10/10/2014 - 23:33

في رثاء سميح القاسم / د. باسل غطاس

أكتب قال الموت لي ولا تأبه لعتب الحياة ولومها ولا تزهد بقلمك فهو لي كل ما يسيل منه وما يفيض من أهداب الروح لي

في رثاء سميح القاسم / د. باسل غطاس

 بحضور وفود من كافة مناطق الوطن من النقب والمثلث والجليل والقدس ورام الله، حيث غصت قاعة الهيثم في قرية الرامة بحشد كبير في مهرجان التأبين للشاعر القاسم، ألقى النائب د. باسل غطاس عن التجمع الوطني الديمقراطي كلمة ورثاء أمام الحضور.

وقال غطاس راثيًا صديقه وابن قريته:
أكتب قال الموت لي
ولا تأبه لعتب الحياة ولومها
ولا تزهد بقلمك فهو لي
كل ما يسيل منه وما يفيض
 من أهداب الروح لي
لا تخجل بأني سبب الكتابة
فمراثيك هي كل ما تملك
ولا يخفف من قهرك سواها
فاكتب ولا تأبه لانتصاراتي
فمراثيك هي كل ما تملك
أخي سميح
لا ينطبقُ عليكَ قولُ شاعرِنا الكبير محمد الفيتوري :
 بعضُ عمرِك ما لم تعِشهُ وما لم تمُتهُ وما لم تقُلهُ وما لا يقالُ
 فقد عِشتَ عُمرَك إلى آخرِ كلمةٍ وقد قدحَ زندُكَ بالحياة حتى آخرِ شرارةٍ ولكأني ببعضِ أبياتِ شعرٍ تُفلِتُ من قريحتِكَ مع مغادرةِ الروحِ لكننا نعجزُ عن إدراكِها,  لقد قلتَ كلَّ ما لم تقلهُ وما لا يقالُ ولكنّا كنا نرغبُ بالمزيد المزيد.
كنتُ أيها الإخوةُ والأخوات المحتفينَ اليومَ بسميح القاسم محظوظاً مع رهطٍ من أبناءِ جيلي، ذلك َأننا نهِلنا العربيةَ والعروبيةَ من أستاذِنا وشاعرِنا المرحوم شكيب جهشان ونهِلنا في نفسِ الفترةِ بالتحديد عيونَ الشعرِ الفلسطينيِّ المقاومِ، من نبعِ ضَيعَتِنا سميح القاسم، وكنا نراقبُ كيف تحولَ هذا النبعُ إلى ذلك النهرِ الجارف الذي ينهلُ منه العربَ من المحيطِ إلى الخليج..  لا تفارقُ ذاكرتي منذ فراقِه تلك الصورةُ لسميح يرافقُني وأنا فتىً يافعا،  في سيارة "التندر العتيقة" مع مكبرِ الصوت، نلُفُ في شوارع قرية الجش أحُثُّ الناسَ عبرَ مكبرِ الصوتِ للمجيءِ لساحةِ القريةِ، وبعدَ كلِّ نداءٍ، أقرأُ من شعر سميح الحماسي، وخاصةً قصيدة - شعبي حي: يدُك المرفوعةُ في وجهِ الظالمِ رايةُ جيلٍ يمضي وهو يهزُ الجيلَ القادم- قاومت فقاوم ، لنستفزَ الناسَ للحضور، وكانت تلك أيامٌ صعبةٌ، أيامُ خوفٍ وضعفٍ، أيامٌ كان سميح يصفُها ويقول بأننا كنا نُحضِرُ لساحةِ البلدِ من الخارج كلَّ شيء: الخطيبَ والمقاعدَ وحتى بعض المستمعين ليكونَ هناك من يصفقُ للخطيبِ.. هكذا كان سميح متواضعا تواضعَ الثوري في حياتِه الشخصية, كدحَ بالقلم وعملَ في الصحافة ليلَ نهار, حتى حادثِ السيارة الصعب الذي كاد يودي بحياتِه لم يُقعدْهُ عن العمل ليوفرَ لعائلته العيشَ الكريم.  إلى جانب ذلك كان هناك انتاجُه الأدبي الغزير ونشاطُه الاجتماعي والسياسي. مأثرةُ سميح أنه استطاع التوفيقَ بين هذه كلِّها بحيويةٍ وعطاءٍ قلَّ مثيلُه.
