11/09/2021 - 18:19

ثلاثيّة شادن أبو العسل... أسئلة الرقص في الحيّز العامّ

ثلاثيّة شادن أبو العسل... أسئلة الرقص في الحيّز العامّ

من ثلاثيّة شادن أبو العسل

 

الكرنفال

تأتي فكرة الكرنفال كما تناولها الفيلسوف ميخائيل باختين من فكرة قلب الأدوار، مرّة واحدة في السنة؛ إذ يسمح السادة للعبيد أو أرباب العمل للعاملين، أو السلطة القامعة للمقموعين، أن يتسلّموا السلطة ليوم واحد، ويحتلّوا الحيّز العامّ أو مكان العمل؛ ليحتفلوا بقلب الأدوار، وهو ما يذكّر بكرنفال «يوم الطالب»، حين يستلم الطلّاب إدارة المدرسة، والممارسة التدريسيّة ليوم واحد.

يمنح الكرنفال الذوات المقموعة والرعايا شعورًا بالتنفيس عن الذات، والأهمّ من حيث يتشكّل وعي كاذب ومراوغ، بأنّ السلطة أو الأسياد منفتحون على منحهم الحرّيّات، وبأنّهم رحيمون وسخيّون، وبأنّ حالتهم – مقموعين - بحالة معقولة يمكن التعايش معها واحتمالها في الـ364 يومًا الأخرى؛ وبالتالي هذا ما يمكّن السلطة أو الأسياد مواصلة حكمهم وحيازتهم لقوانين الفضاء العامّ بقيّة السنة.

تجعلني فكرة الكرنفال وشروطها أفكّر في العلاقة بين الرقص الجماعيّ في أماكن عامّة، أداءً يحمل الطابع الاحتجاجيّ/ الفخور، وبين الممارسة الكرنفاليّة الّتي لا تخلو من العبث السياسيّ والهباء

تجعلني فكرة الكرنفال وشروطها أفكّر في العلاقة بين الرقص الجماعيّ في أماكن عامّة، أداءً يحمل الطابع الاحتجاجيّ/ الفخور، وبين الممارسة الكرنفاليّة الّتي لا تخلو من العبث السياسيّ والهباء، وهنا أودّ أن أجري مقارنة بين نمطين من الرقص في الحيّز العامّ، ظهرا في السنوات الأخيرة في بلادنا من النهر إلى البحر؛ النمط الأوّل هو الهويّاتيّ/ الفخور، والثاني هو الملانكوليّ الّذي تقوده منذ سنوات الراقصة ومدرّبة الرقص وصاحبة «فرقة شادن للرقص المعاصر» و«مدرسة عايدة»، شادن أبو العسل، الّذي وضع حدوده الجليّة الّتي لا لَبْسَ فيها في التريولوجيّ، والّتي عرضت في منصّات عدّة بالبلاد والعالم، وأثارت الانتباه الّذي لا يمكن تجاهله. ومن المهمّ التشديد هنا على أنّ المقارنة لا تقترح محو نمط لصالح آخر، بل هي محاولة لفهم مسائل العلاقة بالمكان، ضمن الفنون الأدائيّة.

 

ابتذال الفخر

يعتمد النمط الأوّل من الرقص في الفضاء العامّ على فكرة مقارعة غريم مفترض، لكنّه غير محدّد نودّ أن نحتلّ الحيّز منه، واسترداده بأجسادنا الفتيّة الفخورة بذاتها، وبحركات محلّقة عن الأرض يكاد الراقص أو الراقصة فيه أن يطير بالفعل، حيث تكاد الابتسامة الحماسيّة الفرحة أن تشقّ فكّيه. يعتمد هذا النمط من الرقص على فكرة الأداء الاستعراضيّ؛ لإجراء تغيير مفاهيميّ معيّن في أوساط الغريم صاحب النظرة الّتي يستهدفها، ومن الممكن أن يكون صاحب النظرة هذا المجتمع الذكوريّ، في حال رقصت مجموعة من النسويّات جماعيًّا، أو شرطة الأجساد «الشرعيّة» في حال رقصت مجموعة من أصحاب الأجساد المرفوضة اجتماعيًّا أو البشرات الداكنة... في حالة الدبكة الجماعيّة الّتي تقودها الفتيات، والّتي ظهرت وصُوِّرَت في أماكن مريحة نسبيًّا، مثل مركز مدينة رام الله أو مركز بيت لحم أو القدس، يبدو جليًّا أنّ الدبكة ليست فلسطينيّة تقليديّة، بل يدخل فيها موتيف مدرسة «كركلّا»، الّذي أُدْخِل في ثمانينات القرن الماضي على فرق الرقص الشعبيّ الفلسطينيّة، وهو يتلخّص بأن يحتلّ الراقص مساحة أكبر على المسرح، فيحلّق أعلى، كما تنتفض كتفاه ويداه بقطر كبير، بهامة مرفوعة، وبابتسامة تنمّ عن الشجاعة والصمود والفخر بالذات وبالهويّة.

