09/11/2015 - 15:16

رائحة الطيّون.../ المتوكل طه

أين وصلنا... آه! في هذا المكان المُعتم خلعت الصبّية ثوبها وعلّقته في مناقير الطيور... وقد تركتها عارية، فالتصقت بجذع قديم، فتزوّجها، وسحبها إلى أعماقه، فجاءت الغصون كأنها جدائل أو نهود أو عجيزة ناعمة.

رائحة الطيّون.../ المتوكل طه

 

لقد ضحكوا علينا!

***

هي لوحة كولاج أنجزها القَدر وأنزلها لكل المخلوقات، لكنهم تاهوا في ألوانها، وضاعوا بين مكوّناتها، ولم يجدوا في متاهة الجنّة ما يوصلهم إلى النوم.

***

لقد ارتفعت شآبيب النار، واحترق الليل تمامًا، ليجدوا رمادًا بين أقدامهم المعفّرة بالضياع.

***

الحَجّاجُ الثقفي مسكين! يصلح لأنْ يكون تلميذًا في الصفّ الأول الابتدائي في مدرستكم السوداء، أو حاجِبًا على باب محْفلكم المشبوه... يا أولاد الحَرام ...

***

كان الديّوث يعلم أنهم يكرهونه، لكنّ الماس الذي يبرق بين يديه، جعلهم ينكبّون على يديه، فيرفعونها، مثلما فعلوا مع الأبطال، فاطمأنّ... وواصل تعكير النهر.

وظلّوا دون ماء.

***

لقد دخل الجنود بالسكاكين والبلطات، فشجّوا رأس أبي، وقطعوا رأس أخي، وبقروا بطن أُمي... كنتُ متحجّرًا كأنني تكلّست وتجَمّدت... والدم يشخب على الحيطان والأرض... وخرجوا، بعد أن حرقوا المنزل بمَن فيه!

 لا أدري!

 هل خرجت أم ذبحوني... وكنتُ  مع أُسرتي، أم حملني مَلَكٌ ما خارج البيت؟

***

كان خارج المدينة، وكنت أُرسل إليه باقة ورد، كل يوم، لا تصله، لكنه يعلم مدى المسافة القاسية بينه وبين صدر أُمّه.

***

لم يدع المحراث من يديه، كان ينهر البغلة ويحثّها على مواصلة افتراع الأرض، التي تتنفّس تحت رجليه، وتدفع بالبخار الساخن، كأنّ لها فحولة أسد فتي... لكن رصاصات العصابة، ذوي القبّعات الصغيرة، جعلته يتكئ على المحراث، فوقعت البغلة، التي راح دمها يهرّ كالمزراب على التراب المحروث.

***

وتاه القمر، واصطفّت الصنّاجة فوق النجوم، وترقرقت الحروف على اللّوح الدّرّي فسقط الرّهام يتغشّى البراعم الزاهية، واكتملت اللوّحة، كما ظنّ الرسّام.

***

أين وصلنا... آه! في هذا المكان المُعتم خلعت الصبّية ثوبها وعلّقته في مناقير الطيور... وقد تركتها عارية، فالتصقت بجذع قديم، فتزوّجها، وسحبها إلى أعماقه، فجاءت الغصون كأنها جدائل أو نهود أو عجيزة ناعمة.

***

أبْعدْهُم عنّي... لقد تحوّلوا إلى أفاعٍ وها هم يسيرون نحوي... أبْعِدهم أرجوك لا... لا... آآآخ... لقد لدغتني تلك العاهرة الرقطاء... هاتوا لي حبّة بطاطا حلوة أضعها على ساقي لتمتص السم...

***

لم ينفجر ذلك الُمعلّم من جهل أو معرفة، كان يعرف أن وعْيه التراجيدي سيبقيه حزينًا، يتهيّأ للمجزرة التي ستقع، كأن نوسترادموس، أو عائفًا من الصحراء، أو عرّافًا، مُصاحبًا لجنّيٍّ يُطْلعه على الغيب.

