05/10/2014 - 20:49

في قطار فلورنسا: قصّة الهروب من موت إلى موت / خليل غرّة

سافرت على طول سكة الحديد الممتدة من فلورنسا إلى روما أنا ومجموعة من الأصدقاء ظُهر الثامن والعشرين من أيلول إلى روما – إيطاليا. توقف القطار بعد ساعتين في محطة "تي بورتينا" جنوب روما وهي معروفة بمحطة المهاجرين والمغتربين

في قطار فلورنسا: قصّة الهروب من موت إلى موت / خليل غرّة

سافرت على طول سكة الحديد الممتدة من فلورنسا إلى روما أنا ومجموعة من الأصدقاء ظُهر الثامن والعشرين من أيلول إلى روما – إيطاليا. توقف القطار بعد ساعتين في محطة "تي بورتينا" جنوب روما وهي معروفة بمحطة المهاجرين والمغتربين. صعد شخص إلى المقطورة الخامسة وجلس على المقعد المحاذي لنا، تأملته ومحصت النظر في ملامحه وتيقنت أنه عربي. نظر إلي وتصادمت أعيننا ومع إبتسامة خفيفة أدار وجهه وسرح في جمال المناظر والطبيعة من حولنا.

كان أسمر البشرة وعينيه تميل إلى الخضرة ووجهه مسلوب، كان طويل ونحيف وعلى وجهه لحية خفيفة مزينة بالشيب. كان يرتدي ملابس شتوية رغم أن الطقس ليس باردًا والسماء صافية والشمس تتوسط السماء. لم يكن معه أية حقائب أو أمتعة، جلس متكتفًا طوال الطريق التي استغرقت ثلاثة ساعات يحدق بالأشجار والأكواخ الملونة على طرف السكة.

حافظت على إتصال عيني مع الشخص وكدت أمضي الوقت بالنظر إليه تارة وإلى الخضار والجبال تارة أخرى. حتى غلب علي النعاس قليلًا لعشرة دقائق، إستيقظت وفتحت عيناي لكني لم أجده، بحثت عنه لكني لم أجده. لا أعرف كيف وثبت من مكاني فجأة وبدأت أبحث عنه من مقطورة إلى أخرى بدون أن يكترث أحد، حقيقةً لا أعلم لماذا تصرفت هكذا وجال هذا السؤال في خاطري أثناء بحثي عنه لكن لم تتوفر لدي أية إجابات. لم أعلم ما الدافع وراء بحثي عنه. جلست على الكرسي الذي كان مستلقيًا عليه وانتظرته، فجأة يخرج من المرحاض ويجلس بجانبي. أتحدث إليه بالعربية بطلاقة وكأني أعرفه جيدًا:

- قعدت محلك ؟
- لا تمام.
- من وين حضرتك ؟
- أنا من حلب، بس فلسطيني.
- وأنا فلسطيني، من ال 48
- اها.
- من وين في حلب ؟
- من مخيم النيرب.

- أنا أصلي من عرابة جنين، بس كنا ساكنين بحيفا وأبوي بال 48 طلع ع لبنان وبعدين رحنا ع حلب.
- من أي عيلة ؟
- الخطيب.
- أهلين عمي.
- أبو إيش ؟
- أبو محمود.
- أبوي كان يشتغل بحيفا، أنا إنولدت بلبنان ولا مرة كنت بفلسطين، ويا ريت بنقدر نرجع.
أنهى جملته بحسرة ولوعة.

- إنتوا من وين ؟ (سأله بلهفة)
- إحنا موزعين يا خال بس كلنا 48 في من جت وأم الفحم، في من حيفا وعكا، كفر ياسيف، إكسال، شفاعمرو، الناصرة، ترشيحا، برعم.
- أهااا.

- إيش بتعمل هون ؟
- والله يا عمي انا طلعت من سوريا، طلعنا من المخيم. إلي عشرين يوم مسافر منمتش.
- كيف طلعت ؟
- قصة طويلة، طلعت من المخيم قبل عشرين يوم أنا ومعي 220 واحد تقريبًا تهريب، قسم إستشهد بالطريق، داعش والنصرة والنظام كانوا يطخوا علينا ويرموا قنابل. وصلنا تركيا كنا بحدود ال 175 شخص، "اللي ضاع واللي استشهد والي إنكمش. ومن هناك طلعنا عاليونان بالبحر، هجموا علينا بالمي وصار ضرب بين التجار وسماسرة التهريب وإحنا رحنا بالدوكة، ابن عمي استشهد وتركناه بالمي إسمه عبد الله. من اليونان رحنا ع كمان جزيرة والله نسيت شو اسمها.. كان معنا بس سكاكين وأكم عصاي هجمنا ع دكانة عشان نوخد اكل وهربنا وتخبينا لمدة يومين كاملات على الشط حفرنا رمل ودفننا حالنا عشان كان في دوريات شرطة. بعدها نزلنا بالبحر عالجزائر، ومن هناك نقطع بالصحراء. بالصحراء مشينا بالباصات بحدود ال عشرة آلاف كم، كل ما نوصل محطة يحكولنا ضايل ألفين كم.. ضايل الف كم وع هالحال. بعدها فتنا ع ليبيا وخد كمان مشي بالصحراء كمان مشي 15 ألف كم، في مقاطع كنا نمشيها مشي فش مي ولا اكل بالليل او بعز الشمس، في مرة ماتت بالصحراء وما قدرنا نعملها اشي، الي بسقط كنا ندشره ورانا فش شو نعمل. وما معنا اوراق ثبوتية او جواز كله تهريب بتهريب وبنتنفس ع مزاج المهرب وكانوا يهينونا ويذلونا كثير، ع إيطاليا وصلنا كنا 91 بالضبط، وما بعرف وين الباقي وما تسألني دخيلك، هلأ انا ممكن أحكيلك ساعة عن كل واحد وكيف مات وكيف خلينا ورانا، بس نحنا تمسحنا وصارنا نستغرب انه هاد كيف بعده مش ميت، الموت هو الشي الطبيعي. بعد ليبيا طلعنا بسفينة ع إيطاليا وهيني بالقطار طالع ع روما وبعدها راجع ع ميلانو عندي باص عالساعة 11 بالليل ومن هناك طالع ع ألمانيا. ضايل بالعذاب هاد ليلتين ان شاء الله يخلصوا وارتاح، تعبت كثير وبدي أنام وبدي أشوف أولادي وبلكي مرتي".

