30/09/2015 - 20:13

الـ هنا والـ هناك.../ ميساء منصور

الأوّل من أيلول هذا العام كان مختلفًا، كنت أعرف منذ سنوات أني في مرحلة معيّنة من عمري سأكون هنا، وكنت طيلة الوقت أبحث عن الاستقلال بعيدًا عن البلد الّذي ولدت وعشت فيه لسنين طويلة.

الـ هنا والـ هناك.../ ميساء منصور

الأوّل من أيلول هذا العام كان مختلفًا، كنت أعرف منذ سنوات أني في مرحلة معيّنة من عمري سأكون هنا، وكنت طيلة الوقت أبحث عن الاستقلال بعيدًا عن البلد الّذي ولدت وعشت فيه لسنين طويلة.

بحكم ولادتي، هُنا في الأرض المحرّمة – كما كان يحلو لإميل حبيبي أن يتهكم في قصّته بوابة مندلباوم- فأنا أعرف أن مجال تخصصي كمربية أجيال لن يفيد معه لا الشهادات ولا العلامات العالية، بقدر ما يفيدني العمل في الجنوب لبضع سنوات، فيما بعد، أستطيع الانتقال والعودة إلى الشمال، وهذا إن كان يعود لسبب، فما هو سوى تضييق الخناق على الطلاب العرب في اختيارهم لمواضيع التعليم وشروط القبول للجامعات التي تجعل الكثيرين يعدلون عن أحلامهم أو يغادرون البلاد ليدرسوا في مناطق أخرى.

ربما أسهبت في الشرح عن الموضوع، لكني منذ مجيئي إلى هنا، مع بداية هذا الشهر، وأنا أحاول التركيز وكتابة أي شيء وأفشل –اللهم سوى الرسائل التي أنشرها دومًا على صفحتي الشخصيّة في الفيسبوك-.

***

ابنة خالي كانت قد غادرت البلاد منذ سنتين تقريبًا، وجهتها كانت لبنان، دومًا كنت أتابع ما تكتب في صحيفة الأخبار اللبنانية، وألاحظ الحنين الكبير للجليل وللقرية، كنت أستغرب حنينها إلى البلدة الفاقدة للنظام، للأقاويل التي لا تنتهي بين الناس، للشجارات السخيفة التي تحدث بين الأقارب، أقول في نفسي ماذا يوجد هنا في مجدنا وجليلنا لتشعر للحنينِ وهي في قلب بيروت؟

اليوم، أستطيع أن أفهم كيف يشعر الإنسان حين تُبعده الحياة عن موطنه، الأشياء في المكان الذي ولدنا فيه مختلفة عن أيّ مكانٍ آخر.

في بلدتنا... حفظنا الشوارع حين كنا نلعب الغميضة مع أولاد الحي، الوجوه مألوفة لدينا حتى لو كنا نلتقي للمرّة الأولى، الجبال التي تحيط بنا هناك كبيرة وعميقة لنا فيها ذكريات الهروب من المدرسة والاختباء بين الشجر أو الهرب من البيت مع أولاد الحارة ولعب النهار بطوله فيها، دون أن يكون لدينا هواتف ليتمكن أهلنا من العثور علينا بسرعة، البقالات الصغيرة المنتشرة في كل حي والتي تحمل القليل من الأغراض نسبةً للمحلات الكبيرة هنا في المدينة والتي تحمل من كل صنفٍ عشرات الأنواع، في البلدة بيوتٌ مفتوحةٌ على مصراعيها متى حللنا، لا فرق فيها بيننا إلا بالتقوى.

أمّا الغربة فهي أسوأ شيءٍ يمكن أن يحدث للإنسان، تشتاق فيها للصوت والشجر والحجارة على الشوارع، الأطفال في الطرقات، الازعاج المستمرّ في الحارة، النساء الكبيرات الجالسات على طرف الطريق، الجميلة التي يمر حبيبها من الشارع ليلمحها من خلف النافذة، السيارات التي تمرّ عن الشارع مسرعة لا لشيءٍ، سوى أن الشرطة لا تدخل الحارات البعيدة عن شارع البلد الرئيس، الهواء الذي يدخل رئتيك يصبح مختلفًا، الوجوه الكثيرة التي تعرفها ولا تحبّها، البيوت الكثيرة التي تدخلها بسلامٍ وأمن، الأحضان المفتوحة دومًا لك لترتمي فيها، عدم المسؤولية الذي كنت تسعى من قبل جاهدًا لتتخلص منه تشعر أنه أفضل ماضيك، وجه من تحب، قلب أمك ويدُ جدّتك.

الغربة هي انتقاص من نفسك، تجريد من روحك وقلبك.

***

سأحتاج ثلاث سنواتٍ أخرى للعودة والاستقرار في الشمال، لا شيء يزعجني هنا سوى عدم مقدرتي، بعد، للتأقلم بعيدًا عن هناك، بعيدًا عن يد الرجل الذي أحب والبلد الذي كبرت فيه، بعيدًا عن مسارح طفولتي والشوارع التي تحمل ذكرياتي.

لا ذكريات هنا، لا تفاصيل تخصني، هذا هو فقط ما يزعجني هنا بعيدًا عن هناك.

التعليقات