08/12/2019 - 16:11

الاحتفاء الّذي يستحقّه فرانسوا

الاحتفاء الّذي يستحقّه فرانسوا

الراحل فرانسوا أبو سالم

 

اختتم "المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتيّ"، الأسبوع الماضي، احتفاليّته الخاصّة لمرور خمسة وثلاثين عامًا على تأسيسه، وقد جعلها مناسبةً للاحتفاء بالشخصيّة المؤسِّسة للمسرح، الراحل فرانسوا أبو سالم.

من المرجّح أنّ الكثير من الفلسطينيّين والعرب لا يعرفون سيرة المسرح الفلسطينيّ، وبالتالي تبقى قصّة فرانسوا بطل هذا المسرح مجهولة للكثيرين، لكنّ المتابع لكتابات المسرحيّين عن فرانسوا سيلاحظ حالة العشق والشغف بهذه الشخصيّة.

 

احتفاء نوعيّ

إنّ الكتابة عن فرانسوا وتأسيس المسرح، فتفتح بابًا للتساؤلات حول أرشفة الإنتاج الثقافيّ الفلسطينيّ وتوثيق المساهمات الثقافيّة، أشخاصًا وأعمالًا، في الحيّز العامّ. ليس المراد تحويل تلك المساهمات إلى مادّة معلوماتيّة توثيقيّة فحسب، بل إلى مادّة محفّزة للإنتاج؛ مادّة فاعلة ملهمة لخلق واقع ثقافيّ جدّيّ ونوعيّ. حالة فرانسوا تشكّل نموذجًا لمحطّة نهضويّة في المسيرة الثقافيّة الفلسطينيّة، بصفتها نموذجًا يمتلك مادّة زخمة تستحقّ التوثيق.

اختار المسرح الاحتفاء بخمسة وثلاثين عامًا على تأسيسه عن طريق "الالتقاء" بمؤسِّسه الفرنسيّ – الفلسطينيّ، عبر تقديم عمل مسرحيّ جديد يتناول سيرته؛ عمل نوعيّ جادّ يتعامل مع السيرة الذاتيّة بعقليّة وذهنيّة مسرحيّة متطوّرة وديناميكيّة.

يمكن أن نَعُدّ المبادرات المسرحيّة للاحتفاء بإرث فرانسوا شكلًا من أشكال توثيق مساهمته، والمبادرات النوعيّة في رأيي في هذا السياق، هي الّتي تبتعد عن الخطابيّة، وتذهب نحو تنظيم أنشطة مسرحيّة، والأكثر نوعيّة تلك الاحتفاءات الّتي تذهب نحو إنتاجات مسرحيّة جديدة. وهذا ما كان في احتفاليّة "الحكواتيّ"، إذ اختار المسرح الاحتفاء بخمسة وثلاثين عامًا على تأسيسه عن طريق "الالتقاء" بمؤسِّسه الفرنسيّ – الفلسطينيّ، عبر تقديم عمل مسرحيّ جديد يتناول سيرته؛ عمل نوعيّ جادّ يتعامل مع السيرة الذاتيّة بعقليّة وذهنيّة مسرحيّة متطوّرة وديناميكيّة.

 

حماية أكسجين الفضاء المسرحيّ

لم يكن فرانسوا فلسطينيًّا؛ فقد وُلد في فرنسا لأبوين فرنسيّين، انتقل مع والده بداية السبعينات إلى القدس، وهناك بدأت مشاكساته المسرحيّة. عام 1977، بدأ مشروعه الكبير بتأسيس مسرح "الحكواتيّ" في القدس، لتكون هذه الخطوة واحدة من أهمّ المحطّات في تاريخ الحركة المسرحيّة الفلسطينيّة الحديثة، وقد غدا "الحكواتيّ" رائدًا لها في البلاد. وفي عام 1984، حوّل فرانسوا مع رفاقه المسرحيّين "سينما النزهة" إلى مقرّ للمسرح، وأذكر من رفاقه إدوارد معلّم، وعامر خليل، وراضي شحادة، وآخرين. إنّ تأسيس حركة مسرحيّة في الواقع الفلسطينيّ يُعَدّ بمنزلة مساهمة مفصليّة في البنية الثقافيّة الفلسطينيّة، نهضويّة وديناميكيّة؛ بمعنى أنّها تمتلك مقوّمات لتتطوّر ولتتفاعل، تشهد مدًّا وجزرًا، وهي تقاتل في أسوأ الظروف، من أجل حماية أوكسجين الفضاء المسرحيّ.