عندما شاهدت هذه العروض المصوّرة للدبكة المحلّقة في المساحات العامّة لأوّل مرّة، تحمّست في البداية، وخاصّة أثناء المشاهدة الأوّليّة، لكن سرعان ما كان أثر المشاهدة يتهاوى بسرعة ثمّ يختفي... ربّما من شدّة الزحمة على بوّابة تعريف «مَنْ هو الضحيّة»؛ وبالتالي الابتذال الكبير الّذي أصبح يحيط بكلّ ما يتعلّق «بالفخر»، وخاصّة عندما نرغب في تسمية ما نراه فنًّا؛ فمن كثرة المقموعين وأجسادهم الفخورة، لم نعد نعرف مَنْ هو القامع صاحب النظرة المهيمنة، وخاصّة عندما يكون خطاب الفخر مباشرًا وفجًّا إلى تلك الدرجة، حيث تثبت التجارب البشريّة وقرون الممارسة الفنّيّة، أنّ المباشرة والشعاراتيّة هي عدوّة الأصالة الفنّيّة الأولى، يقترب هذا النمط من الممارسات الكرنفاليّة الّتي طرحتها في البداية، وإن كان لا يلامسها بحقّ، يأتي هذا التقارب من بعض الملامح المشتركة وإن ليس كلّها، أوّلها وأهمّها التعامل السطحيّ مع المكان الّذي تحدث فيه الممارسة، وعدم محاولة إظهار جروحه. ثانيًا، تلك المغالاة بالفخر والتحليق والفرح غير المبرّر، الّذي يتلخّص بالنهاية بمجرّد إفراغ طاقات، وتنفيس عن الذات، وبناء وعي مزيّف بالاستحواذ على الحيّز العامّ، وتمكين الذات، وتغيير المجتمع والسلطة؛ فهذا الشعور بالتحليق والسموّ هو ما لا يجعل شيئًا يتغيّر في الغداة.

 

فَقْء ندوب المكان

بدأت شادن أبو العسل مشوارها في الحيّز العامّ، مباشرة عبر تغيير نمط التحاور مع المكان وجراحه؛ فهي لم تنتظر لتصل إلى استنتاج ما؛ فمنذ عملها «في الطريق» (2018)، الّذي انطلق من أدراج  البلدة القديمة في الناصرة، مرورًا بوادي الصليب في حيفا ورام الله، وما إلى ذلك، كان فَقْء ندوب المكان، الّتي تكاد تتفجّر أصلًا، هو العنوان، بعيدًا عن فرض حضور أنثويّ في حيّز افترض البعض أنّه يرفض هذا الحضور، الّذي جاء طبيعيًّا جدًّا وسلسًا، في جدل نادر بين راقصات الفرقة والتاريخ والجغرافية والذاكرة والشيخوخة والوجع للمكان وجراحه النازفة، دون تحديد ماهيّة النظرة المهيمنة. وتواصل هذا التلاحم الحنون مع المكان، ووصل إلى جُذاه مع الثلاثيّة (2021)، الّتي تتكوّن من ثلاثة مقاطع مرتبطة بالمكان، أوّلها: «صدى»، في حيّ المنشيّة الّذي هُجِّر في نكبة 1948، ولاحقًا دُمِّر بالكامل وإن بقي بعض البقايا كالبئر الّتي وُظِّفت بذكاء في العرض.

