17/05/2019 - 16:24

"صاحب الكرمل": سؤال الأنْسَنَة والسذْجَنَة

عامر حليحل وخولة إبراهيم في "صاحب الكرمل" | بلطف عن وفا - محمّد نوفل

 

أنْسَنَة

"الأنْسَنَة" مصطلح نستخدمه في كثير من الأحيان، متى أردنا وصف تناول أو تقديم شخصيّة ما بالتركيز على خصائصها الذاتيّة؛ وجدانها وتفاصيل حياتها اليوميّة، ولا سيّما إن كانت صاحبة رأسمال رمزيّ بالنسبة إلى جماعة ثقافيّة محدّدة؛ فنقول "أنْسَنَة القائد"، أو "أنْسَنَة الشهيد"، أو "أنْسَنَة المثقّف"، ودون ذلك، حتّى "أنْسَنَة العدوّ"، قاصدين بهذا المصطلح عمليّة نزع الشخصيّة "المؤنْسَنَة" من تأطيرها النمطيّ، بغضّ النظر عن نوعه، إذ يمكن أن يكون تأطيرًا عسكريًّا أو سياسيًّا أو دينيًّا أو فنّيًّا أو أكاديميًّا، أو غير ذلك.

و"الأنْسَنَة" بصفتها تحويرًا للنمط، أو كسرًا له، تقنيّة تسويقيّة جاذبة؛ كم مرّة شاهدنا فيديو بعنوان "الرئيس فلان يرقص في..."؟ أو "مذيعة قناة كذا تبكي على الهواء"؟ إنّها إعادة تقديم الشخصيّة بعيدًا عن نمطيّة الدور والصورة المتوقّعة والمألوفة، وثمّة منابر وبرامج ومبادرات تقوم بأكملها على مبدأ تعقّب المشاهير - مثلًا - بعيدًا عن النمط. وهذا المبحث يمكن الخوض فيه عبر ما توفّره نظريّة التلقّي أو الاستقبال من منهجيّات وأدوات.[1]

 

 

لست هنا بصدد مناقشة مدى دقّة وعلميّة استخدامنا مصطلح "الأنْسَنَة" على هذا النحو، ولا سيّما أنّه يُجْعَلُ ضدًّا لما هو رمزيّ/ قداسيّ/ رومانطيقيّ/ ما ورائيّ... إلخ، وكأنّ هذه الخصائص ليست من الإنسان وفيه، وكأنّه ليس هو صانعها؛[2] لذا سأتواطأ في هذه المقالة مع المعنى المألوف والشائع لاستخدام هذا المصطلح في أنماط الكلام العربيّة المختلفة، في زماننا، قاصدًا منه عمليّة تحوير النمط، أو كسره، في تقديم شخصيّة ما ذات رأسمال رمزيّ.

وللإيضاح أكثر؛ لو تناولنا عددًا من الأعمال السينمائيّة والتلفزيونيّة حول صلاح الدين الأيّوبيّ مثلًا، بصفته شخصيّة ذات رأسمال رمزيّ في التراث العربيّ الإسلاميّ، والعالميّ أيضًا، لوجدنا عددًا منها نجح نجاحًا كبيرًا في الموازنة بين ما هو "رمزيّ/ قداسيّ" وما هو "إنسانيّ" في تقديم الشخصيّة ورسم ملامحها، مع ضرورة الانتباه إلى عمليّات انتقاء المادّة التاريخيّة وصياغتها وتحويرها، بما يتلاءم مع أغراض صنّاع كلّ عمل ومقولاتهم القيميّة والفنّيّة؛ مثال ذلك فيلم "الناصر صلاح الدين" (1963) ليوسف شاهين، ومسلسل "صلاح الدين الأيّوبيّ" (2001) لحاتم علي، وفيلم "مملكة السماء" (2005) لريدلي سكوت.

