27/07/2015 - 18:38

الدرج../ أحمد حمدان

كان هاجس القمة وخيلاء الوصول يزرعان في قرارة نفسيهما أن هناك غبطة وسرورا وحبورا في أقصى الدرج، وسعادة أعظم عن أن توصف بلسان، وأدقّ من أن تكسى بحرف أو صوت، وفرحٌ أعطي الدوام ومُدَّ بالبقاء، لكن لا سبيل إلى التحقق بما في ذلك المقام إلّا بالوصول إليه

الدرج../ أحمد حمدان

التقيا عند تلك العتبة، ولاحظ كل منهما استغراب الآخر من وجودها. فقد بدت لهما وكأنّها انبثقت من الأرض في تلك اللحظة، ولمّا نظرا إلى الخلف زاد استغرابهما من ذاك الدرج الطويل الذي كانا يصعدانه من غير انتباه، فقبل أن يلتقيا، اعتاد كل منهما صعود الدرج بمفرده دون التفكير فيه ولو للحظة، وحينها لم ير أي منهما الدرج درجا.

وبعد أن بلغ منهما الاستغراب ما بلغه، اتضح لهما أن تلك العتبة لم تكن إلّا درجة واحدة من درجٍ طويل تبين فجأة أنه غامض أشد الغموض، وينتهي بعد الأفق الضبابيّ، فقررا صعود الدرج سويًا.

كان هاجس القمة وخيلاء الوصول يزرعان في قرارة نفسيهما أن هناك غبطة وسرورا وحبورا في أقصى الدرج، وسعادة أعظم عن أن توصف بلسان، وأدقّ من أن تكسى بحرف أو صوت، وفرحٌ أعطي الدوام ومُدَّ بالبقاء، لكن لا سبيل إلى التحقق بما في ذلك المقام إلّا بالوصول إليه.

بعد تجاوز البداية، اعتادت أقدامهما صعود الدرج بخفّة وانسيابيّة لا مثيل لها، فقد كانا يشبكان أياديهما بإحكام مطلق، وينطلقان غير مبالين بمشقّة وعناء صعود الدرج أو بثقل المحمولات فوق ظهريهما، حتّى وإن كان يظهر لهما في بعض الأحيان وكأنّه سرداق عذابٍ لا ينتهي، ولكنهما كانا يشعران بسعادة غريبة غير مألوفة.

منذ أن بدآ صعود الدرج وهما يحكمان قبضتيهما ببعض، فقد لاح لهما منذ البداية أن الدرج غير متناهٍ، وتذكرا أحاديث قديمة كانت تقول إن الطريق صعبة، وإنها مليئة بالحيل المزخرفة والغوائل والآفات، وإن نهايتها غير معروفة، فكلّما بلغت من الصعود أيّ مقدار، حجب عنك الغبار والضباب أعلى الدرج، وهذا ما أكّده لهما كل من صادفاه مرميًا على الأرض طريحًا.. كان قد سبقهما التجربة وأنهكه التعب، وفارقه العزم فأضلّ السبيل!

وكلّما طرق ذلك سمعهما، كانا يحكمان تشابك قبضتيهما أكثر، فرغم إصرارهما الرهيب واندفاعهما الشديد لصعود الدرج إلّا أن الحذر واجب، والشكّ جائز حتّى وإن صدق منهما هذا العزم.

لم يتكاسلا مرة في صعود درجة، ولكن هذا الدرج يعاني من سوء الإتقان، فقد كان يبدو وكأن مهندسًا معماريًا فاشلًا قام بتصميمه، وبنّاءًا أشدّ سوءًا قام ببنائه.

عدم تناسق رهيب في ارتفاعات كل درجة، فإحداهنّ قصيرة الارتفاع تكاد لا ترى وقد تحسبها مجرّد نتوء في الأرض، والتعثّر بها وارد باحتمالات شبه كاملة، وآخرى قد تحتاج لشدِّ وركك وفخذك أقصى شدّ لتجاوزها، فتراها أقرب لأن تكون جدارًا منه إلى درجة.