أما صديقه الضاحك أبدًا، فإن وعَيْه الكوميدي يؤجّل بكاءه أيامًا وشهورًا، ليسترجعه دفعة واحدة، فتفيض الحواكير بالزّهر الأسود، والريح الشمطاء.

***

ما هذه الأصوات؟ نعم إنها الطوفان! استعدّوا هيّا واخرجوا... إلى الغرب... إلى الجنوب... ستقضون غرقًا، وتنفقون كالكلاب الضّالة! أنتم أحرار بأجسادكم...

***

رائحة الطيّون قوية، تزداد مع المطر، ولا أدري أي المخلوقات تكرهها! تبقى مُمرعة رغم الفصول، وهي قهوة التراب.

***

وضعتُه في الزاوية المُعتمة، وأذَبْت إبريق البلاستيك بقطراته الكاوية على يديه... ليعترف، واعترف أنه هشّ، ضعيف، إنسان! وما زال بيتهُ يبكي بخشونة ضارية.

***

الْحَقْ... أطبقوا على الفراغ، وراحوا يتمايلون ويردّدون الدعاء... كانت التعازيم شديدة، والمُجاهدات قاسية، وقد تيبّست الأجساد وفاح عطر الذِّكْر... وتحقّق الكشْف! أين أنتَ أيها السهرورديّ! الحلقة ناقصة.

***

لا مجال للتبؤّر من فوق اسوارة البئر الحجرية إلى أعماق الطنين الهاديء! كان الدلو يعبّ الماء ويعلو إلينا، وفيه ما لا يُحصى من الديدان والذّرات الحيّة والغبار الرّاكد ورذاذ الهيولا... وكنّا نشرب، ونصبّ منه في الإبريق السخيم الملفّق فوق الحطب الوقّاد، ونطبخ الشاي بالزعتر اللاذع، فتبكي أمّهُ الصخرة، التي أخذنا بعض وَبَرها أو زغب خاصرتها الخضراء.

هل تعرف الزَعْمَطُوط؟ وزهرته التي تشبه فَرْج عذراء؟ ولها رائحة السَحَر؟

***

نركض، والحارس بعصاه الطويلة يلهث خلفنا، فتصيبنا شتائمه الجارحة، ونعتذر بصمتٍ لأُمّهاتنا على ما لحق بهنّ من الحارس! وأنظر إلى وَجه أمّي فإذا به على حاله، مستبشرًا، راضيًا مطمئنًّا، برموشها المصقولة، ودعواتها المرنقّة بالإيمان.

***

نرتمي نحن الثمانية تحت لحاف أو اثنين، ونتنازع الأطراف، ونتأفّفُ من غير رائحة ووشوشة، وكأنها البعوض الذي يطنّ في العتمة، فنشتم بعضنا، ونركل ونرفس ونتهاوش... لنجد الزيت صباحًا، كعادته، بلونه وطزاجته وسخونة إخوته الخارجين من مصطبة الحجارة المنفرطة، التي لا تشكو جيرتها من النار أو قَدرها الذي رماها، لتصطلي كلّ فجر، دون شفقة أو تغيير.

***

كاريس أو صبا، كلاهما امرأة من عسل ونار. كانتا صفحتين للمراهقة الملوّنة... وكاد رمّانهما يقفز ويتدحرج... وما زالتا هناك.

***

المهم! كان الشاهد يتبرّم كلّما استدعوه إلى المحكمة، لأن لا قضية هناك، ولا قاضي صلح ولا هيئة محلّفين ولا أي محامٍ... إنما بيت الزنك والخشب المتهالك، وبضع دجاجات يسحْن في أرضية ترابية عكرة، تنقرها الدجاجات ولا يلتفتن إلى الشاهد!

***

وفنجان القهوة يترجرج في المركبة، وتسقط منه قطرات على سروالك، وستقول لنا ارجعوا لأبدّل قميصي!

***

يا طفلًا ساحرًا أخذته امرأة العزيز إلى مخدعها فاكتشفت أنها أُمهّ، فغطّت بدنها بالبطانيّة وشدّت ثوبها على جسدها، وابتعدت عن هذا الجامح!

