02/05/2013 - 23:53

الشاباك كاتم الصوت / بيروت حمّود

هل أخطأنا حين أحببنا؟ حين ضمنا بحر نابل وباح لنا من جوفه السحيق البعيد المغمور بالرمل والصدف والصخور أنه كان يعمدنا في تلك اللحظة باسم الله الواحد خالق هذا الكون ومحرك الإرادات "الحب"؟

الشاباك كاتم الصوت / بيروت حمّود

لم يعد مهمًا أن تمر القهوة ماسحة شفتاي بمذاقها المر اللذيذ، ولا دخان السيجارة الذي يذهب طوعًا في فراغ مختنق لأكتب نصًّا أو قصة تحت رحمة دقات قلبي المتوترة. لقد عرفت منذ البداية أن الكاتب الذي يدفن الحقيقة في قلبه يكون قد قبر قصته إلى النهاية، أو دفنها دون أن يحدد موعد بعثها على وجه التحديد، وقد أدركت أيضًا أن الكاتب الذي يقول نصف الحقيقة ويجمل نصفها الآخر تحت مظلة الخوف أو الخجل هو بائع خضار، وليس كاتبًا وعليه أن يعرض "بضاعته الثقافية" في "الحسبة"، وأعرف جيدًا مصير كُتابٍ وأدباء فلسطينيين وعرب قضوا في الزنازين أو اغتيلوا لأنهم كانوا كتابًا حقيقيين، ولأنهم اختاروا ألا يكونوا بائعي بصل! وأتحمل وجه مصيري لأن قلمي اختار الوقوف أمام كاتم الصوت وأمام جبروت جهاز الشاباك الإسرائيلي.

تبدأ القصة عندما تخيلت نفسي رهينة مع أناس سمر البشرة، مكبلي الأيادي ومعصومي الأعين، على أجسادهم الغضة العارية تنزلق حبات العرق بوتيرة متسارعة، وفوهات البنادق الحارة تلتصق بأعناقهم المسدلة كستائر المسرح. كان ذلك عندما استقليت سرفيسًا من رام الله إلى حاجز قلنديا. وقفت في الدور محاصرة بين السياج الحديدي وكاميرات المراقبة، كالسردين المحشور في علبة. على شباك المرور وضعت هويتي الزرقاء الداكنة وانتظرت ريثما تسجل المجندة اسمي وتسمح لي بالمرور، لكنها طلبت إلي الدخول إلى غرفة صغيرة لا تتسع لعصفور وطلبت إلي الانتظار ريثما يأتي ضابط الشاباك.

لكنه لمْ يأتِ. وخرجت.

في مدينة عكا كان التحقيق الأول، والثاني، والثالث، ولن أخوض الآن في تفاصيل التحقيق لا لأنني أنتظر إذن السماح بالنشر من أحد، بل لأنني سأكتب القصة كاملة في الوقت المحدد. التحقيق الرابع  حتّى العاشر كان في سجن الجلمة.

الحياة لا تكذب، والواقع الذي نحيا فيه لا يُشوه، الانفصام في جزئيتيه يجردني من كوني إنسانة بالدرجة الأولى، إنهم لا يفسحون المجال لنا لنكون على حقيقتنا..

هل أخطأنا حين أحببنا؟ حين ضمنا بحر نابل وباح لنا من جوفه السحيق البعيد المغمور بالرمل والصدف والصخور أنه كان يعمدنا في تلك اللحظة باسم الله الواحد خالق هذا الكون ومحرك الإرادات "الحب"؟

لم أكن أعرف ذات يوم أنني سأجر إلى تحقيق يشك في إنسانيتي أولًا وقبل كل شيء.. وأن هذا الكيان الذي ادعى دومًا ديمقراطية مزيفة لابسًا من أيام فكرته الأولى وحتّى يومنا هذا قضية الهولوكوست، متاجرًا فيها ليثبت حق فئة كانت شريدة دون كينونة ودون قوام، مشتتة في بقاع الأرض، أن أرضنا، أرض فلسطين، "الأرض التي بلا شعب والشعب الذي بلا أرض" هي حقه في النهاية.. ليكن لك يا سيدي - حين نكون جميعًا منفصمين على ذواتنا مشتتين أيضًا، غير قادرين على استرداد شبر واحد منها - لكنها ليست لك، وتلك هي المفارقة. هل يجبر الانسان في بلد الحُريات على إثبات إنسانيته ويُساءل عليها أمام القانون والقضاء؟ باسم ماذا عفوًا؟ باسم أن حضرتك توزع الحريات؟ لتكن أن مصدرها وليس لي علم بذلك؟

