05/02/2017 - 21:05

الضباع

لم يكن للضّباعِ أنْ تأتي لولا رائحة الموت. وأبو شحادة لم يكن في حسبانه أنْ يفتتحوا المقبرة الجديدة بجانب بيته، الذي يبعد قليلاً عن باقي جيرانه، في بلدتنا ذات البيوت المتناثرة، على السفوح والقمم والتلال. فما أنْ يدفنوا جثّةً جديدة.

الضباع

لم يكن للضّباعِ أنْ تأتي لولا رائحة الموت. وأبو شحادة لم يكن في حسبانه أنْ يفتتحوا المقبرة الجديدة بجانب بيته، الذي يبعد قليلاً عن باقي جيرانه، في بلدتنا ذات البيوت المتناثرة، على السفوح والقمم والتلال. فما أنْ يدفنوا جثّةً جديدة، حتى يسمع أبو شحادة جعار الضّباع، التي تروح تحمحم حول القبر، وتحفر بأيديها التراب، إلى أنْ تصل الكفنَ، فتسحبه بأسنانها لتلتهم صاحبه، وقد عَلَتْ زمجرتُها، بعد أنْ أتتْ على الميت ومصمصت عظامه وقرقشت أطرافه!، وأبو شحادة يرقب الضباعَ من خلف شقوق باب بيته، مرتعداً خائفاً.

وتكرّر الأمر، وأبو شحادة لا يدري ماذا سيفعل مع ضيوفه النَّهمين، الذين يتركون المقبرة، وقد تعفّرت بِمِزَقِ اللحم والروائح الزّنخة القاتلة، فيأتي بالمجرفة ويُسوّي القبرَ ويُعيد الشاهدين، وكأنّ شيئاً لم يكن.

كان أبو شحادة يخاف من لوم الناس له؛ لماذا لم يدافع عن حُرْمة الموتى ويطرد الضباع وينادي على الناس، ليبعدها عن موتاهم؟!

لقد كان لأبي شحادة رأي آخر؛ وهو أن يفتح القبر بنفسه، ويرفع الجثّة إلى ما فوق الّلحد، لتتمكّن الضباعُ من التهامها سريعاً، حتى لا تبقى طيلة الليل تنغّص عليه نومه، وتبقيه يقظاً مفزوعاً.

واستمرأت الضباعُ الأمر.

لكنّ الموتى لم يأتوا طيلة أسبوعين وأكثر، لم يمت أحدٌ من البلدة، فماذا سيأكل الزوّارُ الشَّرِهون؟.

حضرت الضباع، ولم يستطع أبو شحادة أنْ يُحصي عددها، لكنّه حمل نبّوته الطويل الغليظ، وأمسك به كأنه رمح مشدود، وشقّ باب بيته، وراحَ يخاطبُ الضباعَ ويطلبُ منها الرحيل، كأنها تفهم ما يقول؛ بأنّ أحداً لم يمتْ.

تقدّمت الضباع نحو أبي شحادة، فهرب وأغلق باب بيته عليه، وحاول أنْ يركز الباب بكل ما وجده أمامه، لكن الضباع بقيت تحوم حول بيته تهزّ جدرانه بأصواتها المخيفة، فراح يصرخ، ما أفزع الضباع، فارتفع جعيرها واحتدّت زمجرتها، وكانت تبرطع وتبول حول البيت، وأبو شحادة لم ينتبه أنّ نافذة غرفة نومه كانت مُشرعة، فققزت إليها الضباع، وصار الرجل، على صغر جُرْمه وحجمه، وليمةَ الضباع تلك الليلة.

كان لا بدّ من وضع حدّ للضباع، لتحفظ البلدةُ سلامةَ موتاها، فتوصّلوا إلى قرارٍ مفاده؛ أن ينام أبوعارف في النّعش مع بارودته، ويرقب الضباع من خلال الفتحة الواقعة عند رأس النّعش، لينظر منه ويرى الضباع عند مجيئها، ويصوّب ماسورة بندقيته نحوها، ويطلق عليها النار، فهو قنّاص ماهر لا تخطئ رصاصته.

وبالفعل حضرت الضباع، وكانت رصاصة أبي عارف في بيت النار، وأطلقها ففجّر رأس الضبع المتقدّم، فجفل الباقي وهرب، واستيقظت البلدة على صوت الرصاص، فجاءوا بعصيّهم وفؤوسهم وبنادقهم، وطاردوا الضباع.

بعد أسبوع هرولت الضباع مرّةً أخرى تشمشم أرض المقبرة، حيث الجثث الجديدة الراقدة، فما كان من أبي عارف إلا أن استقبلها بزخّات متلاحقة من بندقيته، فهبّت البلدة من جديد، وكانت الضباع قد رحلت.

بعد شهور، اعتقد الناس أنّ الضباع لن تعود، وأنها تعلّمت الدرس تماماً، فقرّروا سحب الرصاص من أبي عارف، لكنّه أكّد لهم بأنها ستعود، فلم يطاوعوه، وعاد إلى بيته حزيناً. والكلماتُ تكسر العظم مثل الحجارة.

اقرأ/ي أيضًا | لاعب الزهر

 وفجأة، تصادى الرصاص فاستيقظ الناس، وقالوا لقد عادت الضباع... فانطلقوا نحو المقبرة، فوجدوا أبا عارف قد جندّل ثلاثة ضباع! ومن يومها وأبو عارف في مركز التحقيق، بعد أنْ صادروا بندقيته! ولم يُفْصح، حتى اللحظة، عن مصدر الرصاص. وكان الموتى خائفون...

التعليقات