25/02/2020 - 20:57

"المتحف ": أفضل مَنْ تقضي ليلتك الأخيرة معه، صديق يشبهك

الممثّلان رمزي مقدسي وهنري أندراوس

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"النهر الّذي يجرف كلّ شيء يوصف بالعنف، لكنّ أحدًا لا يصف الضفاف الّتي تحصره بالعنف".

- برتلوت بريخت -

 

قدّم لنا مسرح "خشبة" في حيفا في موسمه الأخير، عملًا مسرحيًّا بعنوان "المتحف"، من إخراج بشّار مرقص، والّذي ستتجدّد عروضه خلال نيسان (أبريل) القادم، في فلسطين وأوروبّا. أحاول في هذه المادّة تقديم قراءة في بنية العمل ومضامينه، وتحديدًا سؤال اختيار الإرهابيّ للمحقّق ليقضي مع الأخير ليلته الأخيرة قبل إعدامه.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

مسرح بريختيّ

يستحضر العمل بقوّة المسرحيّ برتلوت بريخت، من حيث الشكل والمضمون، ويمكن تلمّس تقنيّات عديدة مرتبطة بتنظيره الدراميّ؛ إذ يؤمن بريخت بالدور التثقيفيّ للمسرح ورسالته الاجتماعيّة والسياسيّة، بينما يمقت الدراما الّتي تسأل التماهي والتماثل مع الشخصيّات، تكريسًا لرباط عاطفيّ بين الشخصيّة والمشاهد، ما يُعيق قدرة المشاهد على التفكير النقديّ.

يؤمن بريخت بالدور التثقيفيّ للمسرح ورسالته الاجتماعيّة والسياسيّة، بينما يمقت الدراما الّتي تسأل التماهي والتماثل مع الشخصيّات

يقوم المسرح البريختيّ على التحفيز الذهنيّ، دون أن يعقد علاقة عاطفيّة بالمشاهد، بل يقوم بتغريبه عن الأحداث الدراميّة بهدف خلق مسافة داخليّة وخارجيّة، تمنح المشاهد فرصة للتأمّل والتفكير والتأثّر بالدراما، سعيًا نحو خلق تغيير مُحتمل خارج جدران المسرح؛ وهذا بخلاف الدراما الكلاسيكيّة المرتبطة بأرسطو، ولاحقًا المسرحيّ ستانيسلافسكي، الّتي تعتمد محاكاة الواقع ومبدأ التطهير وصولًا إلى مبدأ إغراق المشاهد في الوهم الدراميّ؛ فتشبع الحواسّ بينما يختنق العقل.

إذن، انتهاج الأسلوب البريختيّ وما يتضمّنه من تقنيّات، واتّباعه بدقّة، هو الإطار الناظم للعرض ومضمونه. ثمّ إنّ هذا الإطار الناظم قد يكون المبرّر في النزعة التلقينيّة والتثقيفيّة للعرض، المتمثّلة بفائض نصّ نثريّ، حوارًا وسردًا، مقابل انعدام شبه تامّ لمشاهد مجازيّة.

 

انتهى التحقيق، ولكن...

انتهى التحقيق منذ سنوات، ومع انتهائه، كان على العلاقة "الرسميّة" الّتي تجمع بين الإرهابيّ والمحقّق أن تنتهي أيضًا، لكن ها هما، أمامنا على الخشبة، تجمعهما ليلة أخيرة؛ ليلة أخيرة، حميميّة، غرائزيّة، يجتمعان في جماع مازوخيّ وساديّ، ليلة انتظرها المحقّق بذات القدر والتوق الّذين انتظر بهما الإرهابيّ.

"كيف تذكّرتني بعد كلّ هالسنين؟"، "ليش أنا مش حدا من عيلتك مثلًا؟".