 إلى جانب هذا التواضعُ وتلك الصفاتِ الانسانيةِ الرقيقةِ على المستوى الشخصي، كان هناك تيهٌ وعنفوانٌ في الشعر والشاعريةِ يختالُ بهما من ربوعِ الرافدَين وحتى قاهرةِ المعزِّ ورباطِ المرابطين دون أيِّ شعورٍ بالنقصِ وكأنه خرج للتوِّ من ديوان أبي الطيب أو كأنه لازمَ رهينَ المحبِسين في معرةِ النعمان. كيف تأتَّى له هذا؟؟ حقيقةً كان هذا ولا يزال لغزاً محيراً بالنسبة لي، كيف لابن القريةِ الفلسطينيةِ الجبليةِ في ريف الوطنِ المنكوبِ بعيدا عن مركزِ المدينةِ الفلسطينيةِ المهجرةِ والضائعةِ ألاَّ يشعرَ بأي تحفظ أو تردد مقابلِ المراكزِ الثقافيةِ الزاخرةِ في الوطن العربي فيبحر باتجاهها ويرتمي بأحضانِها بتلك البساطةِ والسهولةِ فتتقبلُه لحما من لحمها وقطعةً من جسدِها ؟؟ ذلك لَعَمري من أسرارِ شخصيةِ وإن شئتُم عبقريةِ سميح القاسم.  من موقعِه هذا أصبح سميح واحدا من إثنين استطاعا بناءَ جسورٍ للتواصلِ بيننا نحن فلسطيني الداخلِ وبين العالمِ العربي.
سميح وان اختلفْنا معه فلا نختلفُ عليه، فقد كان يتمتعُ ببوصلةٍ دقيقةٍ جدا للعروبةِ لِما فيه خيرُ الأمةِ، كان عربيا أولا وفلسطينيا بعد ذلك  متجذرا في عروبتِه وفي فلسطينيتِه بانسانيةٍ طاغيةٍ جعلتْهُ يقبلُ الآخرَ ويتعاملُ معه. كما ودفعته للإيمان بالثوراتِ العربيةِ وبالربيع العربي،  مهما تعثرَ ومهما جلبَ من مخاطر في المدى القصير، فقد آمن سميح إيمانا راسخا بحقِ شعوبِنا العربيةِ بالتحررِ من الاستبدادِ والعيشِ بحريةٍ وديموقراطيةٍ، لقد كتب وكتب وثم كتب ولم يتلعثمْ كما جرى مع أوساطٍ يساريةٍ عديدةٍ في المنطقةِ ورفضِ معادلةِ إما المقاومةِ أو الثورةِ على الاستبدادِ، ورأى أنَّ أكثرَ ما يخيفُ إسرائيل ويرعبُها أن ترى الماردَ العربي يتحررُ من قيودِه. لقد ذهب سميح ليرقصَ حافيا في جادةِ الحبيب بورقيبة محتفلا بالحرية والانعتاق من الاستبداد والدكتاتورية  وافياً بوعدٍ قطعَه على نفسه.
ماذا أقول لك يا سميح في حضرةِ غيابِك سوى ما قلتَهُ أنت لرفاقِك ممن مضَوا قبلَك في مرثاةٍ من برج الثور:
خطأٌ خطٌأ ليس هذا حسابُ المصير
كلُّ عمرٍ يطولُ بما فيه من ثمرٍ
وبلا ثمرٍ كلُ عمرٍ قصير..    
 إخوتي أيها الحالمون
حضرةُ الحلمِ والروحِ
لا تنتهي بغيابِ الجسد
 
ومنْ كان له مثلُ هذه الثمارِ لعمري فإن روحَه وحُلُمَه سيبقيان مُتَّقِدَين في ذاكرةِ ووجدانِ شعبِنا ومَشْعَلا لا ينطفئُ في معبدِ الأدبِ والفنِ الإنساني العالمي.   
 رحمَهُ الله

التعليقات