وتواصل هذا التلاحم الحنون مع المكان، ووصل إلى جُذاه مع الثلاثيّة (2021)، الّتي تتكوّن من ثلاثة مقاطع مرتبطة بالمكان، أوّلها: «صدى»، في حيّ المنشيّة الّذي هُجِّر في نكبة 1948

لا يحاول عرض المنشيّة رَمْنَسَة المكان واستعراض «الجنّة المفقودة»، كما لا يحاول رَمْنَسَة الأجساد الراقصة وعرضها بأنّها أقوى من المحو والطمس، وأنّها فخورة على الرغم من الطمس؛ فذلك لا يؤدّي إلى أيّ مكان. في العرض ترتطم هشاشة المكان الّذي أصبح يُسَمّى «نَفيهْ تْسيدِكْ»، والّذي يمكن تقشيره بسهولة لتصدح أصوات المنشيّة، بهشاشة الأجساد الراقصة والوجوه الّتي تعبّر عن كلّ شيء، سوى البطولة في حواريّة بين المكان والأجساد تتبادل الوجع، والخسارة، والثغرات، والنزف، والعجز، والعبث... وينسحب ذلك أيضًا على المقطع الثاني «هذا المكان»، في البلدة القديمة في الناصرة، الّتي يسمّيها الناصريّون «السوق»، والّتي حلّت نكبتها من اتّجاهات مختلفة وملتبسة، قد لا تشبه أيّ مكان آخروهنا أيضًا تنتج هذه الحواريّة أسئلة عديدة ومركّبة حول هذا المكان، المنكوب بالجهل وبسطحيّة القائمين عليه، وسوء التخطيط لمستقبله.

اللافت في هذا العرض، أنّه لا يمكننا ادّعاء أنّ الراقصات، اللائي وُلِدْنَ في أغلبهنّ في نهاية التسعينات من القرن الماضي، يسعين حركيًّا وشعوريًّا إلى استعادة المكان؛ لأنّهنّ -غالبًا - لا يحملن حنينًا لطفولتهنّ في «السوق» الّذي انتهى أمره قبل ولادتهنّ بسنوات غير قليلة، كما لا يسعى العرض إلى إحياء «الفردوس المفقود» في المكان، بل بدلًا من ذلك تنطلق أسئلة تكاد تفتّت التراب العالق بين الأحجار الغليظة الّتي تحتلّها الرطوبة، وتكاد تفكّك النوستالجيا الّتي تحيط بالمكان وتشكّل بناءه الثقافيّ، لإعادة إنتاج هذا البناء من جديد، بأسئلة مثل: ما هذا المكان؟ وما علاقتي به؟ ماذا أفعل بهذا الجمال؟ ولماذا هو فارغ حتّى الموت؟ لماذا لا نهدمه كي نتخلّص من هموم هذا السؤال؟ تلك تساؤلات تناقض بشكل وجوديّ فكرة الكرنفال، بما أنّه لا سلطة/ نظرة مهيمنة نتبادل الأدوار معها في المنشيّة وسوق الناصرة، وذلك الملعب المتخيّل والبريختي [نسبةً لبريخت] في المقطع الثالث، الّذي يعتمد على المعجم الحركيّ في المقطعين الآخرين بعنوان: «نحن روحان حللنا بَدَنًا»، إلّا ربّما سلطة/ نظرة الموت!

 

 


راجي بطحيش

 

 

كاتب وناقد وباحث في الشأن الثقافيّ. من مواليد مدينة الناصرة. صدرت له عدّة أعمال في الشعر والسرد والنصوص النثريّة منذ عام 1998، من ضمنها: "العري وقصائد أخرى" (شعر، 2002)، "غرفة في تل أبيب" (قصص قصيرة، 2007)، "هنا كانت تلعب روزا" (نصوص، 2014). بالإضافة إلى مشاركته في أنطولوجيّات جماعيّة بلغات مختلفة.

 

 

التعليقات