لم أعرف فرانسوا، ولم ألتق به، لكن لاحقًا تذكّرت الخيوط البعيدة الّتي تربطني به، لأكتشف أيضًا أنّه من الشخصيّات الّتي أسهمت في صقل طفولتي، واكتشاف عالم المسرح. كانت تلك بداية الثمانينات حين زارنا "الحكواتيّ" في قرية عرّابة في الجليل. كنت في المرحلة الابتدائيّة، حين نُصِبَتْ منصّة خشبيّة في ساحة المدرسة. كانتا أمسيتين أو ثلاثًا، لا أذكر إن كانت متفرّقة أو متتالية، لكنّني أتذكّر بكلّ تأكيد مسرحيّتَي "جليلي يا علي" و"محجوب محجوب" اللتين أخرجهما فرانسوا.

 

مسرحيّات فرانسوا في عرض واحد

لحسن حظّنا ثمّة مسرحيّون ما زالوا يتمسّكون بالتراث المسرحيّ لفرانسوا؛ وبفضل هذا التمسّك عمل "الحكواتيّ" على إخراج عمل مسرحيّ جديد، يحاول تفكيك المسيرة الذاتيّة لفرانسوا، ومحاولة فهم خريطة أعماله، ومن خلال هذه المحاولات ينجح المسرح بتعريف المشاهد على هذه الشخصيّة المركّبة، ويُقدّم مختصرًا لمسرحيّاته في عرض واحد، في حين يسهب - وبصورة مثيرة للإعجاب - في جعل مسرحيّة "كفر شمّا"، ومن خلال نفس العمل، روايةً لمسارحنا، وروايةً لفرانسوا، بل أن تكون روايتنا جميعًا.

أن تكون مسرحيًّا ومخرجًا ومنتجًا لعمل مسرحيّ يتناول سيرة ذاتيّة لشخصيّة مسرحيّة مقرّبة، لا يشكّل ضمانًا لإنتاج عمل ناجح يبتعد عن الكليشيهات، والخطابات، والشعارات، والمديح، الّتي قد نقع في مطبّاتها بمحاولتنا توثيق هذه الشخصيّة...

قبل الخوض في تفاصيل العمل المسرحيّ، لا بدّ من أن أتطرّق إلى الجودة الّتي تكرَّم فيها شخصيّة مركزيّة، أو يوجَّه إليها تحيّة، من خلال الأعمال الفنّيّة المتعدّدة. في النموذج الحاليّ، أَقْدَمَ الإنتاج على دراسة معمّقة للأعمال الّتي مرّ على إنتاجها ما يقارب الثلاثين عامًا.

لا بدّ من أنّ القائمين على هذا العمل بحثوا عن قصاصات الورق والصور والملفّات القديمة، الّتي يمكن من خلالها رسم تصوّرات وبناء عالم مسرحيّ لفرانسوا. أن تكون مسرحيًّا ومخرجًا ومنتجًا لعمل مسرحيّ يتناول سيرة ذاتيّة لشخصيّة مسرحيّة مقرّبة، لا يشكّل ضمانًا لإنتاج عمل ناجح يبتعد عن الكليشيهات، والخطابات، والشعارات، والمديح، الّتي قد نقع في مطبّاتها بمحاولتنا توثيق هذه الشخصيّة؛ فالحكمة تكمن في أن يفلح المخرج أو أيّ جهة فنّيّة أخرى، في انتقاء المحطّات الحياتيّة القادرة على التداخل والاشتباك في العمل الفنّيّ، أمور من شأنها أن تقدّم عملًا فنّيًّا نوعيًّا، وتحافظ على تماسكه حتّى نهاية العرض، وتُبقي لدى المشاهد نكهة التجربة المسرحيّة بعد انتهاء العرض.

 

"عودة كفر شمّا"

هذا العمل الجديد الّذي ظهر من خلال تعاون بين مسرح "Suite 42" في برلين و"الحكواتيّ"، نبش أعمال فرانسوا أبو سالم منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، وقد قاد هذا المسار الشاقّ صديقا فرانسوا، عامر خليل مدير "الحكواتيّ" حاليًّا، وليديا زيمكي، مخرجة العمل.

صناديق خشبيّة هي الديكور المركزيّ على المسرح، صناديق رمزيّة، تشبه التوابيت، تضعنا أمام حالة الانتحار والفقدان. وفي كلّ صندوق سنكتشف تفصيلًا جديدًا عن فرانسوا، يقودنا إلى أحد أعماله الممتدّة على ما يقارب خمسة وعشرين عامًا، ويشتبك هذا التفصيل مع نصوص ما قبل وما بعد؛ في محاولة لتجميع بازل قد يساعد في فهم نهايته التراجيديّة.

