25/01/2016 - 20:33

أنا ابن مريم.../ رأفت عوايشة

بعد السؤال، وجّه أهل القرية المسافرين إلى أحد البيوت، طرقوا الباب، خرج إليهم رجل كبير في السن، هو في التسعينات من عمره، لكن عند مقارنته بمسنّي الديار المقدسة، يبدو في الخمسينات من عمره، فقط، على رأسه عمامة ترابية اللون وفي يده عصًا

أنا ابن مريم.../ رأفت عوايشة

أنا ابْنُ مَريَمْ.

لم تعلم مريم الشريف أن ذلك اليوم سيكون الأخير لها في قريتها، أنها لن ترى السهل والريف وحقول القصب أو حتى النيل مرةً أخرى، لم تعلم، أيضًا، أن القبلة التي انطبعت على جبينها من والدها، شريف الشريف، هي آخر ما سيبقى لها منه وأن قلادة الذهب الروسي التي وضعها أخوها حاتم على عنقها مرفقةً بزغرودة أمها ومجموعة من نساء قرية السماعنة، الموجودة في محافظة الشرقية (صعيد مصر)، هي آخر لقاء لها مع كل شخص عرفته وأحبته يومًا.

كم كانت الطريق طويلةً عليها، لا أعلم، لا أحد يعلم، لأن عقل مريم، ابنة السبعة عشر شمسًا في ذلك الوقت لم يقس المسافة بالكيلومترات التي قطعتها بين الكثبان الرملية والصخور الحمراء، أو بسرعة الجمل الذي ركبته ولا بحرارة شمس سيناء، التي بطبيعة الحال تزيد صعوبة الطريق أضعافًا؛ بَيد أنه كان يقيسها بصعوبة الفراق وبدايات تراكم الشوق والخوف من القادم، ذلك المجهول.

من هم هؤلاء الناس، إلى أين يأخذونها؟ من هو الرجل الذي ستمضي بقية حياتها معه؟ لماذا هي؟ ولماذا هو؟ كم ستكون مختلفةً حياتها القادمة عن حياتها الماضية؟ وهل سترى عالمها ثانيةً؟ ما الذي كان يدور في خلدها في الساعات الأولى، ما كان جوابها عندما سئلت إن أرادت الزواج؟ هل سُئلت إن كانت تريد الزواج؟... تمنيت، دائمًا، لو استطعت أن أسألها هذه الأسئلة بنفسي، لكنني لم أكن واعيًا لحجم الكنزِ الذي كان لدي يومًا حتى فقدتهُ، أذكرها دائمًا، أذكر سيجارتها الحمراء وكرسيها ذا العجلات وكلماتها المتقطعة؛ أذكُرها دائمًا، لكنني لم أعرفها بحقٍ يومًا.

لم أستطع يومًا إيجاد جواب شافٍ عند السؤال "لماذا؟"، لماذا كل هذا الشغف بمصر، ولماذا كل هذه الدهشة عند اللقاء بِمصريّ، ومن أين تخرج اللهجة المصرية، من أي جزء في الفم أو وترٍ صوتي، عند بدء المحادثةِ معه؟  لكنني أعلم تمامًا أنني منذ نما وعيي لنفسي وعلى امتداد محور الذاكرة لدي، أذكر أنني أحببتُ مصر. رافقني صوت الشيخ إمام واعتنقت وجه أم كلثوم وقدست عبد الناصر فوق القداسة بدرجات، شعرت دائمًا أنني مراهقٌ في كل مرة ذُكرت فيها مصر أمامي، وفي كل مرة عدت لمشاهدة خطابات عبد الناصر حاولت تقليده مرارًا، وأحببت الحديث عنه لكل شخص ألتقيه. وكانت قصص ثورة الضباط الأحرار، المُلم بها أبي جدًا، هي الأحُب على قلبي من كُل القصص الأخرى ومن كُل مآلات الحديث التي قد يخوض فيها. لم أكترث يومًا بالسنّة والشيعة ولا بإيران والعراق، لم أهتم من كانت الأطراف في حرب الخليج، ولم تجذبني بطولات حزب الله، لكنني لطالما كنتُ كالطفل عند الحديث عن مِصر:

عن الثورة، عن الضباط، عن الفالوجة، عن ستة أكتوبر، عن "رأفت الهجان" و"جمعة الشوان".