بعد فترة طويلة من الزمن، أيقن الشاب أنّه لم يكن ثمة أيّ حاجة لإحكام قبضتيهما ببعضهما، فهي لم تكن بحاجة يوما للشد تحفيزًا للمسير، أو تشجيعًا لتجاوز إحدى العراقيل الناتجة عن فشل هذا المهندس، فقد كان يدفعهما ويدافعهما ابتداء المسير، فقد حسب أنهما ذوا فطرتين فائقتين، وذهنين ثاقبين، ونفسين عازمتين. فقد كانا في لذّة لا انفصام لها، وبهجة وسرور لا نهاية لهما في صعود هذا الدرج، فما الحاجة إذًا لتشابك أياديهما؟

أفلت يدها، فما كان منها إلّا أن فعلت بالمثل، وانطلق بأقصى سرعته.
لكنه لم يكتف بذلك، فقد أغوته السرعة وأغراه التحدّي، فبدأ بإلقاء محمولاته ليزيد من سرعته، ويروم بمبلغ طاقته، فتارة يلقي محفظته وساعته، وتارة كتبه، وتارة أخرى حقيبته وبعض ملابسه، وأصبح مبتغاه الوحيد أن يتجاوز نفسه. هذه الرغبة الأنانيَة غير المعلنة انبثقت فجأة في داخله.

لم يلتفت إلى الوراء مقدارا معلوما من الزمان غير يسير، وذلك لأنه كان قد اعتمد السمع لا البصر، فقد كان صوت خطواته يتردد في أذنه كأنّه صوت خطواتها وهي تتبعه، فَحَسَبها بجانبه.

لكن في لحظة ما، ومن حيث لا يدري، شعر برغبة شديدة بالتوقّف برهة لالتقاط أنفاسه، وتخفيف العبء عن رئتيه اللتين ملأهما الغبار، فتوقّف.

شيءٌ غريبٌ أصابه.. أوحشه الدرب، شعر وكأنّه كان يركض ويسبقه الملل، ثمّة شيء ناقص، لقد فقد بعضًا من الاستمتاع، وأحس ببرد رهيب، وفقد الشعور بالوقت. جنَّ جنونه لحظتما أدرك غياب صوت خطواتها! وكان لا بدّ من الالتفات، فالتفت..

كان الفراغ والصمت ثقيلين، وكانت شمس ما بعد العصر ترسل شعاعًا خافتًا أزرق تلتمع فيه جزيئات الغبار المنتشرة في الهواء بكثافة عالية مشكّلة عدّة جسور تتقاطع في فضاء انحناء الدرج. ولاح من خلف الجسور خيالها الذي بدا كشبح لطيف يصعد الدرج بعناء بغيض، ويمشي بتثاقل رهيب، كانت ركبتاها ترتجفان حين تهمّ بصعود درجة، فقد رآها بحال لم تقم بباله قط، ورآها في آلام لا تنقضي، فقد كانت تجاهد جسمها ويجاهدها، تنازعه وينازعها، فأحسّ بحسرات لا تنمحي.

اقترب منها ببطء خجول.. كانت مطأطئة الرأس تنظر إلى الأرض والعرق ينساح فوق صدغيها، ويبلل قميصها على عرض الأكتاف.. وفوق تلك الأكتاف، وجد محفظته وساعته، كتبه وحقيبته وملابسه التي قد رماها في طريقه!

"يا الهي!"، قال في قرارة نفسه، كانت قد توقّفت طوال هذه المدّة لتلتقط وتحمل ما رماه في طريقه، فأعياها بل وربما قتلها هذا الحمل الزائد.

اقتربت منّه خطوة وقالت:
- لقد تأخّرت...
صمتٌ رهيبٌ ران في المكان...

