22/07/2015 - 13:45

ليلة المحكومة بالإعدام/ نديم عبد الهادي*

كانت الأم منشغلة بالمسلسل السوري كأنها غائبة عما يجري، فكتب باختصار: "المشكلة أكبر مني يا ريم. مساعدتي لن تقدم ولن تأخر!".

ليلة المحكومة بالإعدام/ نديم عبد الهادي*

كان أحمد، وهو طالب على وشك التخرج من كلية الصيدلة، يجلس بجوار والدته في غرفة المعيشة، عندما وصلته رسالة نصية من ابنة خالته تقول:

"أحمد.. أحتاج مساعدتك. عرف أبي بأمر زواجي".

كانت الأم منشغلة بالمسلسل السوري كأنها غائبة عما يجري، فكتب باختصار: "المشكلة أكبر مني يا ريم. مساعدتي لن تقدم ولن تأخر!".

ثم التفت نحو أمه، فلاحظ أن وجهها متوتر رغم ادعائها الانشغال بالتلفزيون.

"مع من تتراسل؟"

سألته بلطف، فقال:

 أتبادل النكات مع صديق!".

وعندما طلبت منه أن يُشركها بقراءة النكات، رفع حواجبه السوداء الكثيفة علامة الرفض، وسدد نحو أمه نظرة طويلة مربكة.

كان أحمد حبيب والدته ورفيقها منذ وفاة والده قبل سبع سنين، خاصة وأنه الوحيد لا إخوة له ولا أخوات. وهو اللطيف الجميل الحازم، فيه قوة الرجال ورقة الإناث. وجهه أبيض شفاف، عيونه واسعة، رموشه طويلة، وله شفاه زاهية اللون كأنما خلقت لفتاة. لكن شخصيته المطيعة يحدث لها أحيانا أن تنقلب إلى غير ما تحب أمه. وها هي ذي نظرته الحادة المُربكة، التي تجمع بين اللوم المبطن والتأنيب الصريح، تصدها صدا عنيفا، وتردّها للتشاغل بالمسلسل.

علا رنين الهاتف وهز هدوء الغرفة من جديد. تلقى أحمد رسالة تقول:

"إن لم تأت إليّ الآن، ستقرأ خبر قتلي في الجريدة غدا صباحا. لا تقسُ أنت أيضا عليّ يا أحمد العزيز!".

وبينما كان يكتب رده قالت أمه بحزم:

"لا شأن لك بما يجري مع ابنة خالتك".

فأرسل جوابه لريم بهدوء:

"رغم أني أضعف مما تظنين، انتظريني. عشر دقائق وأكون عند دوار فراس. اختبئي في أي محل ملابس حتى أصل".

ثم قال لأمه، متجاهلا كلماتها، إنه سيخرج لملاقاة صديق. غاب في الداخل قليلا، ثم عاد وقد ارتدى سترة خفيفة، تقي من نسائم الخريف الباردة. فكررت الأم تحذيرها السابق، بينما كان يخرج ويغلق الباب.

