18/04/2016 - 14:35

بعيداً في القبو: تأمّلات معتقل

ومَنْ أدراك؟ ربما تتحدث هنا في السجن، ويكون البعض مستيقظاً، وسيسمع كل خطاياك وزلاّتك.. - إذاً، لن أنام!

بعيداً في القبو: تأمّلات  معتقل

التاريخ يعيد نفسه، بشكل مُكْلِف، على مَنْ لا يقرأه ، أما هنا في 'أنصار 3'، فالتاريخ ثيّب، جربناه وطلّقناه، وحاول أن يعود بِكْراً، حتى ننزف من جديد، أو نسوق أغنامنا في جبال الضبع، كأننا رعاة عميان!! ومهما يكن من اختلاف، فالسجن سجن، الهدف واحد والحوذيّ الساديّ لم يتغيّر، والنهر لم يبدّل ماءه، بل إن السابح لم يخلع ثوبه كالأفاعي، ومع ذلك، لِتَلْهُ الأيام كما شاءت بالدُمى التي تقطّعها في العتمة، بالمقصّ، فتخرج في النهاية ناقصة ذراعاً أو ساقاً.. لا بأس، فنحن لسنا دُمْية، وحتى لو اعتبرونا كذلك، فإن لهذه الدُمْية رأساً، على الأقل، وشفتين حمراوين، كما يقول شارلز سيميك.

*      *      *

تستيقظ مرهقاً، كأن تعب الزمان كلّه حلّ في بدنك، تقوم متثاقلاً، تغسل وجهك كأنك تصفعه بالماء البارد.. وتجلس بلا مبالاة على الأرض، دون اكتراث، ولا تنظر لشيء.. كأنك وحيدٌ على قمة هرم من الغبار اللامتناهي.. ويمضي الجنود، ويجيء الفطور.. فلا تأكل! ثمة حجر خشن يسدّ بلعومك! تنهض، بعد أن تبلّ جرعةُ شاي جفافَ فمك، وتشعل سيجارة 'أُسكت'.. وتمضي إلى الخيمة، تعيد فرْش البطانيات، وتسقط على وجهك في نوبة بكاء، تحاول أن  تخفيه، بأن تغمر وجهك في البطانيّة الوسادة، حتى يدخل أحد الأصدقاء، ويسمع نهنهة صدرك، واضطراب رأسك المهتزّ..  يقترب منك.. ويمسّد شعرك، فتنهض، محاولاً إخفاء وجهك، وبكُمّ قميصك تمسح دموعك.. فيشعل لك سيجارة ويعطيك إياها.. ويسود صمت كاوٍ..

تحاول أن  تنظر إلى عينيه، فتجد ماءً زجاجياً يبرق فيهما..

- لماذا نعود إلى هذا المعتقل؟

الظُلْم ثقيل.. ثقيل.. ثقيل..

*      *      *

يطيرُ بنا التمنّي كأنّه قضاء غامض، ونحن نرتحل من مكان إلى مكان.

ماذا لو أصابت سائقَ هذه الحافلة سكتةٌ قلبية، وتدهورت الحافلة في أحد الوديان.. عندها سيكون هؤلاء الجنود جثثاً هامدة.. أما نحن، فسنتمكن من الهرب...

أو.. ماذا لو اجتمعت الدول العربية، وشنت حرباً كاسحة ضد إسرائيل.. عندها سيتركنا الجنود داخل الحافلة، وسيهربون، وستدخل جحافل العرب المنتصرين لتكسر حديد الكلبشات، ويسقونا الماء.. ويقولوا لنا: الله يعطيكم العافية..

أو.. ماذا لو استطاع واحد منّا أن يُفْلِت إحدى يديه من الكلبشات، ويفاجئ الجندي الحارس، وينقضّ عليه، ويأخذ سلاحه: عندها سنأخذ الجنود رهائن، ونحظى بـ 'تبادل' يُحرّرنا جميعاً من السجن.

أو، ماذا لو كان سائق الحافلة عربياً، مدسوساً بين الجنود، وفجأة يوقف الحافلة، ويشهر سلاحه المخفيّ في وجه الجنود.. ويُطلق سراحنا..