لماذا هو؟ يسأل المحقّق، لماذا يطلب الإرهابيّ إمضاء ليلته الأخيرة برفقته؟ الليلة الأخيرة قبل إعدامه. يمرّ السؤال بمراحل مختلفة طوال العرض، حيث يبدأ من محاولة استفهام حقيقيّة، مرورًا بمستويات إدراك مختلفة لدى المحقّق، منها إدراكات جزئيّة ومحاذية للوعي، وصولًا مع انتهاء العرض إلى مرحلة السؤال الاستنكاريّ؛ أي أنّ السؤال قد اتّخذ هيئة إجابة عند نهاية العرض، إجابة صارت حقيقة مُدْرَكَة لدى المحقّق، وربّما أيضًا لدى المشاهدين. وتماشيًا مع العرض، سأضع الإجابة بأشكال مختلفة على مدار هذا النصّ. انتهى التحقيق، لكنّ أسئلة كثيرة ما زالت تنهال من فم المحقّق لتُعيد إحياء الملفّ.

 

"بدم بارد"!

قتل الإرهابيّ 49 طفلًا ومعلّمة - ربّما يُحيلنا هذا الرقم إلى سنة 1949، الّتي حملت معها تحوّلات سياسيّة وثقافيّة مفصليّة - قتلهم في أثناء زيارتهم لمتحف ضمن رحلة مدرسيّة، قتلهم "بدم بارد" حسب قول المحقّق، وفي أثناء العمليّة كان يصرخ: "تكبروش، خلّيكو صغار"!

أن تقتل طفلًا بـ "دم بارد" تعبير عقيم وعديم القيمة، ومتى يكون قتل طفل بغير دم بارد؟ متى يكون فعلًا رزينًا؟ متى يكون هادفًا؟ إنّ قتل الأطفال، اعتُبر - وربّما ما زال يُعتبر - من أبشع الجرائم الإنسانيّة، جريمة من صنع الشرّ

أن تقتل طفلًا بـ "دم بارد" تعبير عقيم وعديم القيمة، ومتى يكون قتل طفل بغير دم بارد؟ متى يكون فعلًا رزينًا؟ متى يكون هادفًا؟ إنّ قتل الأطفال، اعتُبر - وربّما ما زال يُعتبر - من أبشع الجرائم الإنسانيّة، جريمة من صنع الشرّ، ولا يتقبّلها أو يغفر لها البشر، أو هكذا يُقال.

يطلب منّا العرض ألّا نرتبك، بل أن نعي ونكون على يقين بأنّ هذا الرجل الّذي أمامنا ارتكب جريمة قذرة جدًّا، لا بطولة فيها ولا مجد، وهذا بخلاف ما يعتقده الإرهابيّ، بأنّ فعلته ستُخَلَّد وتُمَجَّد وتُتذوَّق مثل الأعمال الفنّيّة في "المتحف"؛ لذلك لا نراه يستجدي عطفًا ولا تعاطفًا ولا رحمة، بل يحافظ على برود وشيء يشبه اللامبالاة وعدم الاكتراث لمصيره المحكوم بالإعدام.

 

غيرة

أمّا المحقّق، فبدايةً نتلمّس احتقاره للإرهابيّ، غضبه وسخطه عليه، وقد ننسب كلّ ذلك للوهلة الأولى إلى الزعزعة الّتي أحدثها الإرهابيّ في جهازه الإنسانيّ، وأن نعزو ذلك أيضًا إلى الصعقة الّتي نزلت على أبوّته، ثمّ تمزّق ذلك الوهم القديم المقدّس بأنّ الآباء قادرون على حماية الأبناء.

قد يُخَيَّل إلينا بدايةً أنّ المحقّق مدفوع من خلال هذا التعصّب وهذه الغيرة على تماسك الطفولة وسلامة الأطفال، لكن، مع الوقت، يصوّب الإرهابيّ فرشاته على المحقّق، يوسّع حدود لوحته الفنّيّة، ويورّط المحقّق المتورّط منذ البداية، إذ يرتدي عباءة الطاغية المتمثّلة بالسلطة/ بالمؤسّسة/ بالدولة/ بالنظام. ما كان يظهر عند المحقّق على أنّه غيرة على الطفولة والإنسانيّة، يتجلّى سريعًا على أنّه لون من ألوان الغيرة من قدرة الإرهابيّ على أن يقتل، أن يبطش، أن يعدم الحياة، أن يمارس أكثر الغرائز عدميّة بالعراء ودون خجل، دون حاجة إلى تغليفها أو تغطيتها، أو مرورها في عمليّة تسامٍ كاذبة مصطنعة مدفوعة بعجلات الحداثة والحاضر (Sublimation)، ثمّ منحها حجّة النظام/ الدولة، أو تدويرها داخل منطق النظام والتنظيم المجتمعيّ.

