة طويلة قضاها في تمارين ذهنية في الممارسة الثورية باستخدام "السوبر غلو"، وللمرة الأولى منذ سنين، لم يتجه فور استيقاضه إلى "كمبيوتره" ليتفحص عدد "اللايكات" على صفحته على الفيسبوك، غسل وجهه وارتدى معطفه وذهب إلى عمله، وبعد يوم عمل طويل غادر مكتبه، وما أن وصل إلى أسفل العمارة حتى سمع صراخا مدويا:

"MY EYES, MY EYES  I CANT OPEN MY EYES"

التعليقات