30/12/2015 - 14:43

ذكرى استشهاد ثابت ثابت.../ المتوكل طه

ثابت (أبو أحمد) مات. إذًا لتدقّ الأجراس ألف ألف عام، ولتُكَبّر المآذن ألف ألف مثلها، وليكتبوا على مداخل المدن والبلاد: إن ثابت مات! فلتُرضع السروةُ ابنتها لبنًا من دمعها عليه، ولتُطلِق السباعُ قشعريرةَ الوديان بعويلها، لأن أبا الجبال مات،

ذكرى استشهاد ثابت ثابت.../ المتوكل طه

هل رأيتم رجلًا من ندى وريحان، ووجهًا من فرح الأطفال، وضحكة من رذاذ العيد؟

ذاك ثابت الثابت.

وهل عانقتم نهرًا في جسد يضفضف بالنور والذهب؟ وهل أحببتم صلاةَ الشجر، أو لقاءَ البعيد العائد؟ وهل حملتم زهرةَ الحليب إلى الأمهات، بأناقة وخشوع؟

لقد كان ثابتُ في العناق المجيد، حتى سقط!

ثابت (أبو أحمد) مات. إذًا لتدقّ الأجراس ألف ألف عام، ولتُكَبّر المآذن ألف ألف مثلها، وليكتبوا على مداخل المدن والبلاد: إن ثابت مات! فلتُرضع السروةُ ابنتها لبنًا من دمعها عليه، ولتُطلِق السباعُ قشعريرةَ الوديان بعويلها، لأن أبا الجبال مات، وأبا الينابيع مات، وأبا الطيور البريئة مات.

مَنْ رأى منكم أبا أحمد في السجن؟

كثيرون، بالتأكيد!

كان تاج شمعة بحجم الإنسان، يحبّ الشِعر الواضح وأطفال السخرية، ويمتعض من الالتباس والغمغمة. قليل الكلام، دائم الابتسام، لم يلق بالًا لقمصان السجن أو لزمهرير الهزيع. كان يفرك كفّيه، ويعاود الاطمئنان على المرضى، يجس نبضهم، ويعصر خرقة الماء، ويبسطها على جبين مَنْ وقع في حمّى تردّد المناخ.

حُمْرةُ وجهه زائدة، كأنه مرهون لغضب أبدي، أو كأنه من سلالة "الزهراء" الطاهرة.

على مثله يبكي الرجال، وعند موته يموت الصبر، ويصبح الحزن وحشًا يفتتّ الكبد ويحرق القلب.

مَنْ رأى أبا أحمد؟

كان زهر الليمون الشتوي يسّاقط من أكمامه، ويطل النرجس من عنقه المشرّب بالمغيب، كانت تَحفُّهُ عرائسُ الغموض، وتحمل خطوته إلى درج الصباح، فيظل واثقًا رائقاً يضوّع الطريق بالأريج.

كان في المعتقل، يرقب رقعة الشطرنج، حتى إذا فرغ اللاعبان نصح الغالب والمغلوب، وبيّن لهما أخطاءهما... وعندما يطلبه أحد للمبارزة، كان يقول له: إن بيادقي من لحم ودم، وأنا الحصان والقلعة والملك!

كيف سمحتَ لهم، أيّها الملك، أن يُقلّبوا جثمانك أمام كاميرات الصحافة، ليظهروا للعالَم مكمن إصابتك ومداها... ولم تبعدهم؟!

كنتَ مستسلمًا، ذراعاك على بطنك مقيّدتان، كنتَ حياديًا، ثم دفعوا بك إلى الصندوق المُعتم البارد!

انتظرتُ أن تدفعهم بعزيمة يديك، وأن تنهض بكامل نبيذك وعسلك، وأن تذهب إلى ملابسك، فترتديها من جديد، وتعود إلى إصلاح السيارة من ثقوب الرصاص الغليظ.

لماذا لم تفعلها وتنهض يا ثابت... لماذا؟

هل ذهبت إلى الجنّة!؟

حسنًا، طولكرم جنّة أيضًا، وأقسم بالله، لو أنكَ سمعتَ بكاء أبنائك وأهلك ونشيج صراخهم، لكشفتَ غطاء النعش، ونزلت منه... وذهبت إليهم، تعتذر لهم عن موتك!

لكنك لم ولن تعتذر، كأنك تريد بموتك أن تدفن قرن المظلمة والاستلاب، وتبعث بدمك الجُلّنار، ذكرى العاصفة المتجددة، حتى الأسوار والنشيد الأخير.

وهل نحن أحياء لنقول إنك ميت يا ثابت؟ وكيف نكون أحياء وصخرة المعراج محاطة بسنابك خيل الآخرين، ولم يرتفع حزننا الغولي فوق قامة الفقاعة، أو على ضباع أسبارطة التي تلعق دماءنا بأنيابها وخراطيم حديدها المُهلك.

وهل سنواصل "السلام" بعد قليل؟ لتنسرب الرغوة الفاسدة إلى رئتي القرى والصلوات، ونطوي صفحة وجهك الأرجوان؟

ويحق لعيني الفهد الخضراوين اللتين انطفأتا باغتيال د. ثابت الثابت، أن نَصبغ أسناننا بالسواد، حزنًا ومرارةً، وأن نهيل الرماد والتراب على رؤوسنا، وأن ينتحب القلب، ويجوح الصدر... حتى لا يظل دمع في الرأس.

مَنْ يُصدّق أن ثابت مات!؟

-أستغفر الله العظيم-

أرى حبّةً من كهرمان صدرك تسقط في الطريق... وبعد قليل، ستنفجر الأشجار، وينفضُ فتى العاصفة غُصْنَ البرق، لتنثال على الدنيا أنوار المجد والخلاص! عندها، ربما، سنبكي رجلًا، كان ثابتًا على عهد التراب، وكان اسمه العالي المسجّى: ثابت ثابت!

التعليقات