أو.. ماذا لو أبرقت وأرعدت.. وهطل المطر مدراراً.. ونزلت صاعقة على هذه الحافلة.. فحرقتها، عندها سنتمكن من الإفلات وسط هذا الماء المشتعل الصاخب..

أو..

فجأة! يعلو صوت أحد الجنود، بلغته العربية الثقيلة، وهو يصرخ في أحد المعتقلين عندما حاول أن يرفع، قليلاً، العصبة عن عينيه، لعلّه يرى إلى أين نمضي.

.. وماذا لو!!

*      *      *

أيها الجندي القابض على بندقيته، كأنها حِرْز مُقدّس! لماذا، وأنتَ ترى حالنا، والظلم الهائل الذي يبهظنا، لماذا، لا تصرخ في وجه قائدك، وترمي سلاحك في وجهه، وتنتصر للعدالة؟

اطمئن أيها الجندي! لا نريد ذبحك، أو إلقاءك في البحر! فلماذا يطيب لك القهر والإذلال والتجويع والضرب؟؟ لماذا؟

ماذا صبّوا في قلبك، وماذا قالوا لك عنّا؟؟

مَنْ الذي عبّأ عقلك بكل هذه الكراهية العمياء؟ وكيف لك أن تحتمل كل هذا الظلام بداخلك، وهذه السموم بأنفاسك! وكيف لم تمت من ثِقَل ما حشوك به من موت، وجعلوك مشوّهاً إلى هذا الحد؟

هل ترى عيناك أيها الجندي، غير الذي تراه عيون البشر؟ وهل تسمع أذناك غير الذي تسمعه آذان الناس؟

ألم تر ما يَفعله قومك بنا؟ ألم تسمع الصرخات والولولات والأنين؟

كيف تسمح لك إنسانيتك أن تكون شريكاً في ساحات الإعدام؟

ألم تلاحظ أننا بشر مثلك، لنا عيون ووجوه وأيدٍ وأرجل.. وأننا نأكل ونشرب ونمشي...

إن صمتك، أيها الجندي، وحَمْلك هذا السلاح، وسرعتك في سحب أقسام البندقية، وإطلاق الرصاص، جعلتني أحلم ليل نهار كيف أُطبق بكلتا يدي حول عنقك، وعنق كل جندي مثلك.. لا لأنك جندي مشوّه أحمق، بل لأنك جعلتني أعرف الكراهية! وجعلتني أكرهك وأنتَ على حالك هذه، بل دفعتني إلى أن أفكر في القتل، أعني قتلك أنت.. حتى أوقف القتل، على هذه الأرض.

.. كم أنت مشوّه أيها الجندي!، كم أنتَ بعيد عنا..!

*      *      *

ثمة بئر عميقة، لا يملك رؤيةَ ما فيها إلاّ علاّم الغيوب وأنت! وما فيها كثير كثير! وهو ما تحاول إخفاءه أو إنكاره، بل تسعى لنسيانه..

- لكنه خربشات المراهقة وهوس الشباب! فلماذا الخجل؟ بل ما الذي نبّهك لتلك البئر التي دفنتَ فيها كل عيوبك وفلتات جنونك؟

يا للفضيحة والعار، لو انكشف المستور! يا ويلك.. أما كان بإمكانك أن تكون أكثر عفّة ومعقولية!؟ وما أدراك أنّك لن تفضح نفسك، كما فضح ذلك الشاب نفسه، وقال كل أسراره وهو نائم! كأنه كان تحت تأثير تنويم مغناطيسي، في غرفة طبيب، وعلى سريره الإكلينيكي؟

- لكنني لا أتحدث وأنا نائم؟

ومَنْ أدراك؟ ربما تتحدث هنا في السجن، ويكون البعض مستيقظاً، وسيسمع كل خطاياك وزلاّتك..

- إذاً، لن أنام!

لكنك ستنام، فالنعاس مثل الموت أو المرض، لا يستأذن، ولا يرعوي، ولا يخضع لتعليمات الملوك، أو فرمانات السلاطين.. إننا بشر.. إننا بشر..

- لأننا بشر، سأنام إذاً، فما فعلته بشري تماماً.. وليسمعوا ما لم أقله، وما سأقوله..

