02/09/2015 - 15:56

وها أنذا أصيحُ فلا تأتين!../ المتوكل طه

وسينجو القليلون، ليبدأ المغنّي بكائيته من لغة زائغة مجنونة الحنين، دائخة، تبحث عمَّن بقي من الأشياء والوجوه، بعد هذا الدمار المريع.

وها أنذا أصيحُ فلا تأتين!../ المتوكل طه

لا ليس فجأة! لقد صرخ مجنونُ البلدة في الهزيع، مُحذّرا الناس، من أنّ الغرباء سيأتون على مراكبهم السوداء، بوجوههم الغوليّة المشوّهة وقرونهم الحادّة وأظفارهم التي هي مخالب ذئاب هرمة، يحملون السواطير والقضبان البرونزية التي تشرّ حدّة، وبملابسهم المعدنيّة المُطْفأة…  سيهبطون على الشاطئ، في ليل بهيم، ينهبون ويسلبون، وسيبيدون القصور والقلاع والمعابد، وسيدخلون البيوت من أولها حتى آخرها، سيغرزون سكاكين أيديهم الآثمة القذرة في بطون الحوامل، وينزعون الأجنّة من الأرحام، وسيقهقهون وهم يرفعونها وهي تنبض بالدم الفوّار، وسيلتهمونها، فتتبقّع وجوههم بفقاقيع تتخثّر، فيصبحون أكثر رعباً وتوحّشاً.

قال: سيَدْهمون القرى كلّها، وسيشعلون الحرائق في البيوت والدواوين والدكاكين والحقول، وسيرقصون على إيقاع اللهّب المسعور، وسيجأرون ويضربون بأذرعتهم الأبواب فيحطّمونها، ويقطّعون رؤوس الشيوخ والأطفال، ويستحيون النساء الصغيرات، وهم يخلعون ضفائرهن فتنسلخ جلدة الرأس وتنبع بالدم الحرام.

اقرأ أيضًا | يا اسم النار... إلى الرضيع الشهيد علي دوابشة/ المتوكل طه

وسينجو القليلون، ليبدأ المغنّي بكائيته من لغة زائغة مجنونة الحنين، دائخة، تبحث عمَّن بقي من الأشياء والوجوه، بعد هذا الدمار المريع.

سيقف على تلّة في البعيد، لعلّ أرضه تتراءى له، ليقول، كان كلامي العذب مخبأً في عينيك، ولطالما قلتِ لي أن أصيح باسمك عندما أستاقك، وها آنذا أصيحُ فلا تأتين!

كنتِ تشعّين بجسمكِ تحت غلالات الضباب، وها أنتِ تنغلقين على سواد تام.

لقد أفقدوك براءتك وعفّتكِ، وأطبق الملحُ على شفتيكِ؟

لقد خرج أهلك مفزوعين، وكانوا ينظرون إلى الوراء، ودمهم يتهاطل من أجسامهم، ودموعهم ملء وجوههم. وكانت الأشجار تنخلع عن عَرْشها الأبدي، وتجري نحوهم لتعانقهم العناق الأخير، وكانت حجارة البيوت المهدومة تتطاير باتجاههم لتقبّل رؤوسهم وأكتافهم... وتودّعهم، وتبكي وحدتها مع الصبّار اليتيم.

وظلّ السراج يرتعش في البيوت التي انذبحت، وبقي الفتيل يتغذّى من الدم الذي شخبت به الأبدان والجدران، فعبّأ حوض السراج الصغير، وهذا ما تراه يومض من بعيد في الظلام!

وليس لك الآن، أيها المُغنّي إلاّ أن تحرس السنبلة التي حملها ذلك الفتى اللاجئ، بعد أن استلّها من حقله، قبل أن يحرقوه، ووضعها في جيبه. خُذ حبّات السنبلة وابْذرْها في كل الحقول المحيطة بالأرض، لتمتلئ الحدود بالموج الأشقر.

التعليقات