يتذكرها صغيرةً إذ يلتقيان في بيت خالته، أثناء الزيارات العائلية، يتذكرها وهي تخترع الألعاب له ولتسنيم أختها الأصغر منهما. لم تكن ريم أجملهم، لكنها كانت اﻷكثر حيوية والأنشط للعب في المشاوير العائلية، عندما كان يأخذهم والده، أو زوج خالته - أيام كان رجلا طبيعيا، إلى مدينة الملاهي. وفي رحلات الشواء، عندما يخرجون معا إلى الغابات المجاورة لعمّان، كانت تجوب المكان فتبتعد كثيرا وهي تستكشف الشجر وما فوقه وما تحته من حيوانات وطيور وحشرات، بينما كان هو يشدها من يدها ليعودوا إلى محيط الحصيرة التي يفترشها اﻷهل. يتذكر وهو يقود سيارته في أزمة السير الخانقة قبل دوار المدينة الرياضية. يتصبر بخيالات الأيام الهانئة. قبل أن يسافر أهل ريم الى الكويت، حيث غابوا ثماني سنين ثم عادوا مع العائدين إثر الحرب. كانت ريم قد صارت عروسا تملأ العين وتضحك الفؤاد. غير أن حاجزا من زجاج قام بينهما. صديقة الطفولة غدت أهدأ، شعرها من بهجة الكستناء، ونظراتها من دفء الزيارات العائلية، لكنّ حديثها ظهر فيه الخجل مثل خصل من الشيب. كانت تلك ارتباكات التعارف الثاني. كانت تردد الذكرى بعد نسيان. وقبل أن ترجع اﻷلفة بين الصديقين القديمين تزوج أبوها على خالته. مُعدمٌ أثرى ففجر. سافر للشام وعاد بزوجة جديدة في عمر ريم. تفككت الأسرة رغم صبر الخالة ورفضها للطلاق. فقد قابل المُعدم الذي استغنى فطغى أولاده الأربعة من الزوجة الأولى بالعداء والإنفاق السخيّ. يصرخ وينفق، يشتم وينفق، يضرب وينفق. حتى كرهته ريم فوق الكره كرهيْن، وسمّته بالمقيت، فلا تقول إلا جاء المقيت، فعل المقيت، ذهب المقيت. وفي العام نفسه توفي والد أحمد. فانقطع تقريبا ما بينه وبين أولاد خالته من ودّ إذ انكفأوا على أنفسهم، عدا زيارات قصيرة متباعدة. كان دوار الداخلية قد لاح قريبا عندما قرر أحمد في نفسه أن ريم لم تخطئ حتى تعاقب. وأن أمه هي المخطئة. ريم لجأت إليه قبل يومين وشرحت ما حدث. لقد أحبت ابن الجيران وهي في سنتها الجامعية الأولى. فتقدم لخطبتها من أبيها الذي رده دون أسباب. ولو استشارها لوافقت بلا تردد، حتى تخرج من هذا المستنقع. وبعد عام كرر المحاولة. وفي الثالثة سافرت معه للشام، وهناك تدبرت أمر زواجها منه بغير موافقة ولي الأمر. يستغرب أحمد كيف حافظت ريم سنتين على سر كهذا. سافر زوجها للإمارات، وأكملت هي دراستها الجامعية، وعندما جاء ليطلبها مجددا حلف المقيت أنها لن تكون من نصيبه ما دام حيا، وهو لا يعرفُ بعد شيئا عن زواجهما. قالت ريم لأحمد، وقد التقيا في مقهى للطلبة قرب بيته في الجبيهة، إنها تطلب مساعدة خالتها. فهي عاقلة وقد تشرح لأمها القصة وتقنعها بأن تحثّ أباها على الموافقة. وعندما أخبر أحمد أمه اليوم بالقصة، جُنّ جنونها ولم تفعل سوى أن اتصلت بأختها فأخبرتها بالمصيبة التي وقعت على رأس العائلة. وخالته بدورها - وهي المستكينة دائما حدّ التواطؤ - اتصلت بزوجها وقالت:

"إنها ابنتك، وأنت حر بها".

وراحت تبكي حتى أدركت ريم ما يحدث، قبل وصول أبيها بدقائق، وكان قد أقسم أن يقتلها، فراسلت أحمد آخر ملجأ لها. "وها هي الآن تنتظرني" قال أحمد لنفسه.

وعندما بلغ دوار فراس هاتف ريم فخرجت من بين جموع المتسوقين إلى الشارع. فتحت الباب وجلست إلى جواره. قالت بوجه باسم:

عرفت أنك لن تخذلني".

وكانت عيناها تتسعان كأنها تقول: "أرأيت؟ أنا أعرفك جيدا!". وكان لها وجه مستدير أبيض كأنه مرسوم بالفرجار. بياضه مصمت لا كبياض وجه أحمد الشفاف.