 

إهمال "الرمزيّة"

تُعَدّ "الأنْسَنَة" واحدة من الأدوات المركزيّة الّتي اعتمدها صنّاع "صاحب الكرمل" (2019) – وهو عمل مسرحيّ من كتابة عامر حليحل وأدائه المركزيّ، وإخراج نزار زعبي، يتناول سيرة "صحيفة الكرمل" وصاحبيها، نجيب نصّار وساذج بهائي – في منطق إنتاجهم له، وتحديدًا في مستوى تقديم الشخصيّات ورسم عوالمها على الخشبة؛ وقد بدا ذلك جليًّا في تشكّل العلاقات بين الشخصيّات وتطوّرها، والموضوعات الّتي تتضمّنها حواراتها، وتعبيراتها الجسديّة، وصياغاتها الكلاميّة، وانفعالاتها، واتّخاذها للمواقف؛ ثمّة محاولة للانشغال بما هو حميميّ وعفويّ ويوميّ، لكنّ التقريريّة سرعان ما ستباغت هذا الانشغال، كتقديم ساذج معلومات جافّة حول مكانة زوجها نجيب الرسميّة، وهو في سرير موته تحديدًا!

هذا التوجّه "المؤنْسِن" بلغ حليحل ذروته في تقديم شخصيّة طه محمّد علي، عبر عمله المونودراميّ "طه" (2014)، حيث لا مسافة بين الشاعر والإنسان؛ فكان التوازن مقنعًا ومتقنًا حدّ الدهشة بين ما هو "رمزيّ/ قداسيّ..." من جهة، متمثّلًا بطه الشاعر، وما هو "إنسانيّ"، متمثّلًا بطه الّذي يشبهنا جميعًا في تفاصيل حياته اليوميّة من جهة ثانية.

وإن كانت "الأنْسَنَة"، بصفتها خيارًا فنّيًّا، تأتي في الأغلب ردًّا ثقافيًّا على نمطيّةٍ أو أحاديّةٍ أو مألوفيّةٍ ما في صناعة الصورة، فإنّها في "صاحب الكرمل" لم تأت ردًّا على أيّ من ذلك؛ فالشخصيّات المتناولة ليس حضورها في المشهد الإبداعيّ الفلسطينيّ - بمختلف حقوله –حضورًا ملموسًا يُذكر، ليؤدّي بالتالي إلى نمط من نوع معيّن، وهي ليست ذات شهرة وشعبيّة أو حضور مركزيّ في ثقافة جمعيّة ما، باستثناء شخصيّة مصطفى وهبي التلّ، عرار، إذ هي كذلك في السياق الأردنيّ، لأسباب تتعلّق بالصناعة المؤسّساتيّة للهويّة الأردنيّة الحديثة؛ فعرار في هذه الصناعة "شاعر الأردنّ الأوّل". أمّا شخصيّات العمل الأخرى: نجيب نصّار، وزوجته ساذج، وشقيقه رشيد، فحضورها لا يتجاوز الأطر والإنتاجات الأكاديميّة والأرشيفيّة والتدريسيّة، وهنا تكمن إشكاليّة العمل الأساسيّة في مستوى تقديم الشخصيّات؛ فثمّة إفراط في "الأنْسَنَة" (تحوير/ كسر النمط) مقابل إهمال كبير لمسألة إيضاح "الرمزيّة" (النمط)؛ وقد يكون مردّ ذلك عدم القراءة الدقيقة لقيمة وخطورة الصناعة الصحافيّة في فلسطين قبل النكبة، ولشخصيّتي نجيب نصّار وساذج بهائي ودورهما في هذا الحقل تحديدًا، وحقول أخرى متعدّدة لا تقلّ عنه أهمّيّة، ولقصور ربّما في الإدراك الحسّيّ  - بأدوات التصوّر - لما كان قائمًا قبل النكبة، ونُكِب.

