15/07/2019 - 13:36

"الثنائي المرح": تراجيديّة الكوميديا

يوسف أبو وردة ومكرم خوري في "الثنائي المرح"

.

لست خبيرة كبيرة في المسرح ولست من روّاده الملحّين، لكن في الآونة الأخيرة قرّرت كسر علاقتي الثنائيّة المركّبة به، حبًّا وكرهًا، وتسنّى لي مشاهدة مسرحيّات عدّة، آخرها مسرحيّة "الثنائيّ المرِح" لعملاقَي المسرح الفلسطينيّ في أراضي 48، يوسف أبو وردة ومكرم خوري، من إنتاج "مسرح المجد"، وإخراج غسّان عبّاس.

ليس هذا التعاون والعمل المشترك الأوّل لخوري وأبو وردة؛ فقد اشتركا في عدد من المسرحيّات والأفلام، وقد أخرج الأوّل بعض المسرحيّات الّتي كان بطلها الثاني، لكنّ هذه الكوميديا الأولى الّتي يتشاركان بطولتها.

 

ممثّلان على الرفّ

النصّ المسرحيّ ليس عربيًّا، بل تُرجم عن مسرحيّة الكاتب الأمريكيّ الشهير نيل سايمون، الّتي رأت النور عام 1972 على "مسرح برودوي"، وعلى الرغم من تعريب النصّ من قبل "مسرح المجد"، إلّا أنّ المُخرج قرّر الحفاظ على الأسماء الأمريكيّة للأبطال، وعلى المكان، مدينة نيويورك، الّتي لا نراها، بل نسمع وقعها ولغط شوارعها برهة، حين يفتح ويلي كلارك (الممثّل يوسف أبو وردة) الشبّاك.

 

يوسف أبو وردة وإياد شيتي

 

قصّة المسرحيّة تدور حول ممثّلَين عجوزَين عملا معًا مدّة 43 عامًا، حتّى اختلفا وانفصلا نهائيًّا. خشونة الحياة وفقرهما، وندرة الأدوار الّتي تُعرض عليهما، أجبرتهما على أن يلتقيا بعد قطيعة دامت 11 عامًا، من أجل المشاركة في برنامج تلفزيونيّ. يعيش ويلي كلارك في غرفة قديمة، أثاثها متواضع، ابن أخيه ووكيله يُدعى بِن (الممثّل إياد شيتي)، وهو يصرف عليه ويُحضر له الطعام والصحف والسيجار ويعزّزه طيله الوقت، أمّا إل لويس (الممثّل مكرم خوري)، فيعيش مع ابنته في نيوجيرسي.

الشخصيّتان تعيشان في عزلة تامّة عن المحيط وعن المسرح وعن النجوميّة، وما ترتّب عليه ذلك من فقر مدقع. تُرجم هذا الفقر من خلال ملابسهما؛ فارتدى إل لويس بدلة يتيمة مهترئة، كان يجب أن ينفض الغبار عنها، ومعه خلاف الماضي بينه وثنائيّه، من أجل حفنة دولارات، ولربّما من أجل لحظة مجد أخيرة، تذكّره بكيانه ونجوميّته وحبّه للمسرح.

أمّا ويلي كلارك، فارتدى بيجامة مقلّمة، لو استطاعت أن تتكلّم لكانت صرخت بملء صوتها: "أرجوك، اخلعني"، وما البيجاما سوى رمزيّة مباشرة لوضعه الحاليّ، ودخوله في حالة السبات العاطفيّ والركود الفنّيّ.

قصّة المسرحيّة تدور حول ممثّلَين عجوزَين عملا معًا مدّة 43 عامًا، حتّى اختلفا وانفصلا نهائيًّا. خشونة الحياة وفقرهما، وندرة الأدوار الّتي تُعرض عليهما، أجبرتهما على أن يلتقيا بعد قطيعة دامت 11 عامًا

وقد أضاف ديكور المسرحيّة بُعدًا آخر وعمقًا، حيث استعمال ألوان قديمة وأثاث قديم توقّف عنده الزمن، مثلما توقّف الزمن عند هذين الممثّلَين اللذين رُكِنا على الرفّ؛ لأنّهما ثنائيّ من الصعب أن ينفصلا أو أن ينجح أحدهما من دون الآخر، لكنّ عنجهيّتهما وقفت عقبة أمام موهبتهما.

 

المضحك المبكي

"الثنائيّ المرِح" كوميديا ساخرة، لكنّها ليست كذلك فقط، بل تراجيديا محزنة ومضحكة في الوقت نفسه.

إنّ العلاقة المركّبة الّتي تربط الشخصيّتين علاقة حبّ وكره، علاقة كبرياء بين عجوزَين يرفضان الاعتراف بأنّهما لا يستطيعان أن ينجحا بلا بعضهما بعضًا، عندما انفصلا فشلا؛ أصبحا عاطلَين من العمل، لكنّ كبرياءهما لم يسمح لهما بالاعتراف لبعضهما بعضًا بالحقيقة المرّة، وهما يكونان بطلين وعملاقين وقصّة نجاح، عندما يستمدّان قوّتهما واحدًا من الآخر، كما في الحياة كذلك في الفنّ؛ يكمل أحدنا الآخر، كلٌّ على حدة بطل غير مكتمل، كلٌّ على حدة مشروع فشل.