من دوار فراس انطلقت السيارة الصغيرة الحديثة، أصغر تصاميم شركة بيجو الفرنسية، بشابين في طريق لا يعرفان آخره ولا وجهته. كان أحمد وراء المقود يوجّه السيارة بيديه الشبيهتين بجناحي حمامة بيضاء. وإلى يمينه الجدار الزجاجي إياه، قائما لم يزل بينه وبين ابنة خالته. وإلى يمين الجدار تجلس ريم بوجهها ذي التقاطيع العريضة والنظرة الثابتة والرعشة المفاجئة بين حين وآخر في طرف الفم الأيمن حتى الغمازة. لم يعرف فيها أحمد هذه الرعشة العصبية من قبل. انشغلت ريم بتأمل نظافة السيارة وعبق الياسمين الذي يملأها فقالت:

"طالما كنت مرتبا وأنيقا!"

وكان أحمد في تلك اللحظة قد احتار أي طريق يسلك، فلو غَرّب من دوار الداخلية سيصل لمنطقة مكتظة بالناس، من الممكن أن يجدهما فيها أي قريب أو صديق لوالد ريم. ولو شمأل لوصل قريبا من بيت أمه، وهي بصرامتها وغضبها المموّه بلون الحياد، ستشي بهما. فلم يبق له إلا أن يشرّق، وفي نيته أن يسلك طريق شارع الأردن بعد ذلك شمالا حتى جرش.

قال أحمد:

 وأنت لا زلت الفتاة الجريئة الشجاعة."

قالت:

" أبدا. لست الآن الشجاعة التي تصنع مستقبلها. وما تنفع الشجاعة أمام المَقيت المسلح؟ أنا الآن جبانةٌ تهرب نحو مصير آخر مجهول. ولم أكن أيامَ كنا صغارا أكره أحدا. أما اليوم فيعجز قلبي عن الحبّ، ويعجز جسمي عن حمل قلبي الذي ينزّ كراهية للمقيت. إنني أهرب من المسخ الذي صرته يا أحمد. أين تأخذنا؟"

قال:

"سأدعوك للغداء في إحدى مطاعم جرش السياحية".

قالت وهي تضحك:

والعشاء أيضا. إن ليلتنا طويلة!"

فكر أحمد بأنها ليلة المحكومة بالإعدام. ولريم أن تتمنى في هذه الليلة ما تشاء! كانت ريم تحمل حقيبة نسائية كبيرة هي كل متاعها الذي هربت به من المنزل. فتحت الحقيبة واستخرجت منها قرصا طبع على ظهره صورة المغني المصري محمد منير. فوضعته في مسجل السيارة. ودارت أغنيتها المفضلة:" الدنيا ريشة بهوا.. طايرة بغير جناحين.. واحنا النهاردة سوا.. وبكرة حنكون فين؟" ولما انتهت الأغنية اكتشف أحمد أن القرص لا يحوي سواها إذ عادت للبدء من جديد. وهكذا سمعاها مرتين ثم رن هاتف أحمد فأهمله. وتكررت محاولات أمه وظل يهمل الرد عليها. خمنّت ريم المتصل فقالت:

"خالتي تتمنى لو أموت ولا يعرف الناس قصتي!"

لم يعلق أحمد لكن أبراج الاتصالات الموزعة في كل مكان في البلد حملت له رسالة نصية من أمه تقول:

"أحمد.. مسدس أبيك ليس في المخزن. أين أنت؟"

 عندها توقف على طرف الشارع وكتب لأمه:

"سأعود غدا، الظهر. لا تحاولي الاتصال بي إلا بالرسائل، ولأمر هام".

ثم راح يدندن وهو يتابع القيادة :

"الدنيا ريشة بهوا"

وكلما ابتعدا أكثر، وراقت لهما الدنيا، ولو بالوهم، قاطع الهاتف دورة الأغنية في الأسماع. هذه المرة هاتف ريم هو الذي رنّ. فقرأت رسالة من أختها الصغرى نسرين تقول:

"أبي في البيت يحمل مسدسا. ضرب تسنيم مرتين لأنها لم تقل له أين أنت. تسنيم هربت وأغلقت على نفسها باب الحمام".