 

غربة

مَنْ يقصد عرض "صاحب الكرمل" وهو مطّلع على مصادر مركزيّة تتناول الصناعة الصحافيّة قبل النكبة، وتاريخ الأدب الفلسطينيّ، وتاريخ الحركة الصهيونيّة وصراع حركة التحرّر الوطنيّ العربيّة معها، وتاريخ الحركة النسائيّة الفلسطينيّة، وتاريخ العمل الحزبيّ الفلسطينيّ، والتاريخ الاجتماعيّ والثقافيّ لفلسطين، وتحديدًا المصادر المتعلّقة مباشرة بشخصيّتي نجيب نصّار وساذج بهائي، بالإضافة إلى أعداد "الكرمل" وأخواتها على مدار ثلاثة عقود من صدورها تقريبًا، مَنْ يقصد العرض وهو متزوّد بشيء من ذلك، سيشعر بغربة إزاء السياق الموصوف، وكذلك الشخصيّات وعوالمها المتشكّلة على الخشبة: ليس نجيب نصّار، "أبو فلسطين" و"شيخ الصحافة الفلسطينيّة" وأحد أهمّ روّاد الحداثة العربيّة والفلسطينيّة، وليست زوجته وشريكته في كلّ ذلك، ساذج بهائي، وليس معهما مصطفي وهبي التلّ (عرار)، ليسوا جميعًا بهذه السذاجة أبدًا!

 

 

يمكن الاطّلاع على رواية "مفلح الغسّاني"،[3] الّتي نشرها نصّار في حلقات عبر "الكرمل"، بصفتها عملًا سرديًّا ينتمي إلى السيرة الذاتيّة، وقد أعاد نشرها وقدّم لها حنّا أبو حنّا عام 1981، أو الدراسة الّتي كتبها فيصل درّاج في مجلّة "الكرمل" الحديثة،[4] عن نصّار، كنموذجين لتلك المصادر، ليكون التساؤل بعدها عن الخفّة في تقديم الشخصيّات ومواقفها وصراعاتها، وتبسيط كلامها حدّ التسطيح أحيانًا، باستثناء المشاهد المونولوجيّة الّتي يبوح خلالها نجيب نصّار (عامر حليحل) بمكنونات نفسه وصراعاته الداخليّة خلال أسره، وكذلك وهو على فراش موته؛ فلدى حليحل طاقة حكائيّة جماليّة نادرة بين مجايليه من ممثّلين فلسطينيّين، يمكنها أن تعوّض عن أيّ خلل أو ضعف في بنية عمل مسرحيّ يكون حاضرًا فيه.

 

قفز

لقد تجاهل صنّاع "صاحب الكرمل" في عملهم، حقيقة مجهوليّة الصناعة الصحافيّة في فلسطين قبل النكبة، سوى لدى المتخصّصين والمهتمّين، وكذلك مجهوليّة نجيب نصّار وساذج بهائي، وسمحوا لأنفسهم مباشرة ودون مقدّمات، بالقفز عن إيضاح "الرمزيّة" (النمط) نحو "الأنْسَنَة" (تحوير/ كسر النمط)، وانحازوا للثانية على حساب الأولى بشكل كبير، مكتفين بتعريفات تقريريّة حول السياق والشخصيّات، تُقدّم عبر الشخصيّات نفسها، مثل أن نعرف مَنْ هو مصطفى وهبي التلّ (عرار) من خلال جمل تعريفيّة قليلة على لسان نجيب، لبيان قيمة وأهمّيّة الثاني عبر قيمة وأهمّيّة زائره في مقرّ صحيفته؛ وقد بدا كلام الشخصيّات في مثل هذه الحالات وظيفيًّا مقحمًا على ألسنتها بفعل كاتب النصّ، كما لا تتضمّن هذه التعريفات ما هو ضروريّ ومُلحّ حول نجيب وساذج، فتتأكّد "أهمّيّتهما" عبر توضيح قيمتهما الفعليّة وخطورة دورهما في زمنهما، ما يجعلهما دون غيرهما سبب وجود هذا العمل المسرحيّ، لتكون "أنْسَنَتهما" بالتالي ذات مبرّر مقنع تاريخيًّا وفنّيًّا؛ لماذا "الكرمل" وصاحباها نصّار وساذج تحديدًا، وليست أيّ صحيفة أو مجلّة أخرى ممّا كان يصدر قبل النكبة، ومنها ما لا يقلّ أهمّيّة عن "الكرمل"، مثل "فلسطين" و"الدفاع"؟[5]