تنام.. وفي الصباح، تنظر وجوه زملائك.. فلا ترى شيئاً جديداً، فتسري الطمأنينة إلى نفسك.. وتتأكد أنك لم تحلم بصوت مسموع.. ولم تتكلم! الحمد لله..

*      *      *

كأني رأيته وهو يهبط من البدر المكتمل الموشّح، بثيابه البيضاء، الموشّاة ببقع الأرجوان المقدّس، وقدميه الناعمتين اللتين مرَّرت المجدلية ضفائرها عليهما!

كان شفيفاً، عملاقاً، كان شَعره مخضّلاً بالمياه، يضفضف ويضيء.. فتح ذراعيه، كأنه ما زال مصلوباً، فتنزل سحابتا أردانه حتى تلامسا الرمل..

يا سيدي البهيّ المخذول بقُبلة الخيانة اللئيمة! عُدْ إلى أبراج السماوات، واهتف للعليّ المجيد، الذي يرانا.. ليمسح عن وجهك دموع المعتقلين البسطاء، واقرأ بشارتك النافذة، في هذه البراري القاسية؛ بأنك جئت لتلقي سيفاً، في قلب الرمل.. لعلّ صغارنا يدخلون - الآن - باب العامود، ويدلفون بأناشيدهم الصغيرة، إلى طريق الآلام.. فلا يُصعّرون خدودهم، بل يكسرون صليبهم، ويرمون تيجان الشوك.. وينظرون إلى الأعالي، التي تُسبّح لمجد أمواه القلوب، التي تغسل الطريق من غبار الجنود.. الذاهبين، وحدهم إلى الجلجلة.. ويعلو قُدّاس الحياة واليمام.. في كل الأزقة والأجراس.. والنداءات الخاشعة..

يا ابن البتول! لن يتمكّنوا منك ثانيةً، فاذهب، على مهل.. إلى غبش الخشوع والملائك الساهرين..

*      *      *

هل تنفست الصعداء لأن العناية الإلهية حرستك من الرصاص؟ آه أيها الجبان.. لقد انكشفتَ.. إنّك تخاف الموت!!

- لا.. ألم ترني، والرصاص المجنون يئزّ حولي، بقيت واقفاً، أو منحازاً لنقل بعض المرضى إلى داخل الخيام، حتى لا يموتوا خنقاً أو رصاصاً؟!!

لكنك سعيد بأنك ما زلت حيّاً، بل إنك ستدّعي البطولة، وأن الموت لا يهمك..! على كل حال احمدْ ربّك، لأنك كنت مشغولاً ساعة زلزال الرصاص.. ولو فكرتَ لحظةً باحتمال موتك لسقطتَ ميتاً! ألم تسمع المثل القائل: إنّ مَنْ يخشى الذئب.. فإنه يراه..

ستراه يا صديقي.. ستراه! انتظر..

*      *      *

المباح قليل، والمسكوت عنه لا يُحصى! فكيف ستشرح أوجاعك، أيها المتأجج بكيمياء الرغبة، ولمسة البركان المهيب؟ وكيف ستجوح والبكاء عيب في كتابنا المهترئ؟ وكيف لك أن تقذف كل الزجاج المشروخ الذي يُدمي رئتيك؟ وهل تستطيع أن تمارس عادات الجنّ المخفيّ، أو الحصان الذي يشمّ ضفيرة الفرس تحت شمس اللوز، في البراري المفتوحة، للصهيل والنحل والفَراش الموعود بالنار؟

يتحلّقون حول بعضهم البعض.. فتأخذهم اللغة الجمعيّة إلى منابرها وإيقاعاتها الجاهزة.. ومع الشروق والمغيب، يتحللّون من ربقة الكلام المُعلّب.. وينسلّون، بخفوت وتكتّم، إلى الحكايا المُحرّمة، والليالي العاصفة بالنبيذ والشهيق البعيد!

