21/07/2019 - 11:05

"الفوانيس": شمس غسّان كنفاني تدخل القدس

من مسرحيّة "الفوانيس"

.

بعد مرور خمسة عشر عامًا على الإنتاج الأوّل لمسرحيّة "الفوانيس"، عن رواية "القنديل الصغير" للأديب الفلسطينيّ الكبير غسّان كنفاني، يُعيد "مركز يبوس الثقافيّ" و"معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى" إنتاجها؛ لتكون القدس هذه المرّة الفضاء المعنويّ لهذه المسرحيّة. وقد أُنتجت في المرّة الأولى في مدينة رام الله، من قِبَل "معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى" عام 2004، حين بدأت من فكرة أطلقَتها قبل ذلك بسنوات، مصمّمة الرقصات في "فرقة الفنون الشعبيّة الفلسطينيّة" سيرين حليلة، الّتي اقترحت مسرحة رواية كنفاني، وفعلًا حوّلها الشاعر وسيم الكردي إلى سيناريو مسرحيّ قُدّم إلى الموسيقار سهيل خوري، الّذي قرّر آنذاك تلحين العمل وتقديمه ليكون مسرحيّة غنائيّة، وتبنّى المشروع "معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى"، على الرغم من الإشكاليّات الّتي رافقت إنتاجه، ولا سيّما الظرف السياسيّ وكلفة الإنتاج.

 

افتحوا أبواب القصر

تدور القصّة حول وفاة ملك عادل في إحدى الممالك، ووصيّته لابنته الأميرة بأنّها لن تتولّى مكانه بعده في قيادة المملكة، إلّا إذا حملت الشمس وأدخلتها إلى القصر، وتقوم الأميرة بمحاولات عدّة لحمل الشمس إلى داخل القصر، وتكتشف استحالة هذه المهمّة وتفشل جميع محاولاتها؛ فتحبس الأميرة نفسها داخل غرفة مغلقة، وتصلها رسالة بأنّها لن تجد الشمس داخل غرف القصر المغلقة.

 

 

تعلن الأميرة مكافأة لمن ينجح في تحقيق وصيّة والدها الملك بإدخال الشمس. لم ينجح أحد بمساعدتها، إلّا أنّ عجوزًا يحمل فانوسًا، ومنعه الحرّاس من دخول القصر، أطلق رسالة وصلت إلى مسامع الأميرة، ومفادها: "إذا إنسان ما بيقدر يفوت كيف الشمس بدها تفوت؟". تجتمع الأميرة بحرّاسها ومساعديها، في محاولة لتفسير رمزيّة رسالته؛ ومن هنا تكتشف عمق التواصل مع الناس، وكيف سيؤدّي فتح أبواب القصر أمام شعبها إلى إيجاد الحلّ.

 

مواهب طريّة

جمع هذا العمل المسرحيّ الموسيقيّ جهودًا فنّيّة عديدة، نجحت في خلق مهرجان ثقافيّ مقدسيّ، لربّما يمكن تسميته "مهرجان كنفاني"؛ عرض موسيقيّ غنائيّ راقص في قلب القدس، امتدّت لياليه على مدار أسبوع كامل، نفدت فيه تذاكر جميع العروض. ولربّما يكون هذا العرض من العروض القليلة الّتي نجحت خلال أسبوع كامل بتجنيد حشد كبير من الناس، في "قاعة فيصل الحسيني" في "مركز يبوس".

إلى جانب الإبداع الموسيقيّ الّذي قدّمه ملحّن العمل سهيل خوري، استضاف العمل مجهودات فنّيّة متميّزة؛  إذ شارك مدير "مسرح عشتار" الفنّان إدوارد معلم، والمخرج الكولومبيّ فرناندو نوبي، شاركا في إخراج العمل المسرحيّ. وكانت القيادة الأوركستراليّة للموسيقيّ الفرنسيّ أورليان بلو، أمّا التوزيع الأوركستراليّ فكان للموسيقيّ بشارة الخلّ ابن مدينة الناصرة، ونجح الطاقم الفنّيّ - موسيقيًّا ومسرحيًّا - في التعامل الجادّ مع السيناريو الّذي أعدّه ابن مدينة القدس، وسيم الكردي.