ولأنّ "الرمزيّة" لم تحصل على حقّها في العمل، فإنّها لم تُشْعَر في تكوين الشخصيّات النفسيّ، أو في تعبيراتها الجسديّة واللغويّة، ولا في سلوكاتها الاجتماعيّة. لقد أخفق العمل في تحقيق صدقيّة "الأنْسَنَة" عبر سجالها مع "الرمزيّة"؛ إذ إنّ شرط تحقّق هذه الصدقيّة وضمان مفعوليّتها، مرتبط إلى حدّ بعيد بالسجال بين "النمط" و"تحوير/ كسر النمط"، ولو حصل هذا القُصور في تناول شخصيّات ذات حضور واسع ومكرّس في المشهد المعرفيّ والإبداعيّ الفلسطينيّ، كمحمود درويش، وغسّان كنفاني، وناجي العلي، تمثيلًا لا حصرًا، لما كان استشعار هذا القفز فجًّا على هذا النحو؛ فما توقّع منتجو العمل أنّه "نمط" يصلح للتحوير أو الكسر في حالة نصّار وبهائي، ليس في الحقيقة قائمًا وشائعًا قبل العرض وحوله في السياق الفلسطينيّ العامّ، ولم يجتهد العرض كثيرًا في صناعته وتقديمه، بل ورغم عدم حضوره، كان القفز "بالأنْسَنَة" عنه افتراضيًّا؛ فهل يمكن أن يُقفز عمّا هو غير قائم أصلًا لدى عموم المتلقّين؟

وما كان ليُلتفت إلى هذه المسألة في العمل، بصفتها قرارًا في الصناعة الفنّيّة، لو كانت الشخصيّة المتناولة من اختراع صنّاع العمل، أو هجينةً بين ما هو واقعيّ ومُفترض، أو مستعارةً من حقبة معيّنة بهدف خلق ما هو بديل استنادًا إلى خصائص مركزيّة لدى الشخصيّة المستعارة؛ إلّا أنّ صنّاع العمل يطرحونه جزءًا من مشروع "مسرحة أرشيف الثقافة الفلسطينيّة"، وفي هذا قدر كافٍ من المحدّدات الهويّاتيّة والمرجعيّة، لإدراك أنّ هذا العمل يقع في إطار ما هو تاريخيّ ضمن ما هو هويّاتيّ، أي سياسيّ، وأنا ممّن يؤمنون أنّ الصناعة الإبداعيّة فعل سياسيّ بصفته مصمّمًا للذائقة والوعي والموقف. بالإضافة إلى أنّ العمل كلاسيكيّ البنية، وليس تجريبيًّا.

 

سَذْجَنَة[6]

لقد استطاع الثنائيّ حليحل وزعبي تحقيق التوازن بين "النمط" و"تحوير/ كسر النمط"، عبر السجال بينهما، في عمل سابق مشترك يستند إلى التاريخ، ألا وهو "قناديل ملك الجليل" (2016)، الّذي يتناول سيرة ظاهر العمر الزيداني؛ فهو صاحب رأسمال رمزيّ بصفته الحاكم الأوّل شبه المستقلّ لفلسطين عن السلطنة العثمانيّة (سلطة)، وثمّة اهتمام متزايد به في السنوات الأخيرة عبر إنتاجات عدّة، في إطار تأريخ الفلسطينيّين لأنفسهم. ومن قلب صفته/ الإطار هذه، تنبثق خصائص ذاتيّة، وجدانيّة ويوميّة (إنسان)؛ صراعات ومشاعر متضاربة، ولحظات ضعف وانكسار، ولا بطولة.