كانت عودة أهالي كفر شمّا قصّة وقضيّة، ذاك العمل الّذي أخرجه فرانسوا عام 1987، وها هو العمل المسرحيّ عام 2019 يُعيد تقديم قضيّتها، من خلال بناء مسرحيّ ذكيّ يستعين بالمسرح الساخر، وبالموسيقى، وبالغناء، وباللغات، كأدوات تؤدّي دورًا نوعيًّا في ديناميكيّة العمل

تشكّل قرية كفر شمّا محور المسرحيّة وعمودها الفقريّ، ومنها تنطلق تشعّبات لمحطّات فرانسوا؛ فهي القرية الفلسطينيّة المهجَّرة الّتي تشرَّد أهلها في كلّ أنحاء العالم. وقصّة كفر شمّا، أهاليها وحلم عودتهم، هي أيضًا مسرحيّة فرانسوا الّتي تجوّلت في العالم، وكانت بمنزلة سفير ثقافيّ فلسطينيّ إلى أوروبّا وأمريكا. والعمل يُقَدّم بأسلوب ساخر المواجهة الفلسطينيّة مع الرأي العامّ الرسميّ والإعلاميّ المجنَّد لصالح الرواية الصهيونيّة، وفي هذه المواجهة، تظهر - في مواقف متعدّدة - شخصيّة الزعيم الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات، كأنّها كابوس للسياسات الغربيّة وإعلامها.

يذهب الإعلام الرسميّ الغربيّ للربط بين الرسالة السياسيّة والفنّيّة للمسرح من جهة، والإرهاب من جهة أخرى؛ لأنّهما ذوا هويّة فلسطينيّة مشتركة. ولم تتجنّب المسرحيّة تقديم استعراض هزليّ نقديّ لاذع لحقبة أوسلو، في إشارة إلى النكسات الّتي تلقّاها المسرح في علاقته بالثوريّ والسياسيّ؛ وهي هنا علاقة تستحقّ التوقّف عندها، ودراستها في النواحي الثقافيّة كافّة.

كانت عودة أهالي كفر شمّا قصّة وقضيّة، ذاك العمل الّذي أخرجه فرانسوا عام 1987، وها هو العمل المسرحيّ عام 2019 يُعيد تقديم قضيّتها، من خلال بناء مسرحيّ ذكيّ يستعين بالمسرح الساخر، وبالموسيقى، وبالغناء، وباللغات، كأدوات تؤدّي دورًا نوعيًّا في ديناميكيّة العمل.

 

مواجهة البطل

إنّ الطاقم الفنّيّ من الممثّلين يتنقّل في أنحاء خريطة فرانسوا، في حقب مختلفة من الانتفاضة الأولى إلى أوسلو، وصولًا إلى انتحاره من على سطح بناية في مدينة رام الله. وفي هذا السياق، لم يتردّد النصّ المسرحيّ في مواجهة موت فرانسوا، في معاتبته والصراخ في وجهه بعيدًا عن التهذيب والمواساة، تمامًا كما هو مفترَض من المسرح أن يكون أيضًا منصّة لجدليّة الحياة والموت.

لم يتردّد النصّ المسرحيّ في مواجهة موت فرانسوا، في معاتبته والصراخ في وجهه بعيدًا عن التهذيب والمواساة، تمامًا كما هو مفترَض من المسرح أن يكون أيضًا منصّة لجدليّة الحياة والموت

كان للمشاركة الألمانيّة من حيث الإخراج والتمثيل، عبر فالنتاين شميل ولوسي أليسون، بصمة نوعيّة في جدّيّة العمل تُضاف إلى طاقات مسرحيّة رائعة لطاقم الممثّلين الفلسطينيّين: مريم الباشا، وميس عاصي، وعلاء أبو غربيّة، وعامر خليل، ومحمّد الباشا.

وإن تجنّبت الخوض في كلّ تفاصيل البناء المسرحيّ للعمل، فإنّ ثمّة أهمّيّة للحضور المكثّف للتفاصيل والمشاهد، وعلى الرغم من هذا التكثيف، فقد كانت النتيجة مبهرة حقًّا.

في احتفاليّة 35 عامًا على "الحكواتيّ"، قُدِّمَتْ مسرحيّات وأنشطة متعدّدة، أذكر منها عرض مسرحيّة "طه" لعامر حليحل، ومسرحيّة "هادية" لشادن سليم وإنتاج "قدس آرت"، إضافة إلى ورشات وحوارات وقراءات عن المسرح. اخترت التوقّف مطوّلًا عند هذا العمل الأبرز في تلك الاحتفاليّة؛ لأنّه تعبير وتجسيد لها إلى حدّ كبير.

 

 

فايد بدارنة

 

باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.

 

 

التعليقات