على مدار شهور طويلة، بذلت الطواقم المهنيّة في مؤسّستَي "معهد إدوارد سعيد" و"مركز يبوس"، بذلت جهودًا جبّارة شقّت الطريق لنجاح العمل وتثبيته على خشبة المسرح في القدس. كانت المهمّة تبدو صعبة للغاية للعثور على تلك المواهب من بين أطفال المدينة، خلال فترة محدودة، وإدخال تلك المواهب اليافعة الطريّة إلى نظام تدريبات مكثّف وصارم، يكشف لمراحلهم الصغيرة من العمر عوالم كبيرة من المسرح، ومن الموسيقى وجوانبها الغنائيّة واللحنيّة، وإلى جانب كلّ ذلك تعلُّم الرقص، والتفاعل مع كلّ المركّبات اللوجستيّة المرافقة؛ فقد احتضنت خشبة مسرح "مركز يبوس" الطاقات والمواهب لما يقارب أربعين مشاركًا، من الأطفال والفتيان والفتيات، منهم مَنْ يقوم بدور الملك، ومنهم مَنْ يقوم بدور الأميرة، أو الحارس، أو الوصيفة، أو العجوز، أو الشعب. وبرز في الأدوار المركزيّة نورة ناصر الدين، ومحمّد يغمور، ويوسف صباح، وليث عيد.

 

إدخال الشمس إلى القدس

عوامل مهمّة إضافيّة تجعل عرض "الفوانيس" عرضًا متميّزًا عن سابقه في عام 2004، منها هويّة المكان وهويّة معظم الموسيقيّين في العمل. من حيث هويّة المكان؛ فالعرض يُقام في المدينة المُحاطة بالجدران الّتي تقف سدًّا أمام تواصل الفلسطينيّين مع مدينتهم، ويجعل من عمل كنفاني الروائيّ للأطفال مادّة منسجمة مع قصّة المدينة، وتواصلًا معنويًّا رمزيًّا بين جدران القلعة الّتي تمنع دخول الشمس والناس إليها، وبين المدينة المغلقة بوجه الكثيرين من ناسها؛ وبهذا يكون العمل قد اتّخذ خصوصيّة هويّاتيّة تجاوزت الفعل الفنّيّ نفسه، لكن من دون أن يتهاون في جودة العمل ومهنيّته.

 

 

 أمّا من حيث تميّز الهويّة الموسيقيّة، فإنّ "الفوانيس" فرصة لإحداث مقارنة مفصليّة في الواقع الموسيقيّ الفلسطينيّ، وإلقاء نظرة عميقة عليه. في عام 2004 شاركت مسرحيّة "الفوانيس" ضمن "أوركسترا شباب أوروبّا الوسطى"، بمرافقة موسيقيّة محلّيّة محدودة، على حين تقود عرض عام 2019 "أوركسترا المعهد الوطنيّ للموسيقى"، وهذا فيه إشارة مهمّة ومركزيّة على الشوط الطويل الّذي قطعه المعهد في مشروعه الموسيقيّ؛ مشروع موسيقيّ أحدث نهضة في واقع الموسيقى الفلسطينيّة، وهو مشروع بحجم مشاريع تقودها دول، ولكن بغياب الدولة، فإنّ المعهد يقود المسيرة الموسيقيّة، ممسكة ببوصلة تمتلك إستراتيجيّة ثقافيّة تستحقّ وقفة جدّيّة ومطوّلة، وتستحقّ الاستفادة منها.

 

حدّوتة

يبدأ العرض المسرحيّ ككلّ بدايات "حواديتنا" الشعبيّة؛ تجمّع الأولاد والبنات ليعكسوا صورة من صور الحياة التراثيّة بين ألعاب الأطفال في الحارات، وصولًا إلى الحطّابين والمزارعين، ليتحوّل الفضاء الشعبيّ للمملكة إلى رقصات فيها من المعاصر والفولكلوريّ، تتقدّم مع تقدّم المشهد المسرحيّ والحبكة القصصيّة. اهتمّ السيناريو من جهة والموسيقى والرقص وملابس الممثّلين من جهة أخرى، بتمثيل حركة الشعب وتطلّعاته وجَعْلِه مركزيًّا  في المسرحيّة؛ ليكون البطل الأساسيّ. وكان بعض الأغاني الّتي قُدّمت مستمدًّا من روح التراث، وقُدّمت بتناغم مع السياق القصصيّ وأحداث المسرحيّة، ويمكن أن أذكر أغنية "حقرة بقرة قلّي عمّي عدّ للعشرة"، الّتي خضعت لمعالجة موسيقيّة وغنائيّة مبهرة، ترافقها حركة تجمع الأطفال على المسرح، في حلقات لعب وحوار ورقص. وقدّم العمل أيضًا لمحات قصيرة من الموّال، مع تفاعل ردّات الممثّلين مع المغنى. هي مشاهد تُظهر – في رأيي - تأثير المسرحيّات والإسكتشات الرحبانيّة في فكرة العمل وتنفيذه. لقد عكست الرقصات الّتي صمّمها الموسيقيّ سهيل خوري أيضًا، عكست لغة الالتصاق بالمكان والأرض، حيث برزت من خلال وقع الأجساد، وافتراش أرض المسرح، والشكل الكلّيّ للرقصات من خلال العمل وكلمات أغانٍ مثل "والكلّ بيعرف واجبه ممنوع يرفع حاجبه".

في "الفوانيس" قُدّمت موادّ موسيقيّة شرقيّة وغربيّة، برزت فيها آلات النفخ والإيقاعات، وكان التعامل مع المادّتين الموسيقيّتين بذكاء من حيث الفصل والدمج، بما يخدم السياق والمشهد الحركيّ على المسرح، ولا سيّما هويّة العمل التراثيّة؛ فيمكن المشاهد المستمع أن يلمح إيحاءات من موسيقى العالميّ كورساكوف من جهة، ومن الأوف والميجانا من جهة أخرى، على حين تحدّد القصّة والكلمات الصبغة النهائيّة للعمل؛ إذ ينتهي العمل كما تنتهي قصصنا الشعبيّة كلّها: "توتة توتة خلصت الحدّوتة... حلوة ولّا ملتوتة؟".

 

مقولات خارج النصّ

أحيانًا علينا أن نبتعد عن تحميل النصّ والعمل الفنّيّ أكثر ممّا يحتمل، لكن في "الفوانيس" ثمّة ما يجب الإشارة إليه - وفي رأيي هو من أهمّ ما حمله العمل – إنّه الإيمان بالقدرات الفنّيّة للأطفال، والبناء عليها، والمضيّ معها قدمًا نحو إنتاجات ثقافيّة.

 

 

يقدّم لنا العرض إنتاجًا للأطفال والفتية، ليؤكّد ضرورة الاستثمار الثقافيّ في تنمية أجيالنا الصاعدة، وأنّ ثمّة جيلًا قادرًا على استيعاب نصوص قصصيّة والتفاعل معها إبداعيًّا.

تقدّم "الفوانيس" أيضًا جانبًا مهمًّا آخر، هو الحضور النسائيّ البارز في هذا العمل، حضورًا فنّيًّا أدائيًّا لافتًا للإناث في المسرحيّة، من حيث الأدوار التمثيليّة والأدوار الموسيقيّة، مقابل التهميش الّذي شهده مجتمعنا الفلسطينيّ سنوات طويلة؛ وأدّى - غالبًا - إلى الفصل بين الجنسين، وقولبة الأدوار النسائيّة، وترسيخ الأدوار النمطيّة فنّيًّا ومجتمعيًّا.

 

 

فايد بدارنة

 

 باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.

 

 

التعليقات