 

 

أمّا في هذا العمل، "صاحب الكرمل"، فلم يكتف هذا الثنائيّ بأن أفرطا في استخدام أداة "الأنْسَنَة" على حساب "الرمزيّة"، فخلخلا التوازن المطلوب، بل ذهبا أبعد من ذلك نحو "السذْجَنَة"؛ الحبكة تتحرّك بسهولة وخفّة وعبر انتقالات سريعة غير مقنعة في مشاهد عديدة؛ حتّى مسار تشكّل علاقة الحبّ بين نصّار وساذج وقرارهما أن يرتبطا، حصل بعيدًا عن أيّ تعقيد أو تحدّيات تصيب المتلقّي بأيّ نوع من التوتّر والاضطراب؛ لقد نتج الأمر عن إقبال من طرف واحد - ساذج، يُواجَهُ بأسئلة استفهاميّة، لا وجدانيّة ووجوديّة، من الطرف الآخر – نجيب، وعبر أداء خطابيّ ينشغل باللفظ المنطوق على حساب المعنى الساكن، بل اتّسمت العلاقة بين نجيب وساذج طوال المسرحيّة بالتبعيّة: ساذج شخصيّة ثانويّة نسبيًّا على الخشبة في خدمة مركزيّة "صاحب الكرمل"، أمّا هي فليست صاحب(ةً) "للكرمل" وأشياء أخرى عديدة غير الصحيفة، بل إنّها ستكون سبب "دخولي التاريخ إن لم تكن ’الكرمل‘ مَنْ سيدخلني التاريخ"، كما جاء على لسان زوجها في العمل المسرحيّ، أي هي جسر عبور وأداة دخولٍ للتاريخ؛ فلماذا هذا الخيار؟ وهل هذا يعكس حقيقة الخصائص الجماعيّة والمؤسّساتيّة في عمل وإنتاج نجيب وساذج الحقيقيّين، وسماتهما الشخصيّة، كما تبيّن المصادر؟

 

صورة الصناعة الصحافيّة في فلسطين

لقد انسحبت هذه "السذْجَنَة" على تقديم صورة الصناعة الصحافيّة في فلسطين قبل النكبة، فظهرت بعيدة كثيرًا عن واقع هذه الصناعة، بضخامتها وتعقيدها وتنوّعها الغنيّ واكتظاظها بالتحدّيات والصراعات والنجاحات والإخفاقات، حيث شهدت فلسطين بين عامي 1900 و1948، صدور قرابة 250 صحيفة ومجلّة ودوريّة باللغة العربيّة، سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة وثقافيّة وزراعيّة واقتصاديّة وصناعيّة وهَزْليّة، مصوّرة وغير مصوّرة، ومنها ما هو سرّيّ، وكان لهذه الصناعة الدور الأبرز في تشكّل الوعي الوطنيّ الفلسطينيّ الحديث، ومواجهة الاستبداد العثمانيّ، والاستعمار البريطانيّ، والمشروع الصهيونيّ، والفساد الإقطاعيّ والعائليّ، وهذه الجهات جميعًا بدورها، كانت لها منابرها المناهضة لمعارضيها والمحرّضة عليهم.[7]

وهنا يمكن القول إنّ هذا العمل فوّت فرصة مواتية، بصفته الإنتاج المسرحيّ الأوّل الّذي يتناول الصناعة الصحافيّة عبر "الكرمل"، نحو تصوير هذا الحقل بجماليّة مقنعة، ونحو تأكيد تعريفه لنفسه جزءًا من مشروع كبير: "مسرحة أرشيف الثقافة الفلسطينيّة".

