28/12/2015 - 16:24

امرأة في تماثيل أفلاطون.../ أحمد حمدان

أعرف الجميع هنا، الحركة ذاتها والناس ذاتهم. من المتسوّل المتلفّح بنفسه من البرد في ركن ما والمجنونة السمينة التي تنام وتقوم على المقاعد العموميّة ومدمنة الكافيين التي لا تنفكّ تزعج الناس طلبًا للمال لشراء القهوة من نيتسا

امرأة في تماثيل أفلاطون.../ أحمد حمدان

تلك اللحظة البلهاء

لا زلت أذكر تلك اللحظة كأنّها حدثت قبل ثوانٍ

حينما بلغ الاستكبار حدّ البلاهة...

في إحدى باحات 'الهدار' المرصوفة، ذات الأرضيّة الملساء

قبالة مقهى 'نيتسا' القديم

مررت في يوم مشمسٍ بارد... بعد أن صحوت باكرًا.

لم أرتدِ يومها ملابسَ دافئةً، وكان النعاس والخبَل والبرد يتملّكوني

فكنت أتقافز كالقرد في سيري لأهرب من الظلال الباردة، وأكشف جسدي لأشعّة الشمس لأتدفّأ بما استطعت إليه سبيلًا.

أعرف الجميع هنا، الحركة ذاتها والناس ذاتهم.

من المتسوّل المتلفّح بنفسه من البرد في ركن ما

والمجنونة السمينة التي تنام وتقوم على المقاعد العموميّة

ومدمنة الكافايين التي لا تنفكّ تزعج الناس طلبًا للمال لشراء القهوة من 'نيتسا'

وحمراء الشعر تلك وابنتها اللتين لا تتوقّفان عن القتال يومًا

وبائع الشوارما صاحب الرداء الأبيض ذٰلك الذي يستجدي العابرين يوميًا بأن يدخلوا لحانته بتحيّته لهم بالعربيّة المشوبة ببعض اللكنة العبريّة قائلًا: 'ألاان'،  التي يراد القول بها: 'أهلًا'

حتّى الموظّفين وأرباب الأعمال الذين يعبرون ذهابًا إلى أعمالهم

أعرف الجميع

الوجوه ذاتها والأشخاص ذاتهم

لا جديد يذكر، ولا قديم يعاد

روتين سقيم كئيب في هذه الباحة

وأقصدها طلبًا للسقامة والكآبة

ولعدم رغبتي برؤية أي جديد

فلم يعد رأسي يتّسع لأيّما شيء جديد أشغله به

كان من الممكن أن يمرّ هذا اليوم كباقي الأيام لولا...

لولا تلك الفتاة

لقد حيّرتني

وأرهبتني

وكسرت قوالب الروتين في هٰذه الباحة

ربما تكون هي من حيث لا تدري، أعظم الأحداث التي مرّت على صورة هذه الباحة في عقلي خلال العقد الأخير، وربما يزيد...

أكاد أجزم أنّها انفردت في كسر الملل الكئيب والروتين في هذه الباحة

أكره المفاجآت

وأسلك هٰذه الطريق عبورًا من هٰذه الباحة بغية تجنّب المفاجآت، وكي أتجنّب رؤية ما يثير استغرابي، أو التعثر بجديد يشغلني

ظننتني حفظت الناس والمكان والعابرين عن ظهر قلب، وليس ثمّة ما يشغل بالي وتفكيري ويسرق حصّة مما تبقّى من الانشغال والهمّ بعقلي

حسبت نفسي ملكًا متسلطًا على هذه الباحة، إلّا أن تلك الدخيلة كسرت سيادتي وهيمنتي، فقد دخلت منطقة نفوذي دون إذن منّي وموافقتي، وحطّمت مملكة الأوهام بعقلي، ولم أتمكّن حتّى من الاحتفاظ بحقّ الردِّ

فأنا لا أعرف كيف؟ وأين؟ ومن هي؟

لا أعرف شيئًا

وأنا أبحث عن بقعة أخرى من الشمس...

لمحتها بعد أن لمحتني

وأمعنت النظر بها بعد أن أمعنت النظر بي

كنت أسير باتجاهها وكانت تسير باتجاهي...

