15/05/2015 - 09:55

فيلم عربي...عندما شاهد الإسرائيليّون ولم يروا/ صالح ذبّاح

لا زالت بقايا مساحات النوستالجيا المتآكلة التي خلقها الحيّز التليفزيونيّ الإسرائيليّ، تكتنف أحيانا مشاهديها الإسرائيليين والفلسطينيين في الداخل معا، بما للأمر من مفارقة واشتياق عبثيّ لماض سياسي ركدَ بين النكسة والانتفاضة الاولى، والمثال الأبرز على ذلك لمن ولد حتى أواخر الثمناينات، فقرة الفيلم العربي التي بثها التلفزيون الإسرائيلي الذي انشئ عاما بعد حرب حزيران ، في الساعة الخامسة مساء كلّ يوم جمعة ابتداء من العام 1968 ، فيما بدا طقسا تليفزيونيا ثابتا،

فيلم عربي...عندما شاهد الإسرائيليّون ولم يروا/ صالح ذبّاح

لا زالت بقايا مساحات النوستالجيا  المتآكلة التي خلقها الحيّز التليفزيونيّ الإسرائيليّ، تكتنف أحيانا مشاهديها الإسرائيليين والفلسطينيين في الداخل معا، بما للأمر من مفارقة واشتياق عبثيّ  لماض سياسي ركدَ بين النكسة والانتفاضة الاولى، والمثال الأبرز على ذلك لمن ولد حتى أواخر الثمناينات،  فقرة الفيلم العربي التي بثها التلفزيون الإسرائيلي الذي انشئ عاما بعد حرب حزيران ، في الساعة الخامسة مساء كلّ يوم جمعة ابتداء من العام 1968 ، فيما بدا طقسا تليفزيونيا ثابتا، لكل من التقط بثّ التليفزيون الإسرائيلي بين البحر والنهر، وكأنّ فكرة دولة جميع المواطنين في فلسطين التاريخية تحقّقت لساعة ونصف من الزمن!

لكن يوضح كل من صانعي شريط 'فيلم عربي' والذي بدأت عروضه في البلاد الأسبوع المنصرم، الباحث  والكاتب الصحفي اليهودي من أصل مصري إيال بزاوي، والمخرحة سارا تسفروني، واللذان يتناول شريطهما تلك الظاهرة، أنّ نوايا سلطة البثّ الإسرائيلية لم تكن على قدر  من السذاجة كي تقوم بعرض الفيلم العربيّ من باب الاهتمام بالثقافة العربيّة، بل كان المحرّك الأساسي وراء ذلك هو جذب الفلسطينيين، بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة، لما بثّه التلفزيون الإسرائيلي وتحديدا النشرات الإخبارية التي أعقبت الفيلم العربيّ للسيطرة إعلاميا على الجماهير المحتلّة، لكن سرعان ما نشأت ظاهرة جديدة، وبات الإسرائيليون ممغنطين أمام الأفلام المصريّة القديمة التي تابعها بإدمان كلّ من الأشكناز والشرقيين والتي اضطر التلفزيون الإسرائيلي أن يرفق ترجمة عبرية لها.

الظاهرة التي تصوّر  على أنّها 'حبَا' في زمن الحرب،  حيث عرض  التلفزيون الإسرائيلي سينما العدو المصريّ آنذاك، صادفت الكثير من العقبات اللوجستيّة، لتهريب الأفلام المصرية من الأردن مرورا بالضفة الغربيّة ومنها إلى القدس المحتلة، ووقع في غرام هذه الأعمال أبرز شخصيات النخبة السياسية الإسرائيلية، بدليل أنّ وزير الدفاع الأسبق موشيه ديان كان يتابع الأفلام المصرية وفق رواية ابنه آسي ديان في الشريط، الذي اضطر أن يكذب على غولدا مئير عندما كانت تطلب ديان هاتفيا مساء يوم الجمعة ويحتجّ بانشغال والده بأمر آخر .

لكن بعيدا عن هذه النظرة الرومانسية التي يطرحها شريط 'فيلم عربي' في نصفه الأول، يخبئ في طيّاته نقدا للمجتمع الاسرائيلي في القسم الأخير من الشريط، يظهر فيه التعالي على الثقافة الدنيا التي مثّلتها الأفلام العربية لدى الإسرائيليين، فما اختير أن يقدّم على الشاشة العبريّة من أفلام استعراضية، وميلودراما كلاسيكية، سخرت منه البرامج التلفزيونية الإسرائيلية في فقراتها الكوميدية، ورسّخت للجمهور  هذا التصور .

تطرّق 'فيلم عربي'  إلى الابعاد السياسية والاجتماعية النقدية التي طرحتها الأفلام العربيّة ولم يفهمها الجمهور الإسرائيليّ، في أفلام من قبيل 'ثرثرة فوق النيل'، و'زوجة رجل مهم'، و'الإرهاب والكباب' وغيرها، ولم يتذكر الإسرائيليون منها سوى المقاطع الكوميدية أو الميلودرامية الفجّة وكذلك الوجوه المحبّبة لديه، وعلى وجه الخصوص الفنان عادل إمام. وقد يكون أوجه ما قيل في الشريط، جملة جاءت على لسان بزاوي : 'لقد شاهدنا، لكننا لم نر!'،  الذي أوضح في حديثه ل'فصل المقال' أن هذه الجملة  تحمل في طياتها ما هو أبعد من المدلول الفيلميّ، إذ أنّها تجسيد لنفس المنطق الذي يؤدّي إلى بناء جدار فصل عنصريّ، كي لا 'يرى' الإسرائيليون الفلسطينيين من حولهم، تماما كبجاحة إسرائيلي يسكن في يافا ويزعجه صوت المؤذّن!.

 وعن الحيلة التي استعملها التلفزيون الاسرائيلي لاجتذاب الجمهور الفلسطيني عبر فقرة الأفلام العربية صرّح بزاوي ل'فصل المقال' إنه استعمل  نفس الحيلة في الفيلم الوثائقي، مقدّما طُعما جذّابا يبتلعه الإسرائيليون بسهولة لما يمثّله الفيلم العربي من حنين إلى الماضي، كي يواجههم بما لا يدركونه عن أنفسهم في أكثر النقاط نوستالجية في الوعي الجمعي الإسرائيلي.

وككلّ النهايات الحتميّة، اندثرت شعبية الفيلم العربي في أوساط الإسرائيليين مع بداية الانتفاضة الأولى، وفي اوساط الفلسطينيين مع انفتاح سوق الفضائيات العربية، لتغيب فكرة التلفزيون الواحد، ليبقى  الشريط الوثائقي الإسرائيلي 'فيلم عربي' ، شاهدا على مرحلة  يظنّها من لم يعاصرها على أنّها فصلا من فصول الخيال العلميّ في المنطقة، شاهد بشغف فيها جمهور محتلّ، أفلام أمّة يقع شعب منها تحت احتلاله، لكنّه أصرّ على أن لا يراهم!

(فصل المقال)

التعليقات