حلمتُ دائمًا بالنيل، بالكورنيش، بالأهرام، بـ"القهاوي" وبشاطئ الإسكندرية.

ربما كان سبب شغفي الدائم بمصر هو أنني كُنت أراها يوميًا، أتحدثُ معها، تبادلني الحديث والتوجيه، تعلمني وتنظر إلي، تغضب، تسعد وتضحي من أجلي يوميًا. أرى مصر في تجاعيد وجهه، لون بشرته، هدوئه وصخبه. كنت أرى مصر في والدي، في اسمه وحديثه وقصصه الكثيرة التي كانت أهمها دائمًا قصة مريم الشريف؛ تلك التي لم تتسنّ لي فرصة سماعها منها أبدًا.

نزل جمعة مريم الشريف في مطار القاهرة متشوقًا مشتاقًا لمصر التي لم يزرها سابقًا لكنها سكنت قلبه دائمًا، وصل إلى فُندق الأهرامات الثلاثة واستعد للجولة السياحية، ركب الباص السياحي المُرافَق بسيارتي شرطة بحُكم أن راكبيه من حمَلة الجنسية الإسرائيلية.

في الباص، قاد المجموعة شاب يافع مليء بالحياة والطاقة، رشيق التعامل والحركة، يتكلُم سبع لغات، ذكي في تعامله وفطنٌ في إجاباته. لم يعلم جمعة لماذا توجه الشاب بحديثه إليه بالذات واهتم بالتعرف عليه هو، ومعرفة قصته الشخصية، ربما رأى فيه مصرَ هو أيضًا!

 في الحديث اتضّحَ أن أمير هو ابنٌ لأم مصريةٍ وأب فلسطينيٍ مهجرٍ من قرية الزرازير في الجليل الأسفل. حدثهُ جمعة عن جذوره المصرية، عن أهله وعن عدم علمهِ بمكانهم أو مصيرهم، فدارت بينهم المحادثة الأهم حتى تلك اللحظة:

- إنته عاوز تشوف عيلتك الي ف مصر؟
- يا ريت بس ما بعرف عنهم شي
- دي سيبها عليى انا
- كيف؟
- تدّيني كُل المعلومات اللي تعرفها عنُّهم دلوقتي وحيستناك تاكس باب الأوتيل بكرا الصبح.

قضى جمعة مريم الشريف الليلة في التفكير، رغم تعب النهار المشابه لتعب اليوم الذي سبقه، إلا أنه لم ينم كما الليلة السابقة.

سابقًا كان الإنهاك سيد الموقف، تملّكه وطرحهُ في الفراش، في اللحظة التي رأى الفراش فيها، أما الآن فقد استحوذ التفكير على كل حواسه، التفكير فيما ينتظره غدًا، ماذا سيجد هناك، ماذا يتوقع أن يجد وماذا يجِبُ أن يتوقعَ أن يجد.

نزل جمعة الشريف في اليوم التالي إلى موقف سيارات الفندق، ووقف ينتظر ولكن لم تتواجد فيه أيّة سيارات للأجرة، توجه إليه رجُلٌ ملتحٍ رثُ الملابس يقفُ بجانب سيارة "ميرسيدس" قديمة زرقاء اللون:

- انته جُمعة؟
- نعم
- أنا السواق بتاعك حوصلك عندِ أهلك

لم تتطور المحادثةُ أكثر من هذه الجزئية؛ وإذا بمجموعة من عناصر المخابراتِ المصرية تلتفّ حول الرجُلين، حيث اتضح أن السائق الملتحي هو فردٌ في جماعة الأخوان المسلمين المصرية. حيث كانت سنة الألفين سنة صعبة اجتاحتها عمليات خطف السواح في مصر وقتلهم، واتهِمت جماعةُ الإخوان المسلمين بجزءٍ كبير منها.

بعدَ مراجعة رخص السائق وجواز سفر جمعة الشريف، سمحت لهما عناصر المخابرات بالمغادرةِ، شرط أن يعيد السائق جمعة إلى نفس المكان الذي أقلّه منه.