 

اللعبة

يسأل المحقّق الإرهابيّ عمّا دفعه للقتل، فيقول إنّه "في حالة حرب". يشنّ حربًا على ماذا؟ على مَنْ؟ يتساءل المحقّق ثمّ يواصل بأنّ للحرب ملامح واضحة، وبأنّ الأطراف المتنازعة في الحرب عادة ما تعي أنّها في حالة حرب، وأنّ ثمّة منطقًا داخليًّا يحكم الحرب. ما يقوله المحقّق، أنّ الحرب لعبة تُلعب وفق قوانين النظام، ولا ينبغي أن تُلعب إلّا وفقًا لها.

يلعب الإرهابيّ لعبة مختلفة، ولعبته خارج منطق النظام؛ وهذا مُعطًى كافٍ لإثارة حفيظة النظام وممثّليها. هو يتلاعب بالمحقّق ويغازل شهوانيّته للعنف...

لكن، كما يظهر، يلعب الإرهابيّ لعبة مختلفة، ولعبته خارج منطق النظام؛ وهذا مُعطًى كافٍ لإثارة حفيظة النظام وممثّليها. هو يتلاعب بالمحقّق ويغازل شهوانيّته للعنف، يداعب شوفينيّته من خلال استحضار أهمّ الثوابت في تكوين النظام وأهمّ حصن لها، ألا وهي العائلة بمفهومها المؤسّساتيّ، ثمّ زعزعتها، فيستشيط المحقّق غضبًا، فيكشّف عن أنياب حادّة طويلة عنيفة، متجذّرة عميقًا عميقًا بين فكّيه.

 

نموذجا الشرّ

يمثّل المحقّق والإرهابيّ نموذجين للعنف أو للشرّ، وفي هذه المادّة، لن يكون ثمّة فصل بين الأفعال العنيفة/ الشرّيرة عن الكينونة العنيفة/ الشرّيرة. ربّما يستحضر المحقّق في أذهاننا ما ذهبت إليه حنّة أرندت، حول محاكمة آيخمان، حيث تتمثّل "تفاهة الشرّ" بشخصيّة آيخمان العاديّة؛ آيخمان موظّف بيروقراطيّ نفّذ أمرًا تلقّاه "من الأعلى"، فكانت نتائجه مرعبة، وهو - حسب أرندت - لم يكن يشبه المنحرفين أو الساديّين، وقد استبعدت أن يكون يتلذّذ من قتل الآخرين وإفنائهم، بل رجّحت أنّه مجرّد إنسان عاديّ جدًّا، وتوصّلت إلى استنتاج أنّ معضلة آيخمان تكمن في انعدام قدرته على التفكير في الأوامر الّتي نفّذها، وفي أنّ النظام النازيّ كان يسوقه لتنفيذ ما نفّذه.

أمّا الإرهابيّ، فيمثّل نموذج العنف المجاور للشرّ المُطلق، وهنا ربّما يُستحضَر في أذهاننا نموذج الشرّير، الّذي يقوم بأفعال شرّيرة لا غاية منها سوى ذاتها؛ التلذّذ بالشرّ لأجل الشرّ، والتمتّع بمرأى لطخات الدم على الجدران وسيلانه، والتلذّذ بإعدام الحياة، بإفنائها.

الشرّ عمليّة خلق عكسيّة تُفضي إلى الفوضى، إنّها عمليّة خلق عقيمة وجوفاء، لا ينتج عنها شيء سوى العدم، إنّها عودة إلى صفاء اللاشيء وطهارته.

وإذا بسّطنا الأمور، استنادًا على فلسفة قديمة، يرادف الشرّ العدم والفناء أحيانًا كثيرة، وعدم القدرة على أن تزدهر وأن تنبض شرايينك بالحياة، بينما يرادف الخير القدرة على الخلق والإنتاج. الشرّ عمليّة خلق عكسيّة تُفضي إلى الفوضى، إنّها عمليّة خلق عقيمة وجوفاء، لا ينتج عنها شيء سوى العدم، إنّها عودة إلى صفاء اللاشيء وطهارته. يبحث الشرّ عن النقاء والطهارة، ولا شيء أنقى وأطهر من العدم. يهزأ الشرّير من محاولة البشر إيجاد معنًى لحياتهم، يهزأ من الجدّيّة الّتي يعزوها الإنسان إلى قيمة حياته ومعانيها. يسعى الشرّ إلى هدر الحياة، إلى تقويضها وإحالتها إلى عدم ولا شيء، ولا غاية للشرّ سوى نفسه، هذه غايته الأولى والأخيرة.

