13/05/2013 - 16:05

بانياس.. أنس عمارة / نجوان عيسى

كثيرون أبدعوا في رثائك يا أنس، لعلّك أصبحت أحد رموز اليسار الانهزامي كما قلت في آخر ما نقله عنك أحد من شهدوا فيض روحك، سأحدثّك الآن بعد أن انتقلت من هذه البلاد اللعينة إلى مكان ما، لعله العدم!

بانياس.. أنس عمارة / نجوان عيسى

- الشّهيد أنس عمارة -

كثيرون أبدعوا في رثائك يا أنس، لعلّك أصبحت أحد رموز اليسار الانهزامي كما قلت في آخر ما نقله عنك أحد من شهدوا فيض روحك، سأحدثّك الآن بعد أن انتقلت من هذه البلاد اللعينة إلى مكان ما، لعله العدم!

سأحدثك عن بانياس وعني، لعلك تذكرُ دون ريبٍ آخر ما قلناه على آخر أقداح الشاي الحلو "وليس العرق" التي اقتسمناها، كنت أحدّثك عن الشّجاعة الّتي أبداها أهل بانياس يوم اعتصموا، الشّجاعة غير المسبوقة في التّاريخ، وقتها كنت تشتم اليسار كلّه وتدندن حزينًاً "لا تهتمي بانياس … يلا قومي ارفعي الرّاس."

سأحدّثك حيث كنتَ يا صديقي… عنّي… وعن بانياس:

لا زلت كما كنت أسكن طريق دمشق طرطوس، ولا زلتُ أهيمُ على وجهي في هذه البلاد البائسة لا أعرف أين أسير، لم يتغيّر شيءٌ يا أنس سوى أنّ بعضًا من أصدقائي القدامى وأبناء حارتي قتلوا على الجبهات، وسوى أنّني تأكّدت أنّ السّماء رماديّة! وسوى أنّ إحدى الجميلات ربّما تكون قد أضافت إلى ذاكرتي جرحًاً غائرًاً لعلّه لن يمحى، أو ربّما تنزّل عليّ الملائكة بما يعفي ذاكرتي من هذا الجرح، ليست حياتي مهمّة على أيّ حال،

دعك منّي ومن بؤس ذاكرتي ولنذهب إلى بانياس، نتمشّى في راس النّبع، أو لعلّنا نصعد الطّريق الملتوي الصاعد إلى البيضة، هناك يمكنني أن أحدّثك عن بؤسٍ لا تعرفه!

لا أعني البيوت المحترقة، ورائحة الجثث والدّم، ولعنة الموت الفائض من عيون النّسوة، هذه كلّها تعرفُها دون شكّ.

سأحدّثك عن بؤس النّكران ولعنة الغفران.

لا مجال في بانياس للتّمويه والتستّر، فهويّة القاتل وهوية المقتول تتنافسان في الوضوح، على أن النّكرانَ يا صديقي لا يزالُ سيّد الموقف. لن تنفعَ ماركسيّتك يا صديقي في تفسير الحدث، والأهمّ في تفسير نكرانِه،

يعيش كثيرٌ من النّاس النّكران، وهو يقود صاحبه في الحبّ إلى أن يخونَ أو يخان، ويقود صاحبَه في السّياسة إلى الموت المجّانيّ اللّعين، أمّا عندما تمارسه جماعةٌ بشريّةٌ فإنّ للنّكران شأنًاً آخر.

لعلّ النّكران هنا يرقى إلى مستوى الأساطير المؤسّسة، لا أقصد تلك المؤسّسة للدّول الوطنيّة، بل تلكَ الأساطير التي تؤسِّس لبؤسٍ جمعيٍّ لا ينتهي! بؤسٌ جمعيٌّ لا ينفع معه الوعي الطّبقيّ يا صديقي.

النّكران لعنة، لعنةٌ يا أنس!

جرّبناه في الحبّ وفي السّياسة فقتلنا أو يكاد، على أنّ النّكران الفرديّ قابلٌ للإصلاح والتّجاوز إذا أدركناه قبل الموت، أمّا النّكران الجمعيّ فإنّه سفينة بؤسٍ لا تنتهي، على أنّ في النّكران ما يغري… لأنّه يصوّر لك سفينة البؤس كما لو أنّها سفينة نجاة …. النّكران يمنح صاحبه نومًاً هانئًا فيما ينهار كلّ شيءٍ حوله. تصوّر جماعةً بشريّةً تتناول حبوب النّكران لتستمرّ في النّوم بينما ينهار كلّ شيءٍ حولها! أيّ بؤسٍ هذا أيّها الشهيد.

هويّة القاتل وهويّة المقتول تتنافسان في الوضوح يا صديقي، على هذا هل ثمّة مكانٌ للغفران؟ لا أعلم لكن الغفران كارثةٌ أيضًا، كارثةٌ عندما تطلبه، وكارثةٌ عندما تمنحه، وكارثةٌ عندما يُمْنَحُ لك.

في بانياس على وجه الخصوص، يتنافس الغفران مع عدمه في البؤس كما تتنافس هويّتا القاتل والمقتول في الوضوح، لا شكّ أنّك لو رأيت قريةً مدمّرةً في وسطٍ يعيش حياتَه كما لو أنّ شيئًا لم يحدث، لا شكّ أنّك لو رأيت هذا لشعرت نفسك على حافّة العالم تتمنّى أن يدفعك أحدهم إلى الهاوية السّحيقة، سترفض الغفران دون شكّ، وستشعر في الوقت نفسه بالبؤس لأنّ الغفران لا يأتي، ستتمزّق الطّبقات والسّيرورة التّاريخيّة أمام عينيك، وستتمزّق معها ذاكرتك إلى الأبد!

الغفران يا صديقي لا معنى له إلّا إذا طلبه المرء من نفسه فغفرت نفسه له، وكذلك الجماعات البشريّة لا يفيدها غفران العالم كلّه إن لم تطلب الغفران من نفسها لنفسها وتحصل عليه.

لعلّ قاتلك الواضح مثلك أعفاك من رؤية هذا عندما قتلك قبل حصوله، ولعلّه أعفاك من رؤيتي غير قادرٍ على بثّ البهجةِ في نفسك كما كنت أفعل، لكنّه حرمك من رؤيتنا ونحن لا نزال نضرب في الأرض رغم كلّ هذا البؤس صارخين في وجه العالم كلّه: الحرّيّة إلى الأبد.

التعليقات