تلاقت الأعين

تفحّصتها بكل التفاصيل في ثانية

كانت رائعة

كانت حلمًا

كانت سمراء نضجة  صفيّة تتلامع

لا يشوب صفاءها شيء

كانت رائعة بشعرها المجعّد البنّي المائل إلى الاحمرار قليلًا

بأنفها الصغير

وفمها الدقيق، وعيونها العسليّة ببؤبؤها الصغير

وجسدها الأنيق... المتين

انحناء غريب في ساقيها الممتلئتين

احتجت إلى بضع ثوانٍ لأخرج من سحر إبداع خالقها، وأنتبه لنفسي بأنّي قد أطلت النظر إليها.

أصابني الحرج!

أكره أن تراني إحداهنّ محدّقًا بها للحظة، فكيف يكون الحال عندما ضبطتني هذه المخلوقة محدّقًا بعينيها طويلًا!

لكنّي قلت لحظتها: لحظة، إذا كانت قد ضبطتني محدّقًا بعينيها طويلًا، هٰذا يعني أنّها هي أيضًا حدّقت بعينيّ طوال هذه المدّة!

كنت على صواب!

كانت لا تزال تحدّق بي

وأردّت بكل قوّتي أن أُذهِبَ عينيّ عنها بعيدًا

إلّا أني قلت لنفسي: هي غريبة هنا، ولا بدّ أنّها ستشعر بالحرج، خصوصًا في باحتي هذه، وستسحب نظراتها بعيدًا عنّي، لذلك، دعني أتمتّع قليلًا بمظهرها

إلّا أنّها لم تفعل!

تملّكني الفضول لمعرفة مدى وقاحتها وجرأتها، فلا بدّ أنها ستشعر بالحرج في لحظة ما وستصوّب ناظريها بعيدًا

منعني ذلك من أن أكفّ عن التحديق بها، وأرخيت العنان لوقاحتي على غير العادة

كنت أنتظر أن تشيل ناظريها بعيدًا قبلي

لكنّها لم تفعل!

والمسافة بيننا في اندحار

والانتظار يطول

ولوقاحتها ليس ثمّة حدود

وكلّما اشتدّ الحرج عليّ، وحسمت أمري بأن أبعد ناظريّ عنها، شعرت بأنّها ستقوم بالمثل فأتريّث ولا أبعدهما لكي لا يذهب انتظاري سدى

إلّا أنّها، ولسبب ما أجهله

كانت تبقي ناظريها مصوّببن نحوي!

رغم أن الحرج كان واضحًا وجليًا في وجهها، كما في وجهي.

ثم جاءتني الفكرة من حيث لا أدري، وقلت في نفسي: يبدو أنّ حالها مثل حالي، وتفكّر وتتصرّف مثلي، وانتظارها مثل انتظاري، فإذا كنت قد فتنت بها، فقد فتنت بي.

فزال الحرج

وكذلك حرجها

فأزيلت كل الحواجز

وكشفتها كما كشفتني

فحسمت أمري بأن أستوقفها بطريقة ما، فقد كسبت ودّي

وما أن هممت بذلك، انتابني شعور ما بأنها كانت على وشك أن تقوم بالمثل

فتملّكني الاستكبار وتراجعت وقلت في نفسي: إذا كنا نمرّ ونفكّر ونتصرّف ذات الشيّء، إذن، لتقم هي باستوقافي، أليست معجبةً ومفتونة بي؟ إذن لمَ عليَّ أنا أن أستوقفها؟

إلّا أنّها ولسبب ما أجهله، حينما همّت باستيقافي تراجعت على حين غرّة!

فصحت بنفسي: أيّتها المتغطرسة، إنّ المسافة بيننا على وشك أن تنتهي، فكيف لا تنتهزين الفرصة؟ عليك بالاستعجال، فإذا ما انتهت المسافة بيننا، سيكون من المستحيل أن نتعارف لاحقًا، من يدري؟ ربما كتب لنا القدر مستقبلًا، فلم لا تنتهزيه أيّتها المتمنّعة؟

تكرر ذات المشهد بضع مرّات، فكنت كلّما هممت باستيقافها مخافة أن تنتهي المسافة وأضيع الفرصة، وربما المستقبل، كانت تهم باستيقافي فأتراجع، فتتراجع.