فهل يكتفون؟

إن الغَزَل، والمبالغةَ في عبادة غلالات الليل وبنات حواء، هو آلية تعويض! مثلما تشرح النكاتُ الساخرةُ حالةَ اللارضى، والاحتجاج السلبي، على ما يدور!.. ودائماً ثمة لغة أخرى، تجدها في قاع المدينة، أو على جدران المراحيض العامة والحيطان. وهنا في 'أنصار 3'، لغة أخرى أيضاً، تهمس بفحيحها وخريرها، في كل الزوايا، ما يشير إلى أن هذه المجاميع هي مجتمع آخر، له مواصفات البلد.. وآه يا بلد!

*      *      *

ما الذي جاء بك، إلى هذا الجحيم؟ أما كان بإمكانك أن تتوارى قليلاً، عن عين النار؟ لماذا كنتَ مندفعاً لتكون ساتراً تحمي المدينة؟ هل أنتَ المسيح الذي سيفدي البلد.. وتبكي أُمّهُ؟! أم أنتَ حارس أحلام الأسوار والأغاني؟ كان بمقدورك أن تتشاغل بعملك وأكل عيشك! وكان سيتمّ ذلك بدعوى أن هاجسك الحرف وليس السيف!

بل إنك تخشى من أن يكون كل هذا الألم والصراخ والدم، عبثيّاً ومجانيّاً.. فلماذا العذاب، إذاً؟

وغداً، ماذا ستفيد وتستفيد؟ بل ستخرج، إنْ خرجتَ حياً، إلى رتابة الفراغ والعادة المقيتة! وستكون، في أحسن الأحوال، واحداً من آلاف مؤلّفة.. ولن تتمايز عنهم.. فلماذا لم توفّر على نفسك، هذا الجنون والذلّ، والموت الساقط مع الشمس القاهرة أو النجم البارد؟!

- ماذا تقول يا رجل؟

هل سمعك أحدٌ غيرك؟ اُسكت! فأنتَ الآن رجل حقيقي، وتستطيع أن ترفع رأسك جيداً، وأنتَ تطأ الأرض كالنَمْر الواثق، ولا بأس إنْ ارتفع صوتك في الجلسات، فأنتَ الآن معتقل!!

وسينقلب تاج الرمل هذا إلى هالة من الطمأنينة والرسوخ والمجد.

اعتدلْ في جلستك! واسمع ما يقوله الآخرون.. فلقد ذهبتَ بعيداً، وتركتهم حولك، كأنّ طيراً عظيماً قد حملك إلى سماوات الظلام.. لكنك تعود الآن إلى دائرة الأصدقاء الساطعة.. فلا تنطفئ، وابدأ كلامك من نهايته.. عليك اللعنة!

*      *      *

هل تتخيّل المشهد جيداً؟ أكمل إذاً..

ستجتمع اللجنة النضالية، وستلتقي إدارة المعتقل، لترتيب نقل جثمانك.. وسيحملونك وحيداً إلى أهلك..

توقف! كيف سيخرج أهلك لاستقبال موتك؟ وكيف سيصوّحون المدينة بصراخهم المفجوع..

.. وزوجتك، وأولادك، وأمك، وأشقاؤك، وأصدقاؤك.. والجنازة.. وبيت العزاء..

ترفع يديك، فتمسح دمعة حزنكَ على موتك! وعزاؤك أنك ما زلتَ حياً!

ولكن! لماذا يتكرر هذا المشهد؟ اللعنة..

*      *      *

لن يصدّقني أحد..!

- لماذا؟

لأنني رأيته..

- رأيتَ مَنْ؟

رأيت الذئب نفسه، ثانيةً، كان ينظر إليّ من خلف السياج، كان، كما رأيته أول مرّة، هرماً متهدّلاً، والدمع يبرق في عينيه.. وكأن الجنود لم يروه أو يحسّوا بوجوده!!

- ألم يره أحد غيرك؟

ربما، لا أدري.. لكنني رأيته.. أقسم لك.. وبعد أن وقف مليّاً متجمداً ينظر إليّ، لفّ دورة كاملة.. وابتلعه الظلام..

- ربما تهيؤات يا صديقي..

لا، وسأنتظره الليلة، فإنه سيعود!

بعد ساعة أو ساعتين، جاء صديقي، وأيقظني بانفعال، وسحبني خارج الخيمة، فرأيت الذئب كما وصفه لي صديقي، غير أن ذئباً صغيراً يقطر الدم من عنقه المذبوح، كان مُعلّقاً بين فكيّ الذئب الذي.. ما أنْ رآني حتى عاد بهدوء من حيث أتى..