***

 ولم ينْته الحكواتي حتى انكسر الحصان، فَحَمل الفارسُ سرجَه على ظهره... وقيل، إن الرمال قد ابتلعته، أو أن العطش قد بطش به فرماه تحت لظى الناغرة، أو أن الوحوش قد تناوشته ومصمصت عظامه، وتلمّظَت بنخاعه السُكّري.

***

أيّ جلَبَةٍ يُحْدِثها شَعرك في الريح؟ وأيّ برقٍ شقّ قميص صدرك... فاندلعَ الرّعب في الأوصال!

***

وتجرّأ المشاهدون وراحوا يحفرون في ذلك الثقب، ليجدوا النمل وقد امتدّ بعيدًا...

***

أخذني السَّهر إِلى كهوفه فأعشى الدخانُ عيوني، وأثقلني النعاس، فخسرت سبع حبّات تمْر تقيني من الحسد، وتحرسني هالاتها الشقراء، وكأس لبن مخيض ونفحة من أنفاس الغبش الذاهب، هربًا من الضوء.

***

مَن أغرى الفَرَس لترقصَ في الليل؟

***

لقد ظلمونا يا الله!!!

***

حسنًا، لقد أدارت تلك العروس ظهرها للسرو وأعطت وجهها للبحيرة ، كانت ريّانة مثل نرجسة الشتاء، أو مثل سْرّة الشّهد بعد فضّ الشُبّاك.

***

ولم تمهلني لكي أُصارحها بالحقيقة، فقد كانت زائغة، لا تعرف الأسماء العليّة... والله أعلم! إلّا ما تكرّره العجائز عند طلب المعونة من السماء.

 ولم يكن لديها من الشجر ما يعطي للملك "ماكْبِث" مبرّرًا لسَمْل عينية أو تطليق أمّه... كان بإمكانهما أن ينتحرا ليتحرّرا من الوعْد المشؤوم أو من النبوءة القاتلة... لكن البشر جبناء مداهنون، يذهبون إلى الحافّة بوَهْم الطيران، فتأكل التماسيح ما سقط في عرساتها من غباء.

***

نحمد الله على سلامتك أيها الطير الغريب الرّاجع من المداخن العتيقة، الرّطبة الحجرية، الساخنة الباردة المُعشوشبة في أيام معدودات... لماذا تركت صغارك عُرْضةً لحطب السيّد الفاره الّلابس فراءه الدُّبْيّ الناصع الرهيف، دون قمح أو زوان، وكيف لها، أن تصدّ أفعى الثلوج، الفاغرة فمها في دخان الثلج؟ اشرب كأسك وارجعْ، ولا تؤلّف مرافعة للبكاء، تبرّر فيها هجرتك المهزومة دون فراخك العاجزة. ارِجعْ لعنةُ الله عليك وعلى كل شيء يشبهك.

***

والأغاني تطرب الحصان، بل المزمار السادر في وَلعِةِ، الذابح، الذي يشقّ الندوب ويعيدها جراحًا بدم يتدفّق مثل الزّهر المنعوف في الأعراس، فيدَبّغ القمصان بالفرح. والدم لا يتخثّر ما دام المزمار فوّاحًا بتلك السحجات المشقوحة، التي يصبّ فوقها نبيذَه الدهريّ، فيشعلها مثل نافورة الورد في الساحات.

***

كأني خسرت كلّ شيء!

***

ما أروع أصدقائي! لقد جمعوا النار وألقوا بها في العتمة... فكان الفجر والعيد.

وهناك أشقاء لك لم تلدهم أمّك، أولئك الذين يفكّرون بك... فيرنّ الهاتف بذَهَب أسئلتهم الدافئة.

أنا والحزن، لا نجد في الأغاني متّسعًا لترداد الحروف.

