26/10/2015 - 21:20

العودة... إلى القدس / المتوكل طه

الملاكُ الذي ترك يدَ أمّه ذات غروب، ولحق بفراشةٍ كانت تطير حول زهرة وحشيّة، فهربت الفراشةُ فتبعها الملاكُ الصغير.. ونبتت أجنحته، فلاحقها.. لم تعثر عليه أمّهُ حتى اليوم، وما زال يلاحق الفراشةَ المخاتلة.

العودة... إلى القدس / المتوكل طه

وفجأة!

رأى نفسه يهبط عالياً إلى أمّ المدائن،

ونافذة الدنيا إلى السماء.

رأى أنه يعرج إلى القدس،

أو إلى زهرة العالم الزجاجية، وشمعته البابلية.

القدس أمّ النايات والشجن،

 وأمّ الهتاف المذبوح،

 وأمّ البداية التي تبدأ ولا تنتهي ،

 وأمّ الصغير الذي يعبّئ الشمس في يده ويطبق عليها، ورحْم الأغاني الصعبة التي تصيب الحديد بالقشعريرة، وسيّدة الأعراس.. والمناديل.. والنداءات البعيدة..

***

من أين جاءت حزمةُ الزعتر البريّ، وكيف حَطَّت على أوراقي البيضاء؟

ربما عاد الملاكُ المخبّأ في السحاب أو من وراء المجرَّات، ووضعها  أمامي، ليخبرني أنه ما ضاع، ولا ينبغي البكاء عليه!

الملاكُ الذي ترك يدَ أمّه ذات غروب، ولحق بفراشةٍ كانت تطير حول زهرة وحشيّة، فهربت الفراشةُ فتبعها الملاكُ الصغير.. ونبتت أجنحته، فلاحقها.. لم تعثر عليه أمّهُ حتى اليوم، وما زال يلاحق الفراشةَ المخاتلة.

بكت الأمّ، وذرفت دموعها، فتجمّدت حباتُ الماس، وصار المعدنُ الشفاف الأثمنَ على الأرض. 

إنه كريستال الألم، هذا المُشعّ على نحور النساء اللواتي أثقلهن دمُ التراب، بدل أن يضعن الأجنحةَ ويذهبن إلى عين الشمس، فأصابتهن البرودة، وصار البياض شمعاً يتشقّق كلّما مرّت الأيام وعبرت السنون، وانطفأ فتيل الشغف في الصدور.

لقد رأى الملاكُ النساءَ في بيوت الصمت والجَمال الفقير، وغياب الطيور عن الشرفات.

لعل الملاك كان يحلم بأرضٍ أكثر دفئاً وحيوية، كما كان يصبو لعالم يرى فيه الصبايا يخلقن أجنحتهن بعزيمتهن، وتخرج النجوم من بين أصابعهن! وتطير فيه الفراشات من الجدائل الى حدائق الشهداء والمتاريس المشتلعة.

وأخيراً، انتبه الملاكُ، فوجد فلسطينَ أرضاً تأخد شكل الخنجر الملكيّ، على ساحل طويل كغناء الأمهات.

ورأى عوجَ بن عناق يمدّ يدَه في البحر، فيمسك بالحوت ويرفعه إلى عين الشمس ليشويه، ثم يطعم صغاره!

وسمع زفّة البلاد الرانخة بأعراف الخيول المليئة بالعسل، ورأى ملء عينه ثوبَ الخجولة المزدحم بانفجار الربيع وعروق الشقائق وسنابل الوعد.

وهبّت عليه عواصف اليد المكوّرة، التي تدقّ الأسداف، فتفتح نافذةً في العتمات!

وترنّقت السماءُ ببخار الدخان المخبوز قمحاً وجمراً ريّاناً.

ها هو الملاك يئزّ بجناحيه، ويطلّ بثلج فضّته البيضاء من وراء الكواكب، مُجنّحاً نحو الأرض المباركة، فاهتفوا بصوت واحد مرحّبين به: أهلا بك في قلوبنا، وادخل علينا كما تشاء يا ابن السماء ! فنحن، منذ أن جفّفت حواءُ مشيمتها على حجرٍ في يافا، نحن أهلك وبنو أبيك.

فارجع، كما انت خالصاً للحياة.

ملاحظات؛

 سيصل الملاكُ في يوم قريب الى فضاء الشهيد على ضفّة القلب في القدس.

ومَن يرى أمّ الملاك، عليه أن يخبرها بعودته الى بيته.

ومَن يرى الفَراشة فليسلّم عليها.

التعليقات