حتّى سينوغرافيًّا، لم يستفد العمل من الإمكانيّات المهولة الممكنة الّتي يوفّرها اليوم أرشيف الحياة الفلسطينيّة قبل النكبة، ومن ضمنه أرشيف الصحافة، الّذي شهد خلال سنوات قليلة ماضية قفزةً ملموسة بسبب عدّة مشاريع فلسطينيّة وإسرائيليّة توثيقيّة، مؤسّساتيّة وخاصّة؛[8] علمًا أنّه عمل من المفترض أن يستند إلى الأرشيف، وقد فعل، لكن باستسهال؛ فنحن بالكاد استطعنا أن نظفر بعنوان أو نصّ من "الكرمل" من المعروضة على الشاشة، علمًا أنّ عرضها كان خيارًا فنّيًّا سهلًا للانتقال من مشهد إلى آخر، حتّى بعض التواريخ الّتي بدت ضروريّة للمخرج من أجل بيان الفترة المُتَناولة في المشهد العينيّ، غلب عليها الشواش، كما أنّ الجسم الحديديّ الضخم وسط الخشبة، ذا اللفافات الورقيّة البيضاء، المجسّد للمطبعة، ظلّ ثابتًا طوال العمل، لا يُستفاد من وجوه فنّيًّا سوى في مشهد واحد مونولوجيّ لعامر حليحل، يمثّل عبر دورانه السريع حالة الصراع لدى الشخصيّة المركزيّة، نجيب نصّار، خلال اعتقاله لدى السلطات العثمانيّة، ودون ذلك فبعض الطرْقِ على المعدن للتعبير عن الغضب، وصعود للشخصيّة المركزيّة على المطبعة خلال حوارين مع الشخصيّات، مثل حوارها المحتدم مع زائرها، مصطفى وهبي التلّ؛ تُرى ما الحاجة إلى كلّ هذا البذخ المعدنيّ وسط الخشبة، دون الاستفادة منه فنّيًّا؟ وإن صحّ قياس المسرح على البلاغة، بصفتيهما حقلي "شعريّة" (بمفهوم رومان ياكبسون)، فهذا حشو وإطناب سينوغرافيّ.

كما أنّ الطريقة المتخيّلة لدى صنّاع العمل المسرحيّ للصناعة الصحافيّة قبل النكبة، في كتابة الخبر الصحافيّ أو الإعلان أو الردّ على الرسائل، وإملال المحرّر النصوص على "الكاتبة" ساذج، بدا أوّليًّا وبسيطًا جدًّا وغير مهنيّ، بما يتناقص مع المعلومات التقريريّة الّتي يقدّمها العمل نفسه حول شخصيّة نجيب، الّذي تستقبل مقالاته أهمُّ صحف الوطن العربيّ، والّذي تؤرّق صحيفته الحركة الصهيونيّة، والعثمانيّين، والإنجليز، والأمير عبد الله، وأعيان فلسطين، مثل الحاجّ أمين الحسيني، والّذي يستطيع أن يفتتح صحفًا بأسماء مختلفة إذا أُغلقت صحيفته لأسباب سياسيّة، وهو ما يتناقض أيضًا مع المعلومات الّتي يقدّمها العمل عن ساذج، الّتي شاركت في الفعل التنظيميّ السياسيّ النسويّ، بل والمسلّح أيضًا، بالإضافة إلى دورها الصحافيّ.

وهذه "السذْجَنَة" في تقديم السياق عبر السينوغرافيا، ليس متوقّعًا من شخص مثل نزار زعبي، صاحب مسرحيّة "مَنْ قتل أسمهان؟" مثلًا؛ فقد كانت جماليّة وحرفيّة سينوغرافيا هذا العمل متلائمةً مع عناصر بيئة الشخصيّة وزمانها، على عكس ما هو حاصل في "صاحب الكرمل"، علمًا أنّ كلا العملين ينتميان إلى نفس الحقبة الزمنيّة والظروف الحضريّة؛ فلماذا بدا كلّ هذا التفاوت في تقديم العملين سينوغرافيًّا؟ كأنّ حيفا الثلاثينات شيء، وإسكندريّة الثلاثينات شيء آخر، وأسمهان تمرّ بالقطار عبر فلسطين، وتحديدًا حيفا، ونجيب يكتب في صحف مصر ويحاور مثقّفيها وساذج تشارك في مؤتمراتها، والإنجليز يحكمون البلدين؟