- إلك حدا بألمانيا ؟
- اه طلّعت إبني وبنتي قبل شهر ونص يكملوا تعليمهم ورايح اعيش معهم هناك.
- قديش كلفك ؟
- عالولد والبنت 20000 $ وانا صرت دافع ع حالي 8000 $ .
- مرتك عايشة ؟
- هاد هو السؤال الي بسأله لحالي، بدي جن، طلعت قبل شهرين ع ألمانيا، ما بعرف اذا وصلت او استشهدت بالطريق ولا ابصر شو صار فيها، حكيت مع الأولاد قبل يومين ما جابولي سيرة إمهم. لو بس أعرف هي عايشة ولا ميتة، لو أعرف إنه ميتة أسهل من الإنتظار هاد.

- من وين جبت المصاري ؟
- والله يا عمي بعت كل الدار، وبعت كل الشغل، أنا مهندس محركات، كان عندي محركات بعتهن كلهن بتراب المصاري، البيت، كل الذكريات الصور الاغراض كله بعته، تخيل انه بعت حطة ابوي وثوب امي لصحافية اجنبية، هاد الي ضللي منهم، بس فش مفر يا عمي، بدك تبيع كلشي.. بدي لو بصحلي ببيع سناني وبجيب ليرات بس بدي اعيّش هالاولاد واعيش، إبن أخي باع كليته عشان يقدر يسافر وغرق بالبحر.

- وكيف وضع المخيم؟
- فش حدا، الي استشهد والي هرب. والله الشغلة الي بتسوى دهب بتنباع بتراب المصاري. بس والله يا عمي الي دبحنا الفصائل وارتباطها مع النظام، هاد أحمد جبريل دبحنا ودبح اليرموك وقتل شبابه، في ناس كانوا يحكوا انه هو كان يشرف عتعذيب بعض الشباب وايديه مليانة دم. اليوم يا عمي محدا سائل بحدا، كله بهرب كله تعب ومش ضايل مجال ولا لشي، هاد بطخ عهاد وهاد بضرب هاد ولا حدا فاهم شي، بس الي متاكد منه والحقيقة الي بعرفها، انه النظام المسؤول هو والفصائل، بعدين يا عمي إحنا الفلسطينيية الموت والعذاب لاحقنا وين ما نروح، التعتير والبهدلة مكتوبة علينا، هربنا من إسرائيل لقينا إسرائيل تانية، والي بهرب من الرصاص بموت بالبحر والسمك بوكله او الشمس بالصحراء بتحرقه.

- حلوة هالبلاد، كلها خضار.. كلها انفاق وهوني بهدوش جبال وبحفروهنش عشان يمشوا السيارات. بحلب الناس كانت بساط أحمر للدبابات وللدوريات وتحت بساطير المقدم فلان والرائد علنتان الله وكيلك هلكنا.
- وبلادنا حلوة يا أبو محمود وإن شاء الله بترجع ع عرابة جنين وع حيفا إنت والأولاد والمرة.

نظر إلي وإبتسم إبتسامة الحسرة والشوق .

- كيف باقي المخيمات ؟
- كلها نفس الشي، بس الي أكلها هو اليرموك، مضلش شباب باليرموك، فقدت خمس اصدقاء باليرموك. انا حاليًا ما الي بهالدنيا غير ابني وبنتي وبعرفش اشي تاني، بدي أوصل وأرتاح.

- طيب عمي أنا ما بتفع ضل بنفس المقطورة لازم أغير بلاش يكمشوني، بدي روح.
- طيب أنا يعني بعرفش شو أقلك غير إنه توصل بالسلامة وبدي أعطيك بكيت هالدخان وبدك تقبله كإني محمود ماشي ؟

إبتسم وودعته وغادر.

كانت عينا أبو محمود تلمع وهو يحدثني ويسرد لي تفاصيله هربه من مخيم النيرب، كان يحبس دموعه ويكبت آهاته. ساعتين ونصف لم يتوقف عن الكلام، شعرت أنه كان بحاجة لأي شخص يصغي إليه كي يفرغ كل ما بداخله من ألم ومعاناة وموت وتفاصيل صغيرة جارحة. أبو محمود واحد من بين ملايين الفاريين من الموت إلى الموت، أبو محمود كان يعلم أن إحتمالية إستشهاده خلال الطريق عالية جدًا لكن إرادته وحبه للحياة وللحرية والعيش الكريم له ولأبنائه فرضت عليه النفس الطويل والصبر.

 

التعليقات