نظر أحمد مستفسرا فرأى ارتعاشات خد ريم تتسارع مثل برق متتابع يحرق وجه الأفق. وهي تكتب باضطراب:

"نسرين.. حبيبتي أنت. اختبئي تحت طاولة السفرة. إياك أن يرى أبي هاتفك. الآن فورا أخبري تامرا بما يجري. الآن. الآن".

ولاحت في الأفق مدينة الملاهي في الجبيهة بألعابها الضخمة وسروها الطويل، فهتفت ريم:

"أحمد.. خذني إلى مدينة الملاهي".

دخلا من الباب الكبير وحولهما حُصُن وعَرَبات يركبها المتنزهون. كان المدخل ضاجا بالشباب والعائلات. ضحكٌ وصخبٌ يريح النفس، وفضاءٌ مفتوح على سهلٍ زراعي وجبالٍ بعيدة. سروٌ كثير متجاورٌ مثل حائط أخضر يسند حائطا أخضر آخر من ميلان حديث إثر عاصفة ثلجية. الهواء لا بارد ولا دافئ وفيه نسمة طيبة. أحمد يرتدي السترة التي تخفي المسدس في خصره، ويتمنى لو استطاع أن يخلعها ليتمتع بالهواء الطلق. ريم في قميص حريري فضفاض وبنطلون قماشي، كأنها في اجتماع عمل. هدأت الرعشة في خدها اﻷيمن. اختارا طاولة في مطعم مفتوح ليرتاحا قليلا ويشربا كأسي ليمون بالنعناع. قالت ريم:

"كيف هي دراستك؟ الصيدلة صعبة؟!"

وكانت تنظر إليه من الطرف المقابل من الطاولة كأنها تريد أن تتعرف عليه من جديد. قال:

"دراستي ممتازة. بقيت لي سنة وأتخرج. سأفتتح صيدلية في إحدى المخازن التجارية في عمارتنا. وكما ترين فإن خارطة مستقبلي مرسومة بالحبر الجاف".

"رَسَمَته خالتي بالتأكيد. فهي بارعة في التخطيط".

وطلب أحمد من النادل أن يأتيهما بالعصير. ثم سأل:

"ماذا عنكِ؟ ما خططك؟"

قالت:

"إن نجوت هذه الليلة، تُسلّمني غدا صباحا لحماية الأسرة. زوجي سيصل صباح الغد من دبي ومعه عقد الزواج المصدّق. ستسلّمني بدورها حماية الأسرة له، وتحمينا حتى بلوغ المطار. هناك في دبي سابدأ حياة جديدة! دبي خليط لا يعرف فيه أحد أحدا".

"ولماذا حماية الأسرة؟ "

"لأن السيد أبي، المقيت، سيبلّغ الشرطة بأني خُطفت، وسيوضع اسمي بالتالي على قوائم الممنوعين من السفر. دعك مني. لماذا لا تتزوج أختي تسنيم؟"

ابتسم أحمد، كما يحدث له كلما فوجئ، وتابعت:

"تسنيم حلوة ومُحبة. سيتدخل أخي تامر لأنها الآن في خطر. فهي الأقرب لقلبه من بيننا، ولن يسمح للمقيت بأن يؤذيها".

"هل أخبرت تامرا بقصتك؟"

" نعم أخبرته وطلبت مساعدته، فقال هذه مشكلتك! رفض التدخل. فماله وتجارته من أبي. وهو متزوج وعنده أولاد. لا يريد ان يخسر أباه."

وضع النادل العصير أمامهما ثم ذهب. تلفت أحمد في المكان. وقال فجأة بخوف:

"لماذا تنظر لنا هذه السيدة هكذا؟ هل تعرفك؟"

ضحكت ريم. فاستغرب أحمد. ولكنها شرحت قائلة :

"السيدة تفتش في أصابعنا عن الخواتم. فضولها يقتلها. هات يدك".