 

إدراك ما نُكِب

أكتب هذا وأنا مدرك لظاهرة شائعة في أوساط فلسطينيّة عديدة، إذ يُتناول ما هو قبل النكبة برومانسيّة ونوستالجيّة، وهذا حقّ للفلسطينيّ بالمناسبة؛ فليس من المفترض أن يخضع كلّ شيء إلى العقْلَنَة المفرطة، فنحن كائنات روحانيّة، من لحم ودم، ومن حقّنا صناعة أساطيرنا الجمعيّة، لكنّني في الوقت نفسه ألاحظ خللًا ما في قدرة الجماعة الفلسطينيّة على الإدراك الحسّيّ للنكبة وما نُكِب، لأنّه لم يُتَحْ لها على ما يبدو استيعاب القيمة الحقيقيّة لما كان وما لم يعد موجودًا، أي ما مُحي وسُرِق، ولا سيّما أنّ الماكينة الاستعماريّة لا تكفّ عن بثّ وتكريس ادّعاء أنّ فلسطين كانت خواءً وخرابًا، مستغلّة غياب الموادّ الأرشيفيّة الكافية لمواجهة هذا الادّعاء في سياق صراع الرواية/ الحكاية؛ ولهذا لا استغراب من أنّ التجلّيات المعبّرة عن النكبة وما نُكِب، تحصر نفسها غالبًا في الجوانب الفولوكلوريّة، وقليلة هي الإنتاجات الإبداعيّة الّتي تتناولهما وتقدّمهما على نحو قريب ممّا كان فعلًا، ولعلّ أبرز هذه الإنتاجات، "التغريبة الفلسطينيّة" (2004) (نصّ وليد سيف وإخراج حاتم علي).

 

 

لقد ساهمت النخب السياسيّة الفلسطينيّة، وكذلك الأكاديميّة، في تقديم صورة مشوّشة ومضطربة عن فلسطين ما قبل النكبة؛ فالفصائل والأحزاب راحت تكتب التاريخ من لحظة بدئها هي بالعمل السياسيّ والمقاوم - لهذا يشيع مثلًا أنّ انطلاق الثورة عام 1965، وكأنّ ثورة 1936 – 1939 لا تستحقّ أن تكون صاحبة هذه الصفة - أمّا الباحثون، فقد انشغلوا – بعامّة - بالنخب والأعيان والتاريخ السياسيّ والعسكريّ، وأهملوا الجوانب الاجتماعيّة والثقافيّة، وهذا انسحب على كثير من الإنتاجات والمبادرات الإبداعيّة، في الغناء والسينما والمسرح والأدب والفنون التشكيليّة وغيرها.

أمّا هنا، فقد كان متوقّعًا من إنتاج فنّيّ يعتمد على الأرشيف والبحث التاريخيّ، ويقع ضمن مشروع "مسرحة أرشيف الثقافة الفلسطينيّة"، استثمار القفزة الأرشيفيّة والبحثيّة في زماننا، الّتي اجتهدت شخصيّات وجهات عديدة لإنجازها، وساهمت في تصحيح ما كان سائدًا على مدار عقود من منهجيّة في تناول النكبة وما نُكِب؛ لكنّ العمل لم يحقّق المتوقّع منه، بل هو ارتداد إلى مرحلة ما قبل "إذ قال يوسف" (2009) المتناولة لهذه الثيمة، وهي أيضًا للثنائيّ زعبي وحليحل.

