04/10/2012 - 15:57

عائد إلى يافا / خالد عودة الله

مع ساعات الفجر الأولى، كان حمادة بصحبة نايف في سيارة جيب مركونه على جانب طريق رقم 6، لتبدأ المرحلة الأخيرة من رحلة العودة إلى يافا، يافا التي لم تعد تعني لحمادة: "بيارة البرتقال وشرفة تطل على البحر"، وإنما ذلك المكان الذي يُمَكّنه من التحديق عن قرب في هشاشتهم التي غلبت هشاشتنا.

عائد إلى يافا / خالد عودة الله

إنه الخامس عشر من أيار.

إنه الخامس عشر من أيار مرة أخرى، عمّا قريب تبدأ طقوس إحياء ذكرى النكبة، التي أصبحت تصيب حمادة بضجرٍ قاتل، يقوم الجدّ بإخراج محتويات الصندوق بعناية جراح: "كواشين" الطابو، مفتاح البيت، ووصولات تسديد الرسوم البلديّة.. يضعها على الطاولة بترتيب لم يتغير منذ أن تفتح وعي حمادة، أقرب الأحفاد إلى قلب الجد، منذ 23 عاما على معنى النكبة: "الكواشين" في وسط  الطاولة، وصولات البلدية على يمين الجد والمفتاح على يساره. يقوم الجد بإلقاء نظرة فاحصة ليتأكد من حضور الجميع قبل أن يبدأ بسرد حكاية الخروج من يافا: قذائف "الهاجاناه"، "اللنشات" الهائمة على وجه المتوسط في جحيم نيسان، الوصول إلى بور سعيد، الصدام مع الشرطة المصرية في المزاريطة، الاستقرار في القاهرة.

سَرَدَ الجد النكبة بكلمات مشتعلة، أبطأت الأعوام الستون من إيقاع السرد، لكنها لم تفلح في الحدّ من قدرته على إشعال الكلمات.. ينهمك الأحفاد باللعب على أجهزتهم الخلوية بانتظار أن تصل حكاية النكبة إلى خاتمتها بوصيّة العودة إلى البيت والبيّارة، لا يمنعهم من مغادرة مجلس الحكاية سوى الإشفاق على الجد الذي لم يتبق له في هذا العالم سوى انتظار الخامس عشر من أيار، ليسري في عروقه يخضور الحكاية، ولتبدأ أيامه بالذبول شيئا فشيئا بعده.

ذابت كلمات الجدّ في الأثير، لكنها دفعت حمادة كل عام شيئا فشيئا إلى تخوم هويته المتشكلة في فرن النكبة، وفي لحظة وعيٍ مغامر، بدأ حمادة يُقشِّر عن ذاته "فلسطينيّتَهُ المنكوبة"، مثل برتقالة يافيّة وافية النضج في روايات جده، ليكتشف وهو يُقَشِّرُ "فلسطينيته" أنهُ يقشِّر في الوقت ذاته، صُهيونيةً خفيّةً مجدولة معها، فقد كانت فكرة "إسرائيل" قد تجوهرت في عادات الفكر للذهن المكلوم، خلايًا عصبيةً، تُمَكِّن الوعي من أن لا يكون إلا ضده، فتحولت العودة إلى كل ما هو ضدها، فمن عادات المغلوبين النزوع إلى التجريد بعد أن يُوغلوا في الترميز.

 لم تعد العودة في جهاز حمادة الإدراكي الجديد: مفتاحًا صدئًا، "كوشان" طابو، شعرا عموديا أو حرا، فنا  تشكيليا، حفل خطابة، صورا بالأبيض والأسود، إحصائيات وأرشيف "الأونروا"، وإنما دفعه عقله الرياضي الصارم ونفوره من ألاعيب المجاز إلى تعريف العودة "بعلم وتقنية عبور الحدود": أنواع الأسلاك الشائكة، أجهزة الرصد والمراقبة، جداول الدوريات، أدوات الحفر والقطع، فن تمويه آثار الأرجل، معرفة أدلاء الطرق ونقاط التهريب.

استحوذ عبور الحدود على حمادة اليافيّ، فلسطيني الأب مصري الأم، صار العالم أمام عينيه حدودا تنتظر أن تُعبَر.. التقى حمادة "بعابري الحدود" في نشرات الأخبار والريبورتجات وأحاديث المقاهي في أحياء القاهرة، عن قوافل السودانيين والصوماليين والإرتريين والنيجيريين العابرين لصحراء سيناء، لينتهي الأمر بغالبيتهم إلى الخيام  المنصوبة في "حديقة ليفنسكي" في "تل أبيب"، التي تبعد 2 كم عن مكان البيت الذي ما زال جده يحتفظ بمفتاحه، على ما تشير إليه خرائط "غوغل".

كان حمادة يخرج من "فلسطينيته" شيئا فشيئا، ويتحول الى إفريقي عابر للصحراء. عَبَرَ حمادة الإفريقي الأسلاك الشائكة بيسر، ومن المحاولة الأولى، بمرافقة سالم البدوي، ابن قرية المهدية التي تعتاش على تهريب البشر إلى "إسرائيل".

كان سالم يتلقى تعليمات وإرشادات العبور عبر جهاز "الثريا" من ابن عمومته نايف السبعاوي، الجندي السابق في وحدة قصاصي الأثر البدو في الجيش "الإسرائيلي"، على الجهة المقابلة من الحدود. أوصله سالم إلى مخبأ تحت شجرة الأثل، وقام بلفه بورق القصدير كمومياء لئلا تلتقط حرارة جسده كاميرات التصوير بالأشعة تحت الحمراء المثبتة على دوريات حرس الحدود "الإسرائيلية".. مرت ساعتان قبل أن تهدأ حركة الدوريات، وليناديه نايف السبعاوي بصوت خفيض فيخرج من مخبأه، ومن ثمّ يُركِبه خلفه على جمل أسود اللون، قال له نايف مازحا:

"هذا الجمل مزود بجهاز GPS لا يخطئ".

مع ساعات الفجر الأولى، كان حمادة بصحبة نايف في سيارة جيب مركونه على جانب طريق رقم 6، لتبدأ المرحلة الأخيرة من رحلة العودة إلى يافا، يافا التي لم تعد تعني لحمادة: "بيارة البرتقال وشرفة تطل على البحر"، وإنما ذلك المكان الذي يُمَكّنه من التحديق عن قرب في هشاشتهم التي غلبت هشاشتنا.

(القدس المحتلة - 02-10-2012).

التعليقات