ويزيدني ذلك غضبًا... بدت لي انعكاسا لذاتي على صورة امرأة، وذلك ما أدخلني شرك التحدّي والاستكبار، بدا لي الأمر برمّته نزالا ما في حلبة ما وسط 'الهدار' في حيفا، ولم أشأ أبدًا أن أرمي منشفتي في الهواء معلنًا استسلامي، كنت على قناعة تامّة بأن الإرهاق سيتمكّن منها، والخوف على مستقبلنا سينال منها وسيتفوّق على استكبارها...

وحين دنوت منها على بعد خطوة، كننا لا نزال نحدّق بأعين بعضنا، فأحسست بأن الفقدان قريب، وتذكّرت مقولة ما تقول: في بعض الأحيان عليك أن تقوم بخطوة واحدة إلى الوراء من أجل عشرة للأمام

إذن، لتكن خسارتي في هذا النزال خطوة للوراء

من أجل كسب آلاف النزالات مستقبلًا إذا ما كتب لنا القدر مستقبلًا طيّبًا، من يدري

فحسمت أمري بأن أستوقفها مستسلمًا لها، راميًا منشفتي في الهواء معلنًا استسلامي

وجازمًا بأن استكبارها أعظم من استكباري

لكنّي جزمت أيضًا بأنّ مسؤوليّتي على علاقتنا أعظم من مسؤوليّتها

ورؤيتي للمستقبل أوضح منها

ووعيي لتبعات النزال أفضل من وعيها

فهممت باستيقافها غير مكترث برد فعلها ودوافعها واستكباري وتمنّعي عنها...

إلّا أنّها... اختفت

اختفت فجأة

واختفى تبادل النظرات حينما تعذّر

لم أكن يومًا دقيقًا في الحساب

أو لمّاعًا في الرياضيّات

وهنا كانت عثرتي

وكبوتي... التي استطعت فهمها فيما بعد

فهذٰا صحيح أن المسافة بيننا كانت خطوة

إلّا أنّ كلانا يتقدّم، وكلّ مننا يقطع خطوة، أي أننا نقطع سويّة خطوتين

وحينما حسمت أمري باستيقافها كنت على بعد خطوة منها، أي أنّه كان عليّ أن أحسم أمري حينما كنّا على بعد خطوتين

وهكذا... كنت قد أضعت فرصتي، وربما أضعت مستقبلًا رائعًا.

آه كم أردت أن ألتفت إليها وأناديها، إلّا أنّ الحيرة من اختفائها، والاستكبار قد منعاني

رددت في نفسي طويلًا بأنّ عليها هي أن تلتفت وتناديني، فقد قمت بدوري وما يزيد... لقد رميت منشفتي، أهناك أكثر من هذا؟

لٰكن... لا جدوى، لم تناديني

وهكذا... لم ألتفت، ولا أظنّها التفتت

تركتني مشدوهًا وسط الهدار

وشعرت البرد يتسرب إلى عظامي كقوافل من النمل

لقد انتهى كل شيء بهذه السهولة

لقد كانت هذه الفتاة غريبة على المنطقة، وهي مجرّد عابر، وقد لا ألتقيها مجددًا كل حياتي.

وبذلك، وفي لحظة استكبارٍ بلهاء

أضعت أجملَ ما وطئ أرض 'الهدار'

أضعتها

تركتها تبحر بلا عودة

بدت لي انعكاسا متقنًا في امرأة بدت لي انعكاسًا متقنًا لي في امرأة، ربما أكون أنا في الأصل امرأة في تماثيل أفلاطون، بنظريّته، وأكون أنا نسخة غير متقنة... كما كانت هذه المخلوقة الدخيلة.

من يدري، ربما لم تكن هي أيضًا لمّاعة بالرياضيّات يومًا، وقد أرادت استيقافي أيضًا، لكنّها أساءت الحساب،

لقد تأخّرنا،

يا أحباب تأخّرنا

التعليقات