ربّما أراد صنّاع العمل تجنّب الوقوع في فخّ الوقوف على الأطلال، وأن يقدّموا مقولة فنّيّة ناقدة لما هو رومانسيّ ونوستالجيّ... أن يضعوا مرآة فنّيّة تعتمد على تاريخنا أمامنا، نرى فيها مكامن ضعفنا وقصورنا وبشاعتنا، وأنّ الاستعمار والصهيونيّة ليسا السبب الوحيد في نكبتنا، وهذا حقّهم، وهذا ما كان فعلًا، إلّا أنّهم فنّيًّا، قدّموا بطولةً مهزومةً منذ البداية، وعلى طول العمل، من دون أن يمنحوا "للكرمل" وصاحبيها، لا صاحبها، حقّ تأثيث هذه البطولة والدفاع عنها، الّتي هي أيضًا، كانت حقًّا قائمة، ولهذا ما زال الفلسطينيّون أحياء يقاومون، ولم يعلنوا الهزيمة بعد، ولهذا كادت إسرائيل القائمة قبل قيامها عام 1948،[9] أن تخسر أكبر موسم سياحيّ وترويجيّ لنفسها عبر الفنّ في تاريخها، فقط قبل أيّام قليلة، "الأورفيزيون"!

...................

 

[1] انظر: روبرت هولاب، نظريّة التلقّي – مقدّمة نظريّة، ترجمة خالد التوزاني والجيلالي الكدية (منشورات علامات، 1999).

[2] حول مصطلح "الأنْسَنَة" وعلاقته بنزع القداسة، انظر مثلًا: سعيد عبيدي، "الأنسنة وفكّ الارتباط بالمقدّس في فكر محمّد أركون"، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 08/05/2017، شوهد في: 12/05/2019، في: https://bit.ly/2Q6T8R3

[3] انظر: نجيب نصّار، رواية مفلح الغسّاني أو صفحة من صفحات الحرب العالميّة، إعداد وتقديم حنّا أبو حنّا (الناصرة، دار الصوت، 1981).

[4] انظر: فيصل درّاج، "نجيب نصّار – الصحافيّ المقاتل الّذي انتظر هزيمته"، مجلّة الكرمل، العدد 66 (2001)، ص 150 – 168.

[5] للاطّلاع على جانب من هذا الدور، انظر مثلًا: رامي منصور، "أبو فلسطين: نجيب نصّار صانعًا للحداثة المنكوبة"، فُسْحَة – عرب 48، 15/05/2019، شوهد في 15/05/2019، في: https://bit.ly/2Hlz4aJ

[6] أقصد بلفظ "السَذْجَنَة" العمليّات والتقنيّات المؤدّية إلى تشكيل ما هو ساذج، لبساطته أو طيبته أو عفويّته أو أوّليّته، أو كلّها مجتمعة؛ ولأنّني لم أجد هذا الاستخدام في عدد من المعاجم المعاصرة، ولا محرّكات البحث في شبكة الإنترنت، وجدت من المناسب توضيح القصد منه.

[7] انظر، مثلًا: عايدة النجّار، صحافة فلسطين والحركة الوطنيّة في نصف قرن 1900 – 1948، ط1 (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2005).

[8] انظر، مثلًا: جرايد – أرشيف الصحف العربيّة من فلسطين العثمانيّة والانتدابيّة، المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة، https://bit.ly/2JnmbPZ

[9] انظر: فادي عاصلة، "قيام إسرائيل قبل قيامها"، فُسْحَة – عرب 48، 27/05/2016، شوهد في 13/05/2019، في: https://bit.ly/2VM8i4g

 

 

علي مواسي

 

 

شاعر وباحث. يعمل محرّرًا لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس اللغة العربيّة وآدابها. ينشط ثقافيًّا وسياسيًّا في عدد من الأطر والمبادرات. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة" (2016)، صادرة عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع - عمّان.

 

 

التعليقات