وأخرجت من حقيبتها خاتما فضيا ألبسته لأحمد في يمناه. لم يستقر الخاتم في أصابع أحمد النحيلة. فسحبته ريم وأخرجت خاتما من الذهب والفضة يصلح للنساء والرجال. أخيرا استقر هذا الخاتم في أصبع أحمد بينما كان وجهه يحمر خجلا. قالت ريم:

"الخاتم الأول كان هدية لزوجي. الثاني خاتمي أنا. أصابعك رقيقة. نحن الآن في عين السيدة الفضولية مخطوبان!"

وضحكت من قلبها. ثم نظرت نحو السيدة فوجدتها تتميز غيظا وغضبا. لكن المرح انتهى عندما رن هاتف ريم ووصلت رسالة من أختها الصغرى تقول:

"أبي يحاول أن يكسر باب الحمام على نسرين. وهي تهدد بأن تقتل نفسها."

كتبت ريم بسرعة :

"هل أخبرت تامرا؟"

وجاء الرد:

"نعم. قال إنه قادم".

وعلى حين غرة، أطبقت عين ريم اليمنى واهتزت صفحة وجهها كأن كهرباء صعقتها، وتقارب أعلى خدها بأدنى فكها، وامتد من الغمّاز حتى طرف الفم الأيمن خط انهدام مريع. كل ذلك حدث في لمح البصر. حدث أسرع وأعنف من المرات السابقة. مما هال أحمد وأخافه. لكنها طمأنته قائلة:

"يحدث لي ما هو اسوأ. دعنا نلعب".

ومن شباك التذاكر، اشترى أحمد تذكرتين للعبة السفينة. ثم اصطفّا في دور طويل، استقر بهما في مقعدين متجاورين في السفينة المعلقة إلى محور عال يتأرجح بها صعودا وهبوطا. بالرفق يبدأ التأرجح، فيما يُحيّي القرصان، عند مقدمة السفينة، ضيوفه. ثم تشتد سرعة التأرجح. صعودٌ سريع، تتلوه وقفة خاطفة، تكفي لتختلس ريم نظرة إلى تلال عمّان وقد تسلقتها البيوت، وغطتها، كما تغطي الأحجار البيضاء واجهات العمارات. عمّان الكبيرة. عمّان المعقدة. عمّان الصامتة. عمّان الثرثارة. عمّان التي تنتظر قصتها في الصحف غدا صباحا. عمّان التي تغض الطرف عن قصّتها ريثما تكتمل فصول المأساة. وهذا الفضاء الأزرق بين القمم والقيعان كأنه الماء، والسماء تبدو لريم مثل سطح البحر. تمنت لو تصعد فوق فوق، تبلغ السطح، تأخذ نفساً ثم لن تعترض لو غاصت من جديد. هبطت السفينة كأنما تشق الهواء، وصعدت لتتوقف على الجهة المقابلة. سحبت ريم نفسا من ماء. ولاحت لها الأبراج فوق أسطح البيوت مثل تهديد ماثل. عما قليل تلحق بها رسالة من أختها. إنها ليست بعيدة. ولا قريبة. ليست قادرة. ولا عاجزة. وكم من موجة تمر الآن قربها، تلتف حول وجهها، ثم تكمل رحلتها من برج لبرج. ترى ما تحمل كل تلك الرسائل المشفرة، والمكالمات المبشرة أو المنذرة بالسوء؟ ولما التفتت عن نفسها إلى أحمد وجدته قابضا بكلتا يديه على حديد الحماية، وقد تصلبت ذراعاه، وتشنج وجهه، وأطبق فمه أن تفلت منه صرخة. فاقتربت منه، وصاحت في أذنه:

"لا تخف!"

 ولكنه ظل متشنجا وكأنها لم تتكلم، فاقتربت منه أكثر، وصاحت في صحن أذنه مباشرة:

"الدنيا ريشة بهوا!"

مما أضحكه فجأة، قبل أن يعود لتشنجه الكامل.

