28/06/2015 - 17:25

"رمضان" على خارطة مُفزِعة/ المتوكل طه

وها إنّي أتحسّس دبقَ الشريان المفتوح، مجّاناً، على الأصابع المضطربة، والسخونةُ تهمُّ بالتلاشي، والظمأُ عتيق.

ما للمرارة والحامض الكاوي والرمل الناشف في حلوقنا؟ رغم شهقة التلقّي لشهر رمضان الكريم؟ كأننا ننتظر تلك الطمأنينة والسكينة من خير الشهور، عسى أن تبتلّ لهاتُنا بشَهْد الذّكْر، والصبرِ على ما يمور من خراب ودم وتشريد وفرقة واقتتال وفتن وضلالات وكوارث ومفاسد وجنون، على امتداد خارطتنا الكبيرة، التي يومض كلُّ شيء فيها سريعاً نحو هاوية مرعبة!  

وها إنّي أتحسّس دبقَ الشريان المفتوح، مجّاناً، على الأصابع المضطربة، والسخونةُ تهمُّ بالتلاشي، والظمأُ عتيق.

ولا رعد فوق الخبب، يترنّح بجذعه، ليُنادي الفارس وراء دغل البلح، لأنه الغزال يتحسّس الموقدة المندلعة بشعاب الضوء، وخياله الجامح يجتاح صدره بالنار، ولا يرى زوابع الهلع التي تشلع المكانَ من مكانه !

أيّ موجة حارقة تلك المنداحة على سُكّرنا الأسود المر؟ وعمّتنا النخلة تكدّ جدائلها اليابسة، ليسقط عن ألواحها الحبّ المترمّد المذرور، إثر الحريق المدوّي الذي أخذ أعذاقها للعدم؟

وما للطير ببراءة الغموض، يلفّه الخوف، في غربة مجهولة، وشجرهُ يسيل على الحواف كهرماناً من النسغ المشعوط؟

ليس للبلّور المجعّد في هذا المدّ البعيد من صوت آخر، سوى ما تدفعه الأعماق إلى البيوت المُرهقة المهدّمة العطشى، وللشبكة المقطّعة التي تنوء بمخلوقات الليل المتغضّنة.

أيها المتفّرد، المُعاكس للمشهد المتشقّق، العميق الواسع الشهيّ المخيف! ستفقد ملوحتك الثقيلة إنْ وصلت الدماء إلى صفحتك، وصار لها لون غروب دميم، وسنكون أمام شواطئك المهجورة  نبكي، فلا صدى، سوى ما يتهيّأ للمدّ من شراع يتهاوى في القيعان!

***

 وألفّ حولي، فلا أجد في الوجه المتناسخ سوى سحنة مركّبة من ضدّين، ولا اتساق في الملامح إلاّ ما يتماهى من قُبْح وشناعة، مبطّنة بفولاذ معقّد، وصلت غرابته اللسان والألوان والخطوات.

أيها الغُراب الذي فقد مشيته الراسخة على ترابه الأصل! حان هامش الرماد الجشع، الذي تحرسه شهوات النقيض، وأحالته إلى مذابح لكل خلايا الحياة، ليعيدك إلى ناووس العجز، واللهاث وراء الصغائر، وأسئلة الذات المبهمة.

ويا ليتني ذالك الفارس الذي أنصف الخيول، وشرب من أعرافها عسل الكرامة والعدل. لكنني الموزّع في الملايين التائهة، المفرومة باستراتيجيات البرامج ، ورغبات الكارتيلّات، وأطماع المؤسسات الغريبة، واستحقاقات تثبيت النير على الأكتاف، بعد أن صار المواطن المُسَرْنَم بلا رأس، أو يقع تحت اشتراطات الإقليم المبهظة ، التي تنازع الطفل دفتره، والرضيع حليبه، والمرأة شالها المسروق.