رفعت رأسها ونظرت إليه.. كانت من ذلك النوع الذي يترك شفتيه مفتوحتين حينما تنتهي من قول شيء ما، فتبدو وكأنّها لم تنه حديثها، وأنها على وشك أن تكمل. وكانت عيناها صغيرتين غائرتين.. ولاحظ أنهما لمعتا فجأة.. كأنّما سقطت فكرة ما إليهما واقتربت منه خطوة أخرى وقالت:
-عليَّ أن أتوقّف...

تصرّف وكأنه لم يسمع أو ينتبه لما قالته، وأخذ أغراضه من فوق أكتافها وحمل أيضًا ما أمكنه من محمولاتها الخاصة، فبدت وكأنها تلتقط أنفسها لتوها بعد مكوث طال تحت الماء. أحكم قبضته على يدها مجددًا، أمّا هي، فقد اكتفت بإمساك كفّه بتراخ، وقال:
- هيّا بنا، علينا الانطلاق
قالت وهي تشعر بالخدر يملأ أطرافها:
- لا أستطيع
- بل تستطيعين
- أنا تعبة إلى أبعد الحدود، أشعر أن ركبتيّ ستنفلقان إلى نصفين
- عليك أن تتحاملي على نفسك وآلامك رغم هولها
- أنت لا تفهم.. أشعر بأن ثقل العالم كلّه فوق أكتافي، ومثله معلّقٌ بأقدامي، لم أتخيّل يومًا أن رجليّ ستصلان يومًا لهذا الحد من الثقل
- سأساعدك وأخفف عنك حملك، وسأشدّك من يدك، وأدفعك إلى الأمام إن لزم الأمر، لكنّي لا استطيع أن أكمل عنك المسير.. ولو قدرت سأفعل
- أرجوك، انطلق لوحدك، أنا لا أستطيع فأنا متعبة بكل ما للكلمة من عناء، لم أعد قادرة ولا راغبة في المسير.

كان وقع كلماتها هذه عليه في غاية الصعوبة والألم، فكانت قد صدمته هذه الكلمات كمسمار وجعلته ينتفض، فقد أدرك أنّه قد قتل دافعها الوحيد في المسير، وهو الرغبة في المسير، لكنّه بدلًا من أن يستسلم ويبتعد وقف مشدود الأكتاف مشجعًا إيّاها على اكمال المسير، فقد آمن بقوّة فطرته، وذكاء خاطره، فأخذ مزيدًا من محمولاتها ووضعها فوق أكتافه، مذكّرًا إيّاها بهول ما قطعاه سويًا، ومحذرًا من مخاطر وعواقب التوقّف، فما من طريقة بالوجود تستطيع أن تمحو وتلغي ما قطعاه سويًا، فالعودة مستحيلة، بالإمكان فقط إكمال صعود هذا الدرج أو التوقّف عند هذه الدرجة ومحاولة نسيان أو تناسي ما قطعاه، لكن هذا أكثر من مستحيل، فللعقل الباطني أحكام أخرى..

فاجأها أصراره الشديد هذا، ودفعها لأن تحاول الانطلاق، فقد أعاد لها، ولو قليلًا، تلك الرغبة في المسير، فبدأت بالتحرك، ولكن ببطء شديد، فهي تعاني كثيرًا من آلام في الركب ومرارة في الفخذين وتشنج في الساق وترهلٍ في الاكتاف... وتقلّباتٍ في المزاج.
وما أن أقبلا على الصعود، وقع نظرهما على أدنى الدرجات منهما، كانت مألوفة...
لم يستغرقا كثيرًا من الوقت لإدراك أنّ هذه الدرجة القريبة ما هي إلّا تلك العتبة التي التقيا عندها في بادئ الأمر، فكانت لا تزال كما تركاها، إلّا أن آثار قدميهما كانت بارزة فوقها بوضوح.
 

التعليقات