كانا في الأسفل، وهيكل السفينة المتوقفة يعلو فوقهما، منذرا بجولة جديدة. كان يقف من ورائهما هيكل لعبة البرج العالية جدا. وأسفل قليلا، يبدو لهما وراء السرو، البناء الحديدي الضخم للقطار السريع، قطار الموت، كما اعتادا أن يسمياه في طفولتهما. كان أحمد قد بدأ يسترجع حالته الطبيعية، فانحلت عضلاته، وتحرر فكه. وعاد له سمته الجميل الهادئ. فيما بدت ريم أهدأ وأسعد مما كانت عليه أول وصولهما. قالت:

"لنركب قطار الموت".

قال أحمد:

"لا يمكن. سأموت حقا فيه".

قالت:

"أنت تخاف بلا سبب. القطار أهون من السفينة".

ورن الهاتف. رسالة جديدة.

"تامر في البيت. نزع المسدس من أبي. وكسر باب الحمام".

 قالت ريم لأحمد:

"أرجوك خذني إلى قطار الموت. لن أركب وحدي".

فهز رأسه موافقا. واتجه إلى شباك التذاكر بتثاقل. لم تمض دقيقة حتى وصلت رسالة أخرى من نسرين. كان أحمد يشتري التذاكر. في آخر الصف غير بعيد.

"تامر أطلق النار على أبي!"

شهقت ريم، وعاد أحمد مسرعا. كانت البروق تتابع على وجه ابنة خالته. حرقا وتهديما. وهي تكتب:

"حبيبتي نسرين. تنفسي بهدوء. عدي للعشرة. واحد. شهيق. اثنان. زفير. لا تخرجي أبدا من تحت الطاولة".

وأرادت أن ترد خصلة شعرها عن عينها فارتجفت يدها حتى طاشت الحركة وانتشرت الخصلة فوق جبهتها وأحمد يراقب. قال:

"تعالي نشرب عصير ليمون مرة أخرى".

وكان يتحفز لالتقاطها إن وقعت. فنظرت نحوه وقالت:

"لا زلتَ كما كنتَ في طفولتك: لطيفا، حنونا، محبا، لكن صمتك محير، صمتك جديد، ونظرتك قديمة. ما الذي تغير فيك؟!"

فابتسم ولم يتكلم. ووصلت رسالة جديدة:

"وجد تامر أختي تسنيم مغشيا عليها في الحمام، لأنها شربت سائل الغسيل كله، كان وجهها أصفر، أصفر جدا، فأطلق النار على أبي!"

كتبت ريم لأختها الصغيرة:

"تنفسي بهدوء يا حبيبتي.. تنفسي بانتظام. لا تهتمي لشيء. ستكون الأمور على ما يرام".

ثم أشارت بعينها لأحمد نحو قطار الموت. فذهب دون نقاش ليشتري التذاكر. ووصلت رسالة.

"كان يحمل تسنيم على كتفه، وهو خارج من الحمام. فأطلق النار على ركبة أبي! أمي ألقت بنفسها فوق أبي حتى لا يكررها تامر".

كتبت ريم:

"اتصلي بالإسعاف والشرطة يا نسرين. وأخبريني متى وصلوا".

الآن، هدأ شيء ما في نفس ريم وهي تتخيل أباها مقعدا، وأختها يحملها تامر في سيارته إلى المستشفى، ولكنها حزنت على مصير تامر، ذلك الفتى الذي أقعد أباه.  

ثم تبعت أحمد وقد أشار لها أن تلحق به إلى مدخل القطار السريع.

*قاص فلسطيني مقيم في عَمّان. صدرت مجموعته القصصية الأولى "بيت جبل عمّان" عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع، وذلك إثر فوزها بجائزة الكاتب الشاب للعام 2012/ مؤسسة عبد المحسن القطان/ رام الله. وليلة المحكومة بالإعدام إحدى قصص مجموعته الجديدة الصادرة حديثا عن دار أزمنة للنشر والتوزيع/عمّان: "الآخرون نحن".

التعليقات