أنت بدون حرية حين تجردني منها.. وحين تنتزع مني جواز سفر أمليته عليّ وفرضته رغم إرادتي وأمام عجزي- عجزنا جميعًا- عن أن نحمل شيئًا آخر، وحين حرمتني من رؤية إخوتي في الشتات وبلاد العُرب جميعًا، "معتبرنا " منك دون أن نريد ذلك.. عفوًا أنت مرفوض حضرة الشرطي.. وأنت مرفوض حضرة جهاز الشاباك.. وأنتم جميعًا مرفوضون. حريتي لا أستمدها منكم ولا أنتزعها منكم، عليكم بها دون غيرها لأنكم ضيوف ثقلاء، وأنا لست لقيطة في هذه الأرض، لم أولد في أوروبا ولا في أمريكا، ولم آتي من بلاد الغرب كي أبني جنتي الموعودة.. عفوًا أنا هنا قبل حضرتكم.

حين تُجر فتاة في العشرين من العمر، مثلي، علقت صورة السيد حسن نصر الله على جدار غرفتها، أو وضعت صورته على صفحتها في الفيسبوك.. وعبرّت أنها متحيزة لحزب ما دون آخر لا يعني ذلك، ولا يكفي أيضًا، كي تشكوا بأنها مجندة في صفوفهم!

والأغرب حين تسائلونني عن حبيبي! يا كيان "الحرية".. يبدو أننا أغبياء جميعًا حين نُجر إلى حقل الكلام معكم.. فأنتم لا تفقهون غير لغة القوة ولا تفهمون غيرها.

لم نخطئ حين أحببنا، ولم نخطئ حين انتزعوا منا حرية اللقاء. لم يخطئ أبي حين أسماني بيروت، ولم تخطئ أمي حين قالت منذ زمن إنني سأكون أنا ولا غيري.. لم أخطئ حين تجردت من دوائري كلها وهربت إلى نفسي كي لا تأكلني جدران السجن وأتعفن.. حين سيعتبرني العالم بطلة ومناضلة، وحين أنظر إلى وجهي في المرآة أبصق على قذارتي حين أجبر تحت القوة على انتحال شخصية غيري.. أنا لست مناضلة ولا أتاجر بحقوق أحد.. هم الذين أخطأوا حين ألبسوني عباءة غيري. يبدو أن كوابيس اجتياح بيروت التي خرجوا منها مهزومين وحرب تموز التي قهرتهم ما زالت تلاحقهم، ويبدو أن فقدانهم لثقتهم بأنفسهم سيجر قادتهم في النهاية إلى اعتبار كل النعاج التي يقتادونها تعمل تحت إمرة حزب الله.

لقد أدركت خلال التحقيقات العشر التي لم تنتهي بعد أن "كيان الحرية"، لا يريدني هنا، وبالتحديد حين طرح ضابط منهم علي أن أبعد من أرضي لمدة عشر سنوات بحجة أنني أشكل خطرًا على أمن الدولة (نعم؟).

أنا لم أخالف القانون، هم الذين خالفوا القانون حين اعتقدوا أنهم عندما يرهبونني سينتزعون مني اعترافًا بالعمل لصالح حزب الله، أو حين تصرفوا بوحشية حين أحضروا الأسير راوي سلطاني من سجن نفحة الصحراوي لأجبر تحت الصدمة على الاعتراف بشيء لم أقم به، لكنني أنا التي صدمتهم حين جلست أمام راوي بثقة وقلت أنا لم أفعل شيئًا!

سيدي نصر الله، أنت أشرف منهم، أقول ذلك بلا خوف من أحد، أنا أحترمك يا سيدي لأنك لا تتاجر بدماء شعبك مثلهم، ولا تكذب على مؤيديك مثلهم، لا يعجبهم أن أكون كذلك، لكنني لا أخاف من أكبر سياسي في هذه الدولة إلى أصغر جندي يلبس بدلة فضفاضة ينتظر الحافلة في محطة حيفا المركزية، وأمر بالصدفة فيسألني "في أي اتجاه عكا؟"، بل أشفق عليهم!

أعرف أن فيلم "الجيد، السيء، والقبيح" لا يزال مستمرًا، يقلقهم أمر فتاة في العشرين تحب لبنانيًّا، يقلقهم وجودي هنا، لكنهم لم يدركوا بعد أن إنسانيتي تتفوق على وحشتيهم. 

التعليقات