على الرغم من أنّي لم أتوقّف عن الضحك، إلّا أنّي بكيت مرّتين؛ العنجهيّة والكبرياء اللّذين ميّزا الثنائيّ ما هما إلّا انعكاس لواقعنا بشَرًا، بأنّنا نرفض الاعتراف بفشلنا ونكابر. تلك المكابرة المشحونة بلحظات حميميّة دافئة، وحبّ، وكره، مسّت بمشاعر الجمهور فصفّق لها طويلًا.

 

مثل رقصة تانغو

امتاز الثنائيّ بأنّ بناء شخصيّتيهما الكوميديّتين لم يكن أمريكيًّا، والمقصود بالأمريكيّ هنا، مثلًا، ثنائيّات "الطويل والقصير"، "السمين والنحيف"، "الذكيّ والغبيّ".

بشكل عامّ، بنت السينما كوميديا الثنائيّات على التناقض الشكليّ والخارجيّ، أمّا هنا، فالشخصيّتان بناؤهما مختلف؛ ذلك الممثّل الّذي كان يومًا نجمًا وما زال يرتدي بدلته اليتيمة القديمة، ويسير بمساعدة عكّاز، ويرفض أن يعترف بأنّه عاجز عن السير من دونها، والآخر الّذي يرتدي بيجامته القديمة ويرفض أن يخرج من المنزل، أو حتّى أن يعترف لنفسه بأنّه ليس فقط عاطلًا من العمل، بل هو مُقعَد عاطفيًّا؛ يثيران الشفقة والتعاطف. العناد والكبرياء صفتان مشتركتان بين ذلكما الممثّلين، أعطتا بُعدًا آخر للمسرحيّة؛ بُعدًا أعمق وأكثر مرحًا وحزنًا في آن واحد.

 

 

الثنائيّ كـ "رقصة تانغو" لا تستطيع أن تمارسها وحدك؛ أنت بحاجة إلى الآخر. المذهل "رقصة التانغو" المحترفة الّتي أدّاها يوسف ومكرم، علاقتهما القديمة وعملهما معًا أعوامًا، أعطيا مصداقيّة للأدوار الّتي قدّماها.

صدّقنا أنّهما عملا معًا 43 عامًا، صدّقنا أنّهما نجما مسرح لأنّهما حقًّا كذلك. إنّ خلط واقع الشخصيّات الحقيقيّة بواقع الأدوار الّتي قدّماها، جعل هذا الثنائيّ متميّزًا عن الثنائيّات الّتي شهدناها في السابق.  

 

محاكاة واقعنا المسرحيّ

المُحزن في الأمر، أنّ المسرحيّة تحاكي واقع مسرحنا الحاليّ، في قلّة الإنتاج والموارد، وابتعاد الشارع عن الفنّ، وعدم استطاعة المسرح الوقوف على رجليه من جديد واستقطاب الجمهور العريض، بل اقتصر على مجتمع المثقّفين وبعض الروّاد القدامى. والمُحزن أكثر، واقع فنّانينا الموهوبين؛ فالممثّلون الفلسطينيّون يُعَدّون من أفضل الممثّلين في العالم العربيّ، لكنّ ظروف التضييق الثقافيّ، وشحّ مصادر التمويل، واتّكال أغلب التمويل في أراضي 48، مثلًا، على وزارة الثقافة الإسرائيليّة، حدّت من انطلاقهم ومشاركتهم في أعمال كبيرة. ممثّلونا يعانون العَوَز والجوع الفنّيّ لأعمال وأدوار، للوقوف على خشبة المسرح أو أمام كاميرات السينما؛ لذا، فهذه المسرحيّة محاكاة لواقع مسرحنا وممثّلينا.

المُحزن في الأمر، أنّ المسرحيّة تحاكي واقع مسرحنا الحاليّ، في قلّة الإنتاج والموارد، وابتعاد الشارع عن الفنّ، وعدم استطاعة المسرح الوقوف على رجليه من جديد واستقطاب الجمهور العريض

أمّا المفرح، فأنّ قاعة المسرح عجّت بالجمهور، حتّى في العرض الرابع لها على التوالي في حيفا. تفحّصتُ الحاضرين بعينيّ الفضوليّتَين، لم يقتصر على فئة سنّيّة محدّدة؛ فروّاده كانوا مراهقين وشبابًا ورجالًا ونساء وكبارًا في السنّ. تنوُّع الجمهور لم يمنع الجميع من الضحك على الطرائف والمواقف الكوميديّة، أو من التماهي مع العجوزين العنيدَين.

لعلّ في هذه التجربة مثالًا على إمكانيّة إعادة ثقة الجمهور بالمسرح، واستجابة المسرح لاحتياجات الجمهور، في زمن التكنولوجيا والتلقّي الفوريّ والاستهلاك السهل.

 

 

سها عرّاف

 

 

كاتبة ومخرجة وصحافية فلسطينية. كتبت سيناريو وأخرجت عددًا من الأفلام، من ضمنها "نساء حماس" و"فيلا توما"، وقد حصلت على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، أبرزها جائزة أفضل مخرجة امرأة في "مهرجان المرأة الدولي للسينما والتلفزيون - لوس أنجلوس" لعام 2014.

 

 

 

التعليقات