يعقّد "المتحف" نموذجَي الشرّ المطروحَين في الأعلى. إرهابيّ "المتحف" يقتل الأطفال، وفي اعتقاده فإنّه يؤبّد طفولتهم، أي يجمّد أطهر لحظات الإنسان وأكثرها نبضًا بالحياة، ويُحيلها إلى لوحة فنّيّة؛ يُفني الحياة لغرض فنّيّ، الخلق عنده يرادف العدم، القبح والبشاعة يرادفان الجمال، والنقاء والطهارة يرادفان الفناء. هذا هو تعريف الشرّ.

 

النظام

محقّق "المتحف" لا يستطيع التفكير، يسأل كثيرًا ولا يلقى إجابات، يظهر كأنّه مُساق لممارسة العنف، تسوقه نزعته الفطريّة، مثلما يجرّه الإرهابيّ إلى ممارسته أيضًا. لكنّ محقّق "المتحف" لا يمثّل فقط المُعَنِّف البيروقراطيّ، بل يمثّل نظامًا مستبدًّا بأكمله.

يبدو أنّ "المتحف" يقول لنا، خلافًا لما لمسته أرندت حول "عاديّة" آيخمان، إنّ ممثّلَي النظام، مثل النظام نفسه، يستلذّان بالقتل والتعنيف، وإنّ الإعدام بواسطة الإبرة، رغم تكنولوجيّته العالية ونظافته، يحمل ذكرى المشنقة والسيف ببشاعتهما وبدائيّتهما، وقد وقعت الجريمة داخل البيت الوطنيّ لمخلّدات النظام، "المتحف" وسرديّاته.

يعقّد "المتحف" نموذج الإرهابيّ بتقديمه شرًّا مطلقًا غايته الأولى والأخيرة فعل الشرّ، لكن يجرّ معه أضرارًا جانبيّة، أو بصياغة أدقّ؛ يصاحب الجريمة الّتي قام بها الإرهابيّ جمال جانبيّ/ عرضيّ، وهو كشف عنف النظام وفضح بدائيّته

يعقّد "المتحف" نموذج الإرهابيّ بتقديمه شرًّا مطلقًا غايته الأولى والأخيرة فعل الشرّ، لكن يجرّ معه أضرارًا جانبيّة، أو بصياغة أدقّ؛ يصاحب الجريمة الّتي قام بها الإرهابيّ جمال جانبيّ/ عرضيّ، وهو كشف عنف النظام وفضح بدائيّته، وربّما هذا هو جوهر اللوحة الفنّيّة؛ فنرى الإرهابيّ يرفع ضوء الفلورسنت في الدقائق الأخيرة للعرض، كأنّه يعلن إتمام مهمّته وإنهاء اللوحة.

ليس ثمّة بطولة في القتل، ولا مجد، ولا فنّ، ولا شيء سوى اللاشيء، هذا على الأقلّ من وجهة نظري. لكن يبدو أنّ "المتحف" له مقولة حول الشرّ، وهي تكمن في أنّ الشرّ الّذي يجب الالتفات إليه ومحاربته اليوم، قبل كلّ الشرور، هو ذلك الشرّ الّذي يعيثه النظام؛ ولهذا السبب دُعِي المحقّق، فنهايةً، مَن أفضل مَنْ صديق قديم/ جديد يشبهك وتشبهه، يفهمك ويراك على حقيقتك؛ لإمضاء ليلتك الأخيرة معه؟

 

 

تمارا ناصر

 

 

دارسة للأدب الإنجليزيّ، والسينما، وعلم النفس. حاصلة على شهادة علاجيّة ولقب ثانٍ من جامعة حيفا في البيبليوترابيا - العلاج بالقصّة، والقراءة، والكتابة.

 

 

 

التعليقات