*      *      *

الكآبة هلاك، ينبغي ألا تصدع لها، وإلاّ دفعتك إلى حافة الجنون، لهذا، عليك أن تخرج من دوّامتها فوراً، وأن تستنفر كل أسباب قوتك وثباتك، وتطردها، كما يُطَرد الشيطان من الروح البريئة.

وعليك أن  تشغل نفسك بالقراءة، والأفضل بالجلوس مع مَنْ تحبّ وتستريح، وأن تواجه حالة الاكتئاب بعقلك، وجهاً لوجه، كأنك طبيب نفسك، تجمع كل عوامل الثقة والاطمئنان والقوة والزهو التي بداخلك، وتجعلها متراساً في وجه هذا الهواء الفاسد الغامض.. ومرّة تلو أخرى، يتراجع الاكتئاب، ويصبح أكثر هشاشة وضحالة وخفّة!

والسجن أرض خصبة لهذا النبت الشيطاني الذي يشبه الأفعى، أو الفأر النجس! وكلما تراكمت الهموم، تسللت الأفعى بنعومتها السامة إلى وريد القلب، وكلّما حضرت الأحزان والأسى دخل الفأر قلبك يقضمه بأسنانه المسننة!

والكآبة معادلة كيميائية كاملة، لا تؤثر في النَفْس أو الروح فقط، بل تحس بحِبال أفاعيها، وهي تلتف حول مضغة صدرك، لتهتك أستاره، وتوقف تدفّقه النوري.. البهيج! بل تخشى أن يحتشد قلبك، فجأة، برغوة الكآبة، فيضيق مجرى التَنفُس، وتصبح على موعد مع السيد عزرائيل!

ولعل حدوث اللامتوقّع، المخيف، أو ما لا نعرف نهايته هو السبب الرئيس للكآبة! ولسوء الحظ أن كل هذا، وأكثر منه، يحدث كل لحظة، ويقع أمام عيوننا، يومياً، في المعتقل، ونلمسه على جلودنا وجدران روحنا.. ورغم كل هذا، نُبعد هذه الكآبة بالحياة، بكل مكوناتها، من الكلام.. إلى الغناء، ومن المجابهة إلى التصميم الأمر الذي يعيد صياغتنا، ويجعلنا أكثر قدرة، وخرقاً للعادة، من غيرنا.

*      *      *

معطف الليل من هواء! يفرد جناحيه وسادةً لإعادة ترتيب الأشياء، أو ليأخذ العيون إلى رحلة الغموض، أو الموت المؤقّت.  والليل يبسط حريره البارد تحت رأس المُتعبين، فيمتصّ الغيظ والعرق المتيبّس، ويعرّي الغافي من كل حباله وقيوده، ويُطْلقه جناحاً يَغمس ريشه في الشهوات الممنوعة، أو ليتخطّى أسوار النهار، أو ليُخرج كل الرمل بصرخة كابوس حاد، واهتزاز الماء المتصبب من الجبين.

والليل يبدأ مشدوداً.. لينتهي بالركود الهادئ.

*      *      *

نتمطّى على الفِراش الفقير، ونسند رقابنا على جدار مُرتّب، فيظلّ الجسد في مكانه، فيما تذهب الروح إلى أحلام يقظتها...، وتعود لتصطدم بالنتوءات الصعبة، والمشاهد المكفهرة الخشنة.

ماذا حلمت أيها الراكض خلف خيط الوهم اللذيذ، هل وصلت إلى البيت، وكشفت الغطاء عن الجسد الرَخِص البضّ.. وماذا بعد؟ هل أكملتَ الصورة التي ستظل ناقصةً ما دامت الحياة..؟

تتعب الروح من مشاويرها البعيدة.. فيتسلل الوسن إلى صحنين ذابلين، هما عيناك.. وتنام!

*      *      *

مدينة العذاب، 'أنصار 3'؛ هذا المعتقل الصعب أظهر وأخرج أجمل ما فينا، نحن المعتقلين الفلسطينيين، كما أوضح أسوأ ما في الجنود الإسرائيليين... لأن مهمّتنا كانت تقضي أن نتربع على عَرش الزلزال، مثلما دفعتهم أوهامهم إلى التشبّه بأبشع المخلوقات، وتمثّل أكثرها دموية!

