11/12/2017 - 15:30

هَشّ: في قصص الكبار ذئب يأكل الصغار

هَشّ: في قصص الكبار ذئب يأكل الصغار

من المسرحيّة: الفنّان هندري أندراوس | عدسة خلود طنّوس

في مقابلة أُجريت مع المخرج بشّار مرقص، أحد مؤسّسي "مسرح خشبة"، قال إنّ عنوان موسم المسرح الثالث والحاليّ، "أشخاص غير مرئيّين"، جاء لرغبة المسرح "في تمثيل هؤلاء الأشخاص غير المرئيّين، للحديث عن أشخاص لم يُسلّط عليهم الضوء، وقصّ حكايات حيوات لم يعتلين الخشبة في المجتمع الفلسطينيّ". فالمسرح في طريقة عمله، كما أورد مرقص، يختار ثيمة سنويّة تقام من خلالها أنشطة الموسم. وضمن هذه الأنشطة، حلّ علينا عرض لممثّل واحد بعنوان "هَشّ - قصّة جسد تضخّم داخل غرفة ضيّقة".  

"هَشّ". علام يمكن أن نستدلّ من هذا اللفظ؟ أهو هَشّ بمعنى سهل الانكسار؟ أم بمعنى "إصمت" بالمحكيّة؟ (بعضهم يلفظه بضمّ الهاء، وبعضهم يلفظ بفتحها كما في الإنجليزيّة). هل يُقصد منه ما ورد في المعجم العربيّ: "هَشّ للمعروف - انشرح صدره فرحًا وسرورًا به"؟

ما من حاجة لترجيح معنًى على آخر، جميعها جائز في رأيي، كما سأطرح في قراءتي هذه للعرض، التي ستسند على مفاهيم ونظريّات تحليليّة نفسيّة.

يتكدّس لحمًا ودمًا

إحدى مآسي البطل، الذي لا اسم له، ولا عجب في ذلك، أنّه في حالة فائضة من مرئيّته، ومع هذا، فهو لا يُرى. في مونولوجه، يسائل الشابّ، الثلاثينيّ على الأرجح، نفسه؛ كم بلغ وزنه، فيجيب أنّه يبلغ أحيانًا 300 كيلوجرام. يبلغ المرء هذا الوزن إمّا لأسباب ومشاكل بيولوجيّة/ فيسيولوجيّة، وإمّا لأسباب نفسيّة ترتبط بعسر الهضم.

البطل هَشّ بقدر ما هو ثقيل، غير مرئيّ بقدر ما هو مرئيّ، يحيا بسبب الماضي ولأجله. الماضي لا ينهش عظامه كما يقال، إنّما يتراكم، يتكدّس لحمًا ودهنًا. يصبح الجسد ساحة خلفيّة وأماميّة لتراكم هذا الحدث عسير الهضم، فهو خشبة يؤدّي عليها الماضي دراميّته، فيكون الجوع بمعنييه، المجازيّ والحرفيّ، حالة مستمرّة، حالة تضوّر، ليس لانعدام ما يُشبعه، بل لأنّه لا وجود لآليّة تعمل على تحليل ما "يؤكل" (ذاكرة الصدمة) فيتضخّم الجسد لأنّ الإمكانيّة المتبقّية هي البلع، وما يُبلع لا يتحلّل ولا يُهضم، بل يلتحم.

"مش إسّة"

طرح المحلّل النفسيّ، كريستفور بولاس، مصطلح "The unthought known"، وأقترح أن يقابله بالعربيّة "المعروف غير المدرك"، وهو ما يمكن نسبته، بلغة مبسّطة، إلى أحداث صدماتيّة معروفة للشخص، لكن يصعب عليه إدراكها والتفكير بها. فهي، بعبارة أخرى، ذاكرة صدماتيّة لم تمرّ بعمليّة معالجة.

ما صلة هذا بـ عرض "هَشّ" وبطله؟

يعلو البطل الخشبة متقدّمًا نحو مجلسه بخطاه الثقيلة، وأنفاسه المتقطّعة، ممسكًا بطبق عليه حزمة كبيرة من الموز ناويًا الإقدام على أكلها. لكن عند جلوسه، يراوده شعور بالذنب، ثمّ تبدأ مساءلة مشروعيّة أكل الموز.

يحاول جاهدًا تجنّب ذلك، إذ تنشأ علاقة إغواء بين البطل والموز. وفي لحظة ما، يقرّر البطل ترك الطبق: "مش إسّة" (ليس الآن)، وفي هذه النقطة تبدأ القصّة، كأنّه يقول لنا، "مش إسّة"، ليس قبل أن أعرض لكم حكايتي.

فالوسيّة

لطالما أشارت فاكهة الموز في الأدب، والسينما، وغيرهما، إلى القضيب/ الفالوس، إلى درجة أنّه قد يُعَدّ عند البعض الترميز الأفضل له. ماذا يعني أن يكون للبطل شهيّة كهذه تجاه الموز بخاصّة؟ ماذا يعني أن تكون إكسسوارات المسرحيّة (props) أيضًا على هذه الهيئة الفالوسيّة؟ أوان، جرّات زجاجيّة، تُحفظ بها ذكريّات ومخلّفات ذاكرة سعيدة حُفظت بالتجميد. الحاويات القضيبيّة تغلّف الذاكرة.

