23/06/2016 - 15:35

إيّامك يا حواكير..

حسنًا، يا خوف، لا تُجبْ. وهوّن عليك. فأنا أيضًا، أخالُ الأمرَ لم يعدْ يهمّني، ولا يهمّ كذلك، طفلٌ بعدُ يلهو ويلعب في ترابات الحواكير.

إيّامك يا حواكير..

إذًا! 
لا جدوى -يا خوف- من الفرار منكَ بعد اليوم. ولا ضرورةَ للاختباء بعيدًا، كلّ هذا الوقت، كما لا طائلَ من الشرود عنكَ في أراضي الله الواسعة.

فالذي تراءى لي أخيرًا يا خوف، أنّك لأمرٌ حتميّ. وعاجلًا أم آجلًا، أنتَ ستتسرّبُ إليّ على نحوٍ سَلسٍ وعذب، كفصوص الملح إلى ماء أعماقي، وتذوبُ في جداولِ دمي وأوردتي، ثمّ تندفعُ إلى نفَسي، كأنّ نفَسي برارٍ وسهول، والخوفَ خيولٌ بريّةٌ تركضُ بي. لكن مهلًا! مهلًا يا خوف. فثمّة أمرٌ أحسبُك تجهله داخلي، وسأعترف لك به الآن. فهو من الأثر في النفْس، ما لا يمكن أن يروّضَ أو يخضعَ أو يستسلمَ لكَ بكلّ تلك السهولة التي سلّم بها الجسد.

أنتَ يا خوف، عندما تنفذُ بغتةً إليّ، على هيئة مشاعٍ من الأشجار غير المورقة، ما عليك سوى أن تتبعَ بعينيك خُطى طفلٍ بعُمر حبّات الإسكدينيا الفجّة، له وجهٌ أنقى من كوز ثلج، وشعرٌ قصيرٌ بشقار البنّ المحمّص. يقفزُ في الحواكير والمقاثي كصغار الحجل، كالجنادب بعد أوّل مطر، وكأحمال الماعز بين حقول الذرة، يدبّ على الارض أنّى طاب له، وكيفما يحلو له، واثقًا من رحمة الله. فأوّل همّه يا طويل العمر؛ أن يجمع ثمار الرمّان من شجر الرمّان المرصوف كسياجٍ من الجلنار حذوَ حارتنا، ويُجفلَ الطزّيز الغافي في أواني البرقوق النابت بين الصفّير، فيجمعه في قنينةٍ بلاستيكيّةٍ يرقدُ الترابُ أسفلها، ثمّ يلاحق أولادَ عمّه بسهام القمح غير الناضجة، والمهذّبة على السفوح والتلال، تلك التلال شبه النهود الغضّة، فيلاحقهم ويلاحقونه بأشواك العلّيق التي كانت تعلق على ثيابي فتفعلُ فعل الحكّة في جسدي. إلى أن يُشذّب الأعشاب، ويُقلّبَ الأعشاش، ويجمعَ الزغاليل، وكُراتَ البنانير، ويشيّد الخِصاص، ويصنعَ الفِخاخ، بأصابعه الرقيقة، رقّة الغصون في دوالي العنب. وهي نفسها الأصابعُ التي كانت تلعب "قريمشة" و"مدير عام"، وتبني مواقدَ من حجارة، على أرضٍ "مُسهمَدةٍ"، فتغلي الشايَ مرّةً بسكّر، ومرّات بلا سكّر، وتشوي تحته البطاطا المغلّفة بأوراق الفضّة. وهي الأصابعُ إيّاها، التي كانت تتسلّلُ كما تتسلّلُ أنتَ يا خوف، إلى عريشة الجارة، تستغفلُ "الحجّة بهيّة"، وهي ليستْ بغافلة، فتسرقُ بعضَ حبّات التفاح، حيثُ طعمُ التفاح، يساوي جرمَ أكله في رمضان!

وهكذا، يظلّ الطفل هناك، ويظلّ فيّ، يلهو ويلعب، كالقندسُ في الحيّ، إلى أن يضيق الحيّ.. والظلال السائبة، ويتّسع له لونُ المغيب، و"حمّامٌ تركيّ، أنجق لينظّف كلّ هالشحار والوسخ"، تقولُ أمّه، تناديه، تهدّدهُ بإخبار أبيه، "والله لأقول لأبوك"، فيعود.

وأعودُ إليك يا خوف.

والآن، بعدُ أن أفصحتُ لك عن بعضِ داخلي، أجبني بالله عليك، كيف يَسُعك أن تنفذَ إليّ بعد اليوم؟ كيف يُمكن أن تقلقني وأنا لا زلتُ أعتني برائحة الأرض بعد أوّل مطر؟ ماذا يُسْعفك اللحظة، وأنا لا زلتُ أحملُ في خاطري أشجارَ السّرو وزهورَ الكبّاد؟ وماذا بمقدورك أن تفعل، ما دامتْ حبّات التفاح التي سرقتها يومًا، بعدُ في يدي، وطعمُها، الحلو منه والمُزّ، بعدُ على لساني؟ فهل فاجأتك يا خوف؟ هل أفْزَعتْك ذاكرتي؟ ألم تتوقّع منّي ذاكرةً كهذه؟ فما أنتَ فاعلٌ يا خوف، أمام هذا الجمال كلّه؟ ما أنتَ صانعٌ يا خوف، إزاءَ هذا الجمال الهائل؟

-حسنًا

حسنًا، يا خوف، لا تُجبْ. وهوّن عليك. فأنا أيضًا، أخالُ الأمرَ لم يعدْ يهمّني، ولا يهمّ كذلك، طفلٌ بعدُ يلهو ويلعب في ترابات الحواكير.

 

التعليقات