ولعل ذهابنا بالجَمال إلى أقصاه، هو الذي خلق لدينا قوّة إضافية! ولا أعني جَمال المكان، بقدر ما أعني عيوننا الجديدة ورؤيتنا العميقة المختلفة، التي رأت المكان، وسبرت غوره، وأحاطت به وأدركته، واجترحت الأشكال والآليات المناسبة، للتعاطي معه، بحيث ظل المكان تحت سيطرتنا ما أمكننا ذلك.

والجمال داخلي بالضرورة، يتعلّق بتجاوز نقاط الضعف فينا، بعد التوقف أمام الخاصرة الضعيفة، أو الثغرات في تربيتنا الجمعية.

والجَمال، هنا؛ قوةٌ حالت دون تفريغنا، من محتوانا النضالي والإنساني والثقافي، وخلق حالة من العدمية فينا... ورافعةٌ اعتلت بنا، فوق مشاريعنا وأحلامنا الفردية؛ بدءاً من الغرائز المكتسبة، انتهاءً بنفي الخوف، في ظل التماهي الجماعي، والتشابك الدافئ الذي طرد الإنكفاء والتراخي والإحساس المرضيّ بالوحدة.

*      *      *

- هل تذكر تلك الليلة؟!

كانت متجاوبةً دون اتفاق مسبق، كأن ورقة الليمون التي طبعتها على بوابة الدار، و'الصمْدة' وتلك الأغاني الهائجة الحلوة، كُلّها تؤذن لأن يدخل الرجل على زوجه، فتخلع، لأوّل مرة، كل ثيابها، وتندسّ تحت حرير الترقّب واللمعة الخارقة، التي ستجعلها امرأة من جديد، وتطوي سنوات الفتوّة، وتضعها على مدرج الأمومة.. والغرق الحلال!

- أين أنتِ الآن.. أما كان بمقدور أمكِ أن تلدك طائراً يحطّ أنّى شاء، ويهبط حيث ربابة الشهوة الجارحة!

عليكَ أن تنسى، وأنت تذرع دروب 'جمهورية أنصار'، كل النساء.. وأن تُبقي نفثاتك المحمومة، وخيالاتك الفوّارة، في ثلج العمل، وأن تُحنّط صهيلك، إلى الكشْف الآتي..

- لكنك تتحسس في الليل عنق النار، وتخشى من فيض العسيلة، ودفقة صبابات الخيال!

سأحبس النار في القمقم، حتى ييسر لهذا الجان، مَنْ تحكّ فانوسه السحري.. وبعدها، ليكن الطوفان..

- ذكّرتني بالجنّيات اللواتي يعشقن الرجال، لماذا لم تعشقني جنيّة مليحة، وتأتي بطاقية الإخفاء، لتطفئ هذا الموقد؟؟ أين أنتِ أيتها الجنيّةُ.. تعالي.. واصحبيني إلى مدن النحاس البعيدة.. الغارقة في قيعان الماء..

*      *      *

سلك معدني شديد يلتف حول رأسك، يشتدّ، ويضيق.. فتنهض من نومك، وتجلس حتى تتأكد أنك لن تموت الآن!

وتحاول أن تتشاغل، وأن تفرك صدغيك.. وتنظر حولك، فترى نزلاء الخيمة نياماً، وموسيقى الشخير العالي تتعاكس وتتقاطع، كأنها أوركسترا موزّعة بين شخير هذا وشخير ذاك..

- فكيف سيبارحك الأرق، وينقطع السلك المعدني، وتنام؟

تشعل السيجارة الأخيرة، وتنظر لعلّ أحداً من الزملاء، أصابه الأرق، لعلّكما تتسامران.. فيقطع تفكيركَ صوتُ الموسيقى السفلى التي، غالباً، ما تعقبها رائحة البيض الفاسد!

إذاً، كيف ستنام!

اللعنة على المعتقل، وعلى الليل والأرق..