وما فتئت داحس تدقّ حافرها الشيطاني، على عتبات القرى والحواضر، وتجنّح بزعيقها المصنوع الشائخ الكريه، وقد تداخلت رماحنا المستوردة في نحورنا، وسال دم الرُضّع على أقدام الطريق الموحل.

إن الحالة أكثر عمقاً وتعقيداً مما كنا نظن! وإن الدائرة المُطبقة أكثر شراسة مما نعتقد! وإنّ الأيدي التي تعيد تركيبنا مُرابية إلى حدّ الحريق والإلغاء.

فلا يغترّ راءٍ بأيّ معلّقة مهما سطعت وأشرقت، ولا يردّد فمٌ أيَّ نشيد، قبل أن يسبر غور المؤلّف والملحّن والبادئ بالغناء. إن هذا لا يعني تبريراً  للمذابح! فلا مرافعة تجيز كل هذا السفْح والسفْك والمجازر، التي تترى كلّ رمشة عين، أو وجيبٍ أثقله النجيع.

وإن المتسيّد، الغارب أو المشطوب، ليس ابن إله مصفّى، بل لعنة مكثفة، أو أخطبوط مجنون، أخرج الجغرافيا وما فيها وراء الزمان والمكان، وترك الناس على حبل المشنقة يتلمّظون بالنزيف، على جوعٍ  وجهل ومذلّة ومرض وانكسار. وهو ذريعة الخراب لأنه الحاكم بأمر أسياده، وهو الذي دعاهم إلى وليمة المقدّرات، وكانت أمُّه الذبيحةَ الطازجة.

ولا خلاصة نهائية، نعصرها في فنجان، لنبلغ الحقيقة أو الحكمة، بقدر ما نقصد ضرورة التمعّن الهادئ الحصيف، في المعروض من الحقوق والأعراض والأوردة المفتوحة، أو في الرصاص الساديّ الغليظ، الذي يفتت الشظايا المتبقية تحت أقدام المحتفل الآفل، وكان يتهدّل على القطع المجزّأة، مثل سالومي الراقصة حول رأس النبي المقطوع.

***

وبالفعل، عندما يعود المحارب من المعركة، يذهب لمقاتلة نفسه، لأن "الأعداء" كانوا يشغلونه عن غيره الجوّاني والخارجي، لكن الغرابة في أن المحاربين الأشقاء يتنازعون الغنائم قبل عدّها أو حتى امتلاكها تماماً، ما يعني أن الأذْرع البعيدة هي التي تهندس الحرب، أو تؤسس لرؤية مُريبة، أو أننا لم نخرج بعدُ من مرحلة تعريف الذات، أو تحديد الهدف، أو أننا مهزومون لم نبلغ أهدافنا، أو نقاتل لأننا نبحث عن الخلاص الشخصي.

ولا طهارة في كل ذلك، غير ما تسكبه الأمّ من دمعٍ بريء على ولديْها وهما يتجالدان على طراوة الجثث المتراكمة، في ادّعائهما للوصول إلى أفعى العرْش المجرمة .

وأعودُ من فجيعة الخلْق، إلى حسرةٍ، في كل ما تقع عليه بصيرتي، فأحتشد بأوار، لا أجد متنفّساً له سوى الكلام، الذي ينقذنا من كآبة المشاهد، التي تسعى لاستعادة أناقتها، رغم التلوّث، الذي يحطّ أقدامه على ما تبقّى من زينة فطرية تغري الفَرس بالصهيل، وإنْ كان وحشيّاً  أو مجروحاً ، مثل جرح الكرز، في ظهيرة الحقول المنسيّة.

وأعود فلا أجد سوى أن أصرخ في وجه هذه المذبحة الهائلة، مستعيناً بقوة الحياة، والحضارة التي شوّهوها، والإيمان الحاسم بأن هذا المخاض الدامي العنيف، سيتجلى ولادةً لعيد أكبر من عيد الفطر الحزين، والذي نرجو أن يكون أكثر قبولاً للبهجة… الضائعة. 

التعليقات