***

صحيح أني كنتُ على تلك الصخرة في ذلك الوادي السحيق، وكانت الأرواح الهائمة تئنّ من حولي كأنها غربان... وتقف، تباعًا، على كتفي وتحدّثني كما أحدّثك، وتقص علي حكايات وذكريات... لكن ذلك الأمر انتهى... وقلتَ لي؟ إن ذلك كابوسًا... أو بالأحرى كوابيس، لاحقتني طيلة الليالي الفائتة... لكنها لم تعد، وها أنذا أنام عميقًا، كأني أسقط على وسائد الجنّة، وأتمتّع بمشاهدها الخلاّبة الفاتنة...

***

لقد تأكّد أنها كانت في حياة سابقة! وإلّا كيف ولد ذاك الحنين؟

***

افعلوا ما تريدون، فلم تتركوا شيئًا نخاف عليه.

***

 هذا الليمون بلا سُكّرٍ، كيف أشربه وكل ما في الكؤوس مرارات عيْش، أغصّ بها كُلّما قلتُ؛ عطشان... عطشان! لا أرتوي رغم هذي المياه، ولا أُّحسن الظنّ في أيّ قنديل ليمونةٍ أو شجر... فأنا طيْنةٌ ظمئت ألف عام وصارت حجرًا...

***

حملتني النافذة من الطابق العاشر، بعد أن ألقت الطائرات قنابلها الهائلة، فخَبزَت العمارة، وطرتُ مع الشرفة، لتحطّني على مسافة بعيدة... لكن العجاج الأسود، وفوهّة النار والركام المتطاير... كان قريبًا إلى درجة أنني بقيت تحت الرّدم ثلاث سنوات، أي بعد الحرب الثانية والثالثة... وربما تأتي الحرب القذرة الرابعة وأنا أنتظر! لا أكل، ولا شرب لي غير الغبار... والذكريات.

***

 ظننتُ أن المسؤول الأول، كما قالت، سيقدّم العزاء!! بعد أن تلقّى زوجي القتيل الرصاصات، وكان فداءً للمسؤول! غير أن المسؤول حضنني، فاعتقدتُ أنه يبالغ بالمواساة... و شيئًا فشيئًا راح يشمشم رقبتي و يضغط على ظهري... ومد يده إلى صدري... و بيديه حملني إلى الطاولة، ورفع ثوبي، وأنزل سروالي، واعتلاني... وراح يرهز... و أنا زائغة دائخة مذهولة... لا أصدّق ما يجري... وفقدتُ النُطْق... ثمّ وضع في حقيبة يدي مُغلّفًا فيه مبلغ كبير... بالآلاف... وقال لي: هذه لأولادك!

وصار يناديني، آخر الليل، ويدخلني، ويمدّدني ويضع في حقيبتي الآلاف... وبعد شهور منعني من الوصول إليه... دفْعًا للشبْهة. وها أنذا منذ عشرين عامًا –وتبكي– أمتهن المهمّة التي علّمني إيّاها مَن مات زوجي من أجله... وأصبحت في نظرهم ساقطة... لا يجوز لها التمتّع بحقوق الشهيد الذي هو زوجي... وها هم أولادي الثلاثة، على المفارق، يبيعون للسيارات ما يلزمها من ورق وماء.

***

مَن الذي يقول "حين سكت أهل الحقّ عن الباطل، توَهّم أهلُ الباطل أنّهم على حق"؟

 لماذا؟

سأخلع له لسانه من لغاليغه... كان عليه أن يفعل... لا أن يقول.

 ***

عندما تخلع إزارها وتظلّ بقطعتين، وتنغمس في الأمواج، يصرخ البحر!

***

غمغمات الكُمثرى العسلية تفيض في فمي... ثم تصير علقمًا لا استطيع ابتلاع ريقه، فالمشهد خشن فظّ جِلف، لقد وضع إحدى عشرة ذبابة في قنينة وأغلقها، ورماها في الموقد!

إن أصوات الفتيان والفتيات، وسط شبوب اللهب المتغيظّ يمزّع الكبد ويفرم القلب.

ثم جاء، والمنجل بين كفّيه، يجفّف الماء، وقهقه... وقهقه... فانكسرت جرسيّة الكنيسة ومالت مئذنة المسجد، وتبعثر السور على الجنبات.

***

ثمة حجارة تتنادى، لتعيد السور إلى شبابه...

 

التعليقات