تحاول أن تدفن رأسك تحت البطانية الوسادة، فتختنق من رائحة الرطوبة المشبعة الثقيلة.. وترفع رأسك.. وتبقى بين يقظة وصوت وشخير ورائحة.. حتى تنكسر قشرة الليل، ويبدأ الديك البعيد بإيقاظ الشمس.. وبعد ساعة، ربما، تستيقظ مضطراً لـ 'العدد'..

تمشي متثاقلاً، كأن رمحاً قد فخت جمجمتك، واستقرّ في جبهتك، أو كأن رأسك قد فارقك من صداعه المهلك، وشظاياه الحارقة..

يا إلهي! ما الذي جاء بي إلى هنا!؟

*      *      *

يلد السَحَرةُ وقت الغروب، حتى يكونوا قادرين على تأصيل هذه الغربة! والغروب في الصحراء لوحة تتداخل فيها الوان المغيب مع بياض الغيوم الرقيقة، فتكتسب الغيوم لون الحنّاء الحزين. ودائماً، ثمة دمعة كبيرة، في السماء، تظل حتى الخيط الأخير الذاهب إلى البحر، كأنها وردة جُلنّار فقدت أُمها، وأتت لتشاركنا الأسى الطريّ.

وعلى مرمى عينيك، ترى العوسج يستعد للنوم، تحت لحاف الندى. وثمة زهرة يتيمة تذبل عند حمأة الظهيرة، لتستعيد تفتّحها! وكم تجمّعت حدقاتنا حولها، وحاولنا أن نستقدمها نحونا... لكن دونها خرط القتاد والبساطير.

*      *      *

هنا المدينة الجهنمية 'الفاضلة'، و'الكاملة' 'أنصار 3'، الذي حقق 'العالم الجديد والشجاع' كما تصوره الدوس هكسلي بقمعهِ ووحشيتهِ وسلبهِ روحَ وإرادة الإنسان، وتحويله إلى مجرد هيكل عظمي دون أدنى مقومات.

ومن عجب أن العقلية الاستعمارية الامبريالية تشرب من نبع واحد؛ 'أنصار 3'، هو ذاته عالم الدوس هكسلي، وهو ذاته جزيرة العقاب كما تصورها فرانز كافكا. العقلية الإمبريالية الاستعمارية تعتقد واهمة أنها تستطيع حمل الإنسان إلى نقطة يتخلى فيها عن روحه وإرادته وأحلامه وطموحاته.. باستعمال القوة، العزل، التعذيب، القمع، زرع اليأس في النفوس، تذويب الإحساس بالتمييز، قتل الإبداع، إنهاك الجسد من أجل إنهاك الروح.

'أنصار 3'؛

المدينة الجهنمية الفاضلة؛

آخر ما وصلت إليه عقلية فاشية عنصرية من أساليب في تنميط جزيرة عقاب صحراوية بعيدة ومنعزلة، مستفيدة من سرمدية الصحراء وأبدية الشمس، من عقاب القرّ وخناجر الحر.

'أنصار 3'؛

معسكر اعتقال، أو قل، معسكر تجميع يشبه معسكر تربلنكي أو أوشفيتس، أريد له أن  يكون تقطيراً لكل معسكرات الامبرياليات السابقة، وتركيزاً لكل تجارب إجهاض الثورات والشعوب، من خلال هذا الاحتكاك اليومي بين القاتل وضحيته، بين السجان وسجينه.

مدينة جهنمية كاملة هو معسكر 'أنصار 3'،

وكان علينا أن  نطوّع أجسادنا أولاً، وكان علينا أن نحصّن إرادتنا، وكان علينا أن لا نرى من خلال عيوننا، وإنما من خلال هذه الأرواح التي تسكننا لتجعل من أجسادنا لا تشعر بحرٍ أو بقرّ، ولنحتمل صحراء فلسطين الجنوبية القارسة الموحشة، ولندرّب أفاعي تلك الصحراء لتخدم 'التنظيم'.

كان علينا أن  نجعل من مدينتهم الجهنمية الكاملة، وعالمهم الجديد مجرد أضحوكة ليس إلا، وقد فعلنا.

*      *      *

اقرأ/ي أيضًا | سيّدي الإمام.../ المتوكّل طه

 

التعليقات