محافظة الشرقية في صعيد مصر تبعد عن القاهرة مائة وثمانين كيلومترًا ودرجة الحرارة في القاهرة وأريافها تحافظ على الدرجة الخمسين فما فوق في ذلك الوقت من السنة دائمًا، وسيارة المرسيدس القديمة لم تحتوِ على مكيفٍ فعال يومها، نوافذ مفتوحة، هواء ملتهب يدخل ويخرج مصحوبًا برطوبة النيل، شَعَر جمعة الشريف أنه على وشك أن يغرق في عَرقه.

- اش في احنا في جهنم؟
- ده ولا حاجه يا راجل استنى نوصل الصعيد وحتشوف جهنم بجد.

 

"لما كنت صغير وكان ينحكي عن عبد الناصر كنت أحس اني لي ظهر"، هي الجملة التي افتتح فيها جمعة الشريف معركة الحوار الجميل الطويلة يومها، جمال عبد الناصر، الإخوان المسلمون، سيد قُطب، أسماءٌ تكررت في كُل مراحل النقاش الذي امتد على امتداد الطريق إلى الصعيد، لكن كل ما كان يفكر فيه جمعة الشريف هو: "ما الذي ينتظرني هناك، ماذا سأقول؟ كيف سأعرّف عن نفسي؟ وماذا أريد منهم؟ لا أعرف أحدًا هناك وليس لي أيّ عنوان في القرية، هل يذكر أحد منهم مريم؟ كيف سأذكرهم بها؟".

هو لم يلتقِ في حياته شخصًا من أهل مريم أو معارفها، لم يعرف ذاك الإحساس بأن لمريم عائلة، لكنه علم دائمًا أنه كان سيحبهم، فهو أحب مريم دائمًا وجدًا وهي أيضًا أحبتهم، قدست زوجها وعشقت أبناءها واعتنقت تلك الحياة التي فوجئت بها وربما لم تخترها، لكنها صنعت الأفضل منها.

لم يتقبلوها في فلسطين، هي لم تندمج بشكل كامل يومًا، كانت غريبة عنهم. مريم لم تقل لأبنائها يومًا أنها تشتاق لمصر لكنهم كانوا يعرفون دائمًا أن جسدها في فلسطين وقلبها في مصر، لأن مريم تحدثت بالمصرية كل أيام حياتها حتى وفاتها وكأن اللهجة المصرية هي آخر ما بقي لها من مصر.

وصلت المرسيدس الزرقاء إلى صعيد مصر وتوغلت فيه إلى محافظة الشرقية ثم غطست حتى قرية السماعنة:

 - وصلنا ياسطى...

كانت حقول القصب أول المستقبلين للضيوف تحيط الشارع من الجهتين وتهتز بشدةٍ مع الهواء الساخن كأنها تلوح ترحيبًا بهم، كأنها اشتاقت هي أيضًا، اشتاقت لمريم.

"بيوتٌ قديمة جدًا، تِرَعٌ، جواميس، جلبيات بيضاء، لوحةٌ لفنان مستشرق عن مشهدٍ غريب عليه".

بعد السؤال، وجّه أهل القرية المسافرين إلى أحد البيوت، طرقوا الباب، خرج إليهم رجل كبير في السن، هو في التسعينات من عمره، لكن عند مقارنته بمسنّي الديار المقدسة، يبدو في الخمسينات من عمره، فقط، على رأسه عمامة ترابية اللون وفي يده عصًا تبدو مسنةً هي أيضًا.

نظر إليهم باستغراب وتمعّن، كأنّه يحاول تحليل سبب الزيارة قبل أن يبدأوا في الحديث، شد جمعة انتباهه أكثر من شريكه وتركّزت عينا المسن في عيني جمعة الشريف، الذي عجز لسانه عن تجهيز أي كلمة لهذه اللحظة.

وهنا افتتح السائق المحادثة بـ:

- السلام عليكم يا حج
- وعليكم السلام
- احنا جايين من مصر بندور على جماعة قرايب زميلي هنه

في تلك اللحظة أمعن المسن النظر في عيني جمعة، ابتسم وقال:

- انته ابن مريم صح؟
- صح.

التعليقات