يتناول البطل إحدى الزجاجات، يخرج منها زوج ملاعق، يشغّل فيديو مصوّرًا لطفل يرقص بالمعلقتين نفسيهما، ثمّ يؤدّي البطل الرقصة ذاتها، محاولًا نسخ حركات الولد الذي كانه بدقّة، واستحضار اللحظات السعيدة نفسها. ثمّ تعلق رقصة الطفل، ويتجمّد الفيديو والطفل داخله. هذه في رأيي أقوى لحظات ومشاهد العرض، نصًّا، وإخراجًا، وأداءً. أمامنا مشهد مركّب على المستوى العاطفيّ، إذ يمزج بين لحظات الطفولة البريئة والسعيدة، وانقطاعها. بطلنا في الحاضر يعاني من ألم الوحدة، وحرقة الجوع، وعذاب الخوف المستمرّ. إنّ الحياة كما عرفها البطل، توقّفت في هذه النقطة من الماضي، كما يُشار من خلال الفيديو المصوّر، وتلك الزجاجات حافظة الذكريات.

في قصص الكبار

مَنْ ذاك الذئب الذي يخافه بطلنا؟ ماذا فعل الذئب بطفلنا الذي دُفن عميقًا داخل جدران جسده، فراح يتضخّم مع تقدّم الوقت الميكانيكيّ، وليس الزمن؟ وفي أيّ غابة حصل هذا الحدث؟ أهي غابة البيت؟ إذًا، نحن أمام رمزين إضافيّين، الغابة والذئب، وهما يحويان دلالات الخطر والجنس. تقتبس المسرحيّة قصيدة "الذئب" للشاعر أنسي الحاجّ في الدقائق الأخيرة من العرض:

في قصص الكبار للصغارْ

ذئبٌ يكون دائمًا

وراء أحجارْ

وراء أسفارْ

وراء أشجارْ

وراء بستانٍ من الأزهارْ.

...

ويهجم الذئبُ

في قصص الكبارْ

ليأكل الصغارْ.

...

وذهب الكبارْ

وأقبل الصغارْ

وذهب الصغارْ.

...

ويوم لم يعدْ

يأكلني الذئب لكي أنامْ

بكيت عشرين سنةْ

ومتّ من شوقي إليكْ

يا ذئب

من شوقي إليكْ!

يتحدّّث أنسي الحاجّ هنا عن شوق إلى الذئب الذي كان "يأكله". كيف لنا أن ننظر إلى هذه العلاقة غير التقليديّة مع الذئب؟ كيف نفهم التقاء التوق والخوف في آن؟

 بإمكاننا، في رأيي، النظر إلى هذه القصيدة من خلال ما أسماه المحلّل النفسيّ فيرينسي، الذي عمل في حقبة فرويد، بـ "ارتباك الألسنة بين الكبار والطفل"  ((Confusion of tongues between adults and the child، فالكبار يتحدّثون بلغة الشبق، والأطفال يتحدّثون بلغة الحنوّ والرقّة.

وفي سياق الاعتداءات الجنسيّة، والصدمة في الطفولة المبكرة، يقول فيرينسي "إنّ الطفل والبالغ يحبان بعضهما. يحمل الطفل فانتازيا في اللعب مع الشخص البالغ، وبإمكان حالة اللعب هذه أن تأخذ طابعًا إيروسيًّا، لكنّها تبقى ضمن منطقة الرقّة والحنوّ. لكن، ليس الأمر كذلك مع الكبار ذوي النزعات المرضيّة، فهم يخلطون بين لعب/ لهو الطفل ورغبات وأمنيات جنسيّة. يسمحون لأنفسهم بالانزلاق إلى أفعال جنسيّة من دون احتساب العواقب".

وهنا، في القصيدة، نلحظ كيف لقصص الكبار، أن يهجم منها الذئب ليأكل الصغار، من وراء الأشجار وبستان الأزهار. فمن خلال قراءة فيرينسيّة، يمكن القول: من وراء كلام الكبار الجميل هذا، سوف يخرج ذئب ويعنّف الصغار جنسيًّا. توظيف هذه القصيدة في الدراما الداخليّة ممتازة ودقيقة إلى حدّ بعيد في رأيي، ومؤلم للغاية.

ضوء خافت

لكن، يحاول العمل أن ينتشل بطله من مأساته، فـ "المعروف غير المدرك"، يمرّ خلال تقدّم العرض، بقليل من المعالجة (معالجة بسيطة بالكاد تذكر)، فالوسادة التي تُخرس البطل وتمنعه من سرد الصدمة أو إعطائها اسمًا، أو إسماعها، تتحوّل إلى دمية أنثى، شاهدة داخليّة على الصدمة؛ يرقص معها ويحكي لها قصّته.

بحساسيّة بالغة، سلّط العرض الضوء "الخافت" على فئة غير مرئيّة من المجتمعات كلّها، لا الفلسطينيّ فقط، الأطفال الذين يعانون من إرهاب الكبار.

كان هذا العمل جميلًا وموجعًا، وهو إنتاج موفّق للمسرح، إخراجًا وأداءً.

.........................................

بطاقة العمل:

درامتورجيا وإخراج: بشّار مرقص.

تمثيل: هنري أندراوس.

سينوغرافيا: مجدلة خوري.

تصميم حركة: سماء واكيم.

برمجة: نهاد عويدات.

تصميم إضاءة: فراس طرابشة.

ترجمة للإنجليزيّة : كاترينا هلس.

إنتاج: مسرح خشبة.

 

تمارا ناصر

 

دارسة للأدب الإنجليزيّ، والسينما، وعلم النفس. حاصلة على شهادة علاجيّة ولقب ثانٍ من جامعة حيفا في البيبليوترابيا - العلاج بالقصّة، والقراءة، والكتابة.

التعليقات