08/12/2019 - 17:56

"الهوتة": عندما يتحوّل البيت إلى مقبرة جماعيّة

عامر حليحل في "الهوتة"

 

في عرضها الأوّل، الّذي أقيم في مسرح "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" في رام الله، جسّد الفنّان عامر حليحل شخصيّة باسل في زمنين، أحدهما وهو في سنّ الخامسة عشرة، والثاني في الأربعين من عمره بعد الثورة الّتي أدّت إلى نشوء أحزاب وفصائل وكتائب تتعارك في ما بينها، تحت شعار حماية الوطن ممّن يريدون تخريبه.

"الهوتة" في معناها المعجميّ ما انخفض عن الأرض، وترد في المسرحيّة على أنّها الجورة أو الثقب العموديّ الهائل في الأرض، وحسب ما يتداوله أهل قرية باسل، فإنّ الهوتة في القرية مسكن لغولة، ولا يجرؤ أحد من الاقتراب منها؛ إذ من المعتقد أنّها ستأتيه ليلًا فتأكله إن حاول دخول الهوتة.

وحسب ما يتداوله أهل قرية باسل، فإنّ الهوتة في القرية مسكن لغولة، ولا يجرؤ أحد من الاقتراب منها؛ إذ من المعتقد أنّها ستأتيه ليلًا فتأكله إن حاول دخول الهوتة.

تبدأ مسرحيّة "الهوتة" بسلسلة من المواقف الطريفة، والمفردات الهزليّة، الّتي خلقت نوبات من الضحك في المسرح، فما إن تنتهي واحدة حتّى تبدأ أخرى، إلى أن تصل إلى نقطة مفصليّة يختفي معها الضحك كلّه، وتبدأ الأهوال في الظهور شيئًا فشيئًا، بداية من الثورة المعارضة للحكم، وصولًا إلى الاقتتالات الداخليّة والصراعات الحزبيّة والفصائليّة، الّتي أدّت إلى نهاية مأساويّة، ربّما لم يكن مُتوقّعًا أن تصل إلى هذا الكمّ من التراجيديا عند بداية المسرحيّة.

 

تخبّط

باسل ذو الشخصيّة المهتزّة في قراراته يتأرجح في ظلّ ويلات الحرب، بطريقة فيها من الحظّ الكثير؛ إذ تجري المصادفات به لينتقل من فصيل إلى آخر، تتضمّنها مشاهد دمويّة مأساويّة يخرج منها دون موت، ليستمرّ بشخصيّة الراوي في روايته لهذه المسرحيّة، متحدّثًا عمّا مرّ به مع كلّ فصيل تحت مسمّيات مختلفة وأيدولوجيّات متنوّعة. حظّه في استمراره حيًّا صاحَبته تعاسة جعلته في متغيّرات عديدة، لشكله وشخصيّته وتنوّع استخدامه، ضمن منظومة كلّ فصيل، بالإضافة إلى تعرّضه للموت الوشيك كلّ مرّة.

باسل، رغم أنّه لم يقتل إلّا شخصًا واحدًا مع احتماليّة وجود شخص إضافيّ، إلّا أنّه كان بطلًا مع معظم الفصائل الّتي انتسب إليها، لكنّه كان شاهدًا على دمويّة الفصائل جمعاء ووحشيّتها، دون تبرئة أحد، حتّى الفصيل الّذي رأى فيه أنّه الأقوم، كان الفصيل ذاته الّذي أُعدم داخله.

باسل مثّل حالة من التخبّط الشعبويّ في عدم الاستدلال على إجابة واضحة، أو إجابة تمثّل الحلّ الأنسب لحالة الاقتتال أو الحرب الأهليّة الجارية؛ فكلّ فصيل ينادي باسم الوطن، وأنّه على صواب والآخرين على خطأ، لكن لا أحد يعلم في الحقيقة مَنْ هو على حقّ، وما هو السبيل إلى النهاية. مسيرة باسل مسيرة شعب، يبحث عن الخلاص بين تراكمات الجثث حوله.

 

مصائر مجهولة

تظهر شخصيّة طلال، الأخ الأكبر لباسل والمساند له، في بداية المسرحيّة، لكن طريق طلال تختلف عن طريق أخيه؛ بينما باسل تائه في موالاته للحكم أو معارضته له، يكون طلال وبشكل واضح مع الثورة الّتي تنزل إلى الساحات، منادية باسم المعارضة، غير آبهة لهجوم العسكر. هذه الشخصيّة الّتي تختفي فجأة، تفتح الباب أمام سؤال مفاده: أين طلال؟

باسل، رغم أنّه لم يقتل إلّا شخصًا واحدًا مع احتماليّة وجود شخص إضافيّ، إلّا أنّه كان بطلًا مع معظم الفصائل الّتي انتسب إليها، لكنّه كان شاهدًا على دمويّة الفصائل جمعاء ووحشيّتها، دون تبرئة أحد...

في ظلّ تقلّبات باسل بين الفصائل المختلفة في مسمّياتها وأهدافها وطرقها، يخرج اسم طلال بين الفينة والأخرى، دون إجابة واضحة لمصيره، الّذي يؤجَّل حتّى الأمتار الأخيرة من المسرحيّة، في مشهد لقاء الأخوين، الّذي يجيب وبشكل صارخ عن السؤال.

في المقابل، ثمّة أسئلة كثيرة، منها: أين ليلى؟ وما مصير ابن بلال أو ابنته؟ وماذا حدث مع والدته؟ ولم تجب المسرحيّة عنها، وترك الباب مفتوحًا لنهايات تتضمّن سيناريوهات مختلفة لدى الجمهور، وربّما في ظلّ هذه الحرب كلّها تكون إجابة الموت هي الأسهل، كإجابة معلومة بظاهرها، لكنّها لا تجزم.

 

بركة دمٍ أسود

في استخدام ذكيّ وبسيط لأدوات المسرح، يتفاجأ الجمهور في لحظة بداية الاقتتال أو التصادم بين المعارضة والعسكر، بخيط دم أسود ينسكب على الستارة البيضاء خلف الممثّل، دم استمرّ منذ أوّل نقطة سُكبت حتّى نهاية المسرحيّة، وتزايدت خيوط الدم في غير موضع لتشكّل بركة هائلة على أرضيّة المسرح، بركة دم أسود، في رمزيّة من الممكن أن تُطرح على أنّ هذا الدم بلونه غير الأحمر، هو ليس دم الشهادة المعتادة، أو دم الحرّيّة، بل هي دماء الأخوّة الّتي تتقاتل وتتصارع، دماء الشعب الّذي يقتل بعضه بعضًا.

من ناحية أخرى، لا يفتأ عامر حليحل - وهنا أراه يخرج عن شخصيّة باسل - يذكّرنا بسلسلة الحروب الأهليّة والاقتتالات الداخليّة والحروب الدوليّة بين الحين والآخر؛ إذ يدير ظهره ويذكر في كلّ مرّة ما لا يقلّ عن خمسٍ منها، انطلقت منذ فترة بعيدة، ووصلت حتّى هذا العام، وهي لن تنتهي قريبًا، كخيط دم مستمرّ، ووصمة سوداء في كلّ العصور البشريّة.

 

وراثة الأيدولوجيا

في مسرحيّة "الهوتة"، تخرج افتراضات مسبقة بأنّ الابن يشكّل حالة استمراريّة لأيدولوجيّة الأب؛ فإن كان منتسبًا إلى فصيل معيّن، فإنّ الابن سيمثّل امتدادًا لهذه الفكرة. الأب الّذي جرى تأطيره بانتمائه إلى المعارضة، أورث أحد أبنائه الأيدولوجيّة ذاتها، لكنّ الآخر كان متخبّطًا في زوبعة الأفكار المتعدّدة. واحد اختار بإرادته المطلقة، وآخر ترك الأحداث تسيّره كيفما تشاء.

ثمّة أسئلة كثيرة، منها: أين ليلى؟ وما مصير ابن بلال أو ابنته؟ وماذا حدث مع والدته؟ ولم تجب المسرحيّة عنها، وترك الباب مفتوحًا لنهايات تتضمّن سيناريوهات مختلفة لدى الجمهور...

من ناحية أخرى، تأويلات الناس لهما كانت واحدة؛ إذ من المفترض أن يكونا وريثَي فكرة والدهما، الّذي يظهر في الحقيقة على أنّه لا يحمل أيّ فكرة، بل كان معتقدًا خاطئًا سُكِت عنه. هذه الأيدولوجيّات المتوارثة تمثّل حالة العمى لدى الشعب، الّذي يحاول - إن رأى - أن ينظر من خلال فتحة ضيّقة، وتشكّل انسياقًا أعمى دون وعي بالمشكلة الكبرى.

"الهوتة"، بيت الغولة، الّذي استطاع باسل دخوله في الخامسة عشرة، ومعرفة حقيقته الّتي كانت خاطئة قبل ذلك، بيت وديع وساحر رغم اسمه المخيف، بيت مليء بالحمائم، بيت موسيقاه هديل وماء منسكب على جوانبه، بيت تحوّل في ظلّ وحشيّة البشر إلى مقبرة جماعيّة، فصارت الوداعة موحشة، واستعاد الاسم حقيقته المُرّة، واختفت الحمائم واستُبدلت بها الجثث، وأنين المصابين على حافّة الموت، ومن بعيد تنظر الغولة إلى هذا المنظر خائفة، في انعكاس للمفاهيم.

 


 

أحمد جابر

 

 

 

قاصّ وكاتب من فلسطين. حاصل على الماجستير في هندسة الطرق والمواصلات. حائز على جائزة مؤسّسة عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ 2017، عن مجموعته القصصيّة "